الدوحة: تصنع السلام من شظايا العدوان
تاريخ النشر: 28th, June 2025 GMT
1 حين برقت سماء قطر، وأرعدت وضجت الصواريخ والقاذفات على أرضها، ما ارتعدت أوصالها، ولا انفكت عزائم أهلها.. وكيف لا؟ وقد ذاق أهل قطر من قبل مرارة الغدر، حين حاصروا أرضها وسمائها، فما وهنت عزيمتهم، ولا خارت قواهم، بل صمدوا وكسروا الحصار فانتصرت إرادتهم، ولم يخنعوا أو يساوموا على سيادتهم.
ها هي ذات السماوات بالأمس تستقبل غدر الأصدقاء والحلفاء ، تجرع أهل قطر مرة أخرى ظلم ذوي القربى، وهو أشدّ مضاضة.
2
ثمانية عشر صاروخًا ضجت بها سماء وليالي الدوحة المترعة بالثقافة والفن والرياضة، والمنتديات العامرة بالفكر والحوارات الثرية. الدوحة هي الواحة الفريدة التي تعيش على أرضها مطمئنًا على نفسك ومالك وأهلك، لأن أهلها لا يخونون ولا يغدرون ولا يعرفون معنى للفسالة، كرماء حد الدهشة، يعبق حديثهم دائمًا بسمح القول، وهو بعض من طيب عطور روائحهم الزكية.
3
هذه هي المرة الثانية التي أشهد فيها أزمة كبرى في تاريخ قطر. وقتها كنت مديرًا لجريدة “لوسيل الاقتصادية” وعلى مقربة من الأحداث والمسؤولين. في تلك الأيام، عرفت معدن القطريين وأي رجال هم، صبر وصمود وثقة بالنفس لا تعرف الحدود. يومها، وفي العام 2017، فجأة وبلا مقدمات، وجدت قطر نفسها داخل صندوق حصار مُطبق. وما كانت تظن يومًا أن كهذا سيأتي ويكون ذلك جزاء إحسانها لجوارها، أو أن يتجرأ الأهل والدماء ذاتها في العروق أن يفعلوا ما فعلوا. (وأنت يا سيدي ما زلت تومئ لي.. أن الطريق بهذا الجب يتصل.. إذن فباسمك أنت الآن أسألهم… إلى متى هذه الأرحام تقتتل؟).
بعد وقت وجيز، استوعبت قطر الصدمة، ودارت عجلة الدولة، وتصرفت بصورة مدهشة ورباطة جأش عرف بها أهلها. فتجاوزت المحنة بأقل الخسائر، بل حولت النقمة إلى نعمة، وطنت صناعاتها الوطنية، فأفتتحت المصانع، وازدهرت تجارتها، وانفتحت على العالم كما لم يحدث من قبل.. فما ضروها إلا أذى.
4
الذي استوقفني بالأمس ونحن نشهد هذا العدوان الإيراني الذى تقول ايران انها استهدفت به القاعدة الامريكية وليست قطر ولكن تلك القاعدة في دولة قطر وهو فعل لا يمكن التسامح معه من الجانب القطرى لأنه عدوان على سيادتها أيا كان المستهدف.حين تم اغتيال السيد هنية في الاراضي الايرانية اعتبرت إيران ان ذلك اعتداء عليها وعلى سيادتها وان كان المستهدف به قيادة حماس.!! .
قلت إن ما استوقفني هو ردة فعل السلطات والمسؤولين بدولة قطر، ترتيب مدهش، سرعة في اتخاذ الموقف والقرار، ذكاء في التعامل مع الحدث. إليكم الحكاية التي شاهدتموها، وأسجلها هنا للتاريخ.
قبل ساعات من الضربة الغادرة، أعلنت السلطات إغلاق أجواء قطر أمام حركة الطيران، وتبع ذلك مخاطبة رقيقة لكل المسافرين على الخطوط القطرية والخطوط الأخرى إذ تم إخطارهم بإغلاق الأجواء وأنهم منذ اللحظة ضيوف على قطر، سيتم ترتيب أوضاعهم كما ينبغي ولأي مدة تستغرقها الأحداث مهما طالت.
كانت الإجراءات تسير بسرعة ودقة، ولم يشعر أي من المواطنين أو المقيمين أن هناك أزمة في الطريق، سارت الحياة عادية بدون أي إحساس بخوف أو هلع، كانت ترتيبات ما جرى وما كان متوقعًا تمضي في صمت تام وحذر، وحين وقعت واقعة الهجوم مساء يوم الاثنين 23 يونيو 2025، واشتعلت سماء الدوحة، كانت الحياة في المدينة تسير سيرًا طبيعيًا، لم تدوي صفارات إنذار، ولا طُلب منا أن نُسرع للملاجئ، ولا ندخل في الأنفاق أو محطات المترو، بل كان البعض على بلكونتهم يتابعون الحدث ويلتقطون السيلفي آمنين مطمئنين! وقتها كانت منظومات الدفاع الجوي (Patriot، NASAMS، Rapier، Roland) تعترض وتسقط 18 من أصل 19 صاروخًا وتم احتواء تأثير صاروخ واحد، الذي سقط دون أضرار أو ضحايا.
5
انتهت تلك الهجمات، ولم يصب أحد بأذى. وكلما أردوا بقطر وأهلها شرًا، يبدلها الله خيرًا وأمنًا وسكينة. واصل سكان الدوحة وأهلها حياتهم الهادئة والوداعة في ذات المساء ، يتنزهون على شواطئ الكورنيش الجميل بسلام آمنين. انتهت تلك اللحظات الحرجة، وعبرت قطر واحدة من أعظم التحديات التي واجهتها، إذ كان يُراد لأرضها أن تكون مسرحًا لتصفيات حسابات إقليمية ودولية معقدة دون أن تكون هي طرفًا فيها. بل على العكس، كانت في كل حين هي من تضمد جراحات العالم، وتعالج مآسيه في أروقتها الدبلوماسية الفعالة. ما إن طوت الدوحة تلك الساعات العصيبة حتى بدأت الدبلوماسية تعمل كعادتها بذكاء على عدة مسارات، وتلك هي السمة البارزة في دبلوماسية قطر التي تتبناها: دبلوماسية المسارات المتعددة.
6
في هذه الأزمة، رأينا أن قطر سلكت ثلاثة مسارات دبلوماسية بثقة. المسار الأول تمثل في صورة تعاملها مع الأزمة وهي حية تسعى، إذ أعلنت الدولة موقفها من العدوان الذي تعرضت له. فجرى استدعاء السفير الإيراني علي صالح عبادي لتسليمه احتجاجًا رسميًا، صرح المسؤولون بأن قطر تحتفظ بكافة الوسائل—الدبلوماسية والقانونية—لمحاسبة إيران.
ثم بعد أقل من ساعتين من الهجوم الغادر، عقد مؤتمر صحفي ثلاثي عالي المستوى خاطبه معالي الوزير ماجد الأنصاري، المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، أكد فيه أن قطر تحتفظ بحق الرد المباشر بما يتناسب مع شكل وحجم الاعتداء السافر وبما يتوافق مع القانون الدولي.
وقال نائب رئيس الأركان للعمليات المشتركة القطرية، اللواء الركن شايق مسفر الهاجري، إنه جرى التعامل مع الصواريخ الإيرانية وإسقاطها في البحر قبل وصولها إلى أراضينا، مشيرًا إلى أنه تم إخلاء القواعد الأجنبية في البلاد بشكل مسبق قبل الضربات الإيرانية.
وأكدت وزارة الداخلية القطرية في ذات المؤتمر أن الأوضاع الأمنية في البلاد مستقرة، ولا يوجد ما يدعو للقلق، مشيرة إلى أنه تم التعامل مع الشظايا التي سقطت في بعض المناطق السكنية، والتي تسببت ببعض الحرائق البسيطة، وتم السيطرة عليها دون تسجيل أي إصابات.
هكذا كانت الدولة حاضرة وقت الأزمة بكل أجهزتها بكامل جاهزيتها وفعاليتها. تعاملت معها كما ينبغي بكل جدارة. كان ذلك على مستوى مسارين: التصدي للعدوان والتعامل مع تداعياته سياسيًا ودبلوماسيًا وقانونيًا، إذ اصطف الخليج بل العالم كله وراء قطر وسارع بإصدار البيانات، وصعد الأمر إلى مجلس الأمن الدولي، واحتفظت قطر في ذات الوقت بحق الرد.
7
في مسار ثانٍ، لم تنسحب قطر من أدوارها المعهودة والمحمودة في الوساطة الحميدة التي تطلع بها في كل الأزمات الدولية، الشيء الذي رسخ مكانتها كوسيط نزيه. في هذه الأزمة، حافظت قطر على توازنها الدبلوماسي بين إيران والولايات المتحدة، واستمرت بجهودها لدفع أطراف الصراع للوصول إلى وقف إطلاق النار. ولم تجد أمريكا أفضل من اللجوء إلى قطر، باتصال مباشر من الرئيس ترامب مع الأمير تميم طالبًا بل راجيا منه التدخل. رغم ما تعرضت له قطر قبل ساعات من هجوم سافر، إلا أن قطر وأميرها حفظه الله كانوا في الموعد، لم تمنعهم الأزمة التي عاشوها من أن يسارعوا للعب أخطر الأدوار الدبلوماسية في وقت حرج.
كان العالم كله وقتها في انتظار الدبلوماسية القطرية لتنجز وقف إطلاق النار، وقد فعلت كالعهد بها وفي وقت وجيز. على المنطقة بل العالم أن يكون ممتنًا لجهود قطر التي لولاها لكانت المنطقة بخليجها تسبح الآن في بحور من الدماء. لعبت الدوحة دورًا رئيسيًا في إنقاذ المنطقة، وهو دور يليق بها ومكانتها الدبلوماسية الرفيعة.
8
عبرت الدوحة مسارين في الأزمة، متجاوزة أزمة الهجوم الغادر، ثم أقدمت على إنجاز معجزة دبلوماسية ثانية، بعد تمكنها من الوساطة لوقف الحرب. وسرعان ما غادرت إلى مسار ثالث كانت هي تمسك به، وهو الحرب في غزة. إذ واصلت وساطتها التي لم تتوقف، ولكن الآن استفادت من مكانتها وسمعتها التي تعززت عالميًا بعد امتصاصها الهجوم الإيراني وإنجاز وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل وسارعت للاستثمار ذلك النجاح الدبلوماسي في إنقاذ أهل غزة من براثن آلة القتل والإبادة اليومية التي يتعرضون إليها. ولا نصير لهم سوى الدوحة من بعد الله.
المنطقة الآن في انتظار اختراق سياسي تقوم به الدبلوماسية القطرية قريبًا، بحسب الرئيس ترامب بالأمس في مؤتمر الناتو بلاهاي، حين قال إن إنجازًا في غزة بات قريبًا. هذا الإنجاز أو الحدث الذي ينتظره العالم هو وقف الحرب في غزة بعد أن عجز الصهاينة عن تحقيق أي نصر هناك. الآن يتطلع العالم مرة أخرى لقطر وما يمكن أن تنجزه في غزة، وهي فاعلة بإذن الله، ودائمًا يجري الله الخير والنصر على يدها بفضل حكمة أهلها وذكائهم ومحبتهم للخير والسلام. بارك الله في قطر، شعبًا وقيادةً، أرضًا وسماء.
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
الصبان.. 4 أشهر تصنع تاريخاً جديداً للتايكوندو السعودي
خلال فترة زمنية لا تتجاوز أربعة أشهر، استطاع رئيس الاتحاد السعودي للتايكوندو أحمد الصبان، أن يعيد رسم ملامح اللعبة محلياً وآسيوياً، ويكتب صفحة ذهبية في سجل إنجازاتها؛ بحصد المنتخب السعودي سبع ميداليات آسيوية، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ اللعبة بالمملكة. هذه النتيجة لم تأتِ من فراغ، بل كانت حصيلة عمل إداري وتنظيمي محكم، ورؤية تعتمد على فتح المجال أمام الكفاءات، ومنح الفرص للمتميزين، بعيداً عن أي احتكار. منذ اللحظة الأولى لتوليه المسؤولية، بدأ الصبان بترتيب الأوراق الداخلية للاتحاد، وفتح ما يمكن تسميته بـ “مخازن المواهب”؛ إذ أخرج إلى الواجهة نخبة من اللاعبين والمدربين والإداريين الجدد، ممن استطاعوا ترك بصمتهم سريعاً على ساحة المنافسة. هذا النهج ساهم في بروز أسماء جديدة على المستويين المحلي والدولي، حتى إن بعض الأندية كتبت تاريخاً جديداً، مثل نادي الفتح الذي حصد ميدالية آسيوية للمرة الأولى في تاريخه.
لم يكن النجاح حبيس المنتخبات بمختلف الفئات فقط، بل امتد ليشمل الدرجات والفئات، حيث تنوعت الميداليات السبع بين الفئات السنية والوزنية، بما في ذلك (الباراتايكوندو) ما يعكس عمق قاعدة اللاعبين وتعدد مصادر الإنجاز. وعلى الصعيد المحلي، تغيرت “بورصة الأبطال”؛ إذ ظهرت أندية جديدة على منصات التتويج، وتنوعت الفرق الحاصلة على كأس التفوق العام لأول مرة، مثل الحريق، وهو ما يعكس التوزيع العادل للفرص، والتحفيز المتوازن بين مختلف الأندية،
الملفت أيضاً هو ارتياح الغالبية العظمى من المدربين واللاعبين والحكام لأسلوب إدارة الصبان، الذي يقوم على وضوح الرؤية وحسن التخطيط وإشراك الجميع في مسيرة التطوير. فقد فتح الباب أمام المدربين والإداريين والإداريات، وأتاح الفرصة للكفاءات في اللجان الإدارية والفنية، سواء على مستوى الرئاسة أو العضوية، ما أضفى على العمل طابعاً مؤسسياً وتعاونياً،
ومن الناحية التنظيمية، شهدت اللعبة في عهد الصبان تحديثاً واستحداثاً للوائح الفنية والتنظيمية، بما يتماشى مع متطلبات المرحلة وتطور قوانين اللعبة عالمياً؛ ما عزز من قدرة المنتخبات على المنافسة وفق أحدث المعايير.
لقد رسم الصبان نموذجاً مختلفاً في الإدارة الرياضية؛ نموذجاً يؤمن بأن “البقاء للأفضل”، وأن المنافسة الحقيقية تقوم على إتاحة الفرص لمن يمتلك القدرة والتميز، بعيداً عن أي قيود أو احتكارات. هذه الفلسفة جعلت الإنجاز الآسيوي الأخير أكثر من مجرد رقم قياسي، بل محطة تحول تؤسس لمرحلة ذهبية في تاريخ التايكوندو السعودي.
اليوم، وبعد سبع ميداليات آسيوية جاءت من مختلف الفئات والدرجات، بما في ذلك الباراتايكوندو، يدرك المتابعون أن أحمد الصبان لم يكتفِ بإدارة اتحاد، بل قاد مشروعاً متكاملاً لإحياء روح التحدي، وصناعة أبطال جدد، وتوسيع رقعة النجاح لتشمل جميع أركان اللعبة. إنها أربعة أشهر فقط، لكنها كانت كافية لتؤكد أن القيادة الواعية والعمل المؤسسي قادران على تحقيق ما كان يبدو بعيد المنال.