عربي21:
2025-08-14@10:48:45 GMT

غزة والنداء الأخير

تاريخ النشر: 13th, August 2025 GMT

هنا غزة، هنا مسرح الجريمة، ولكن بلا عقاب، هنا الجريمة كاملة الأركان، وهنا الجريمة متعددة الأشكال والأوصاف، والجناة وحدهم لا يتغيرون بل يغيرون أقنعتهم، تارة هم فاشيون، وتارة أخرى هم نازيون، والوصف واحد؛ إنهم مجرمون.

الجناة طلقاء وجرائمهم بازدياد واتساع، وقرارات اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة مع وقف التنفيذ، والمشرعون وقادة العدالة عاجزون.



والعالم الفقير ينتحب، وآخر يستنكر ويندد، لكن مسرح الجريمة يتسع أكثر فأكثر؛ تملؤه مشاهد الجثث المحترقة في الخيام، وأشلاء الضحايا الملقاة على قارعة الطريق..

وصور الهياكل العظمية للأطفال والعيون الغائرة والبطون المنتفخة، وأنين وبكاء الرضع، ونظرات الأمهات التي تنذر بالموت المرتقب لأطفالهن، وصور الجموع الغفيرة الزاحفة نحو الظفر بكيس من الدقيق، ومشهد ذلك الطفل الساعي لالتقاط حفنة من الطحين ملقاة على الأرض هنا وهناك، وصور تدافع حاملي الأواني الفارغة أمام "التكية الخيرية" من أطفال ونساء وشِيب وشباب؛ لإسكات الأفواه الجائعة من أسرهم التي تنتظر رمق الحياة، وصور الأطباء والصحفيين الشهداء، وصوت قرع الطناجر والملاعق في داوننج ستريت أمام مقر الحكومة البريطانية، وصور محاكاة ما يجري من جرائم بحق الإنسانية في غزة، والتي غصت بها الشوارع الغربية والعالمية؛ وصلت أخيرا كل هذه الصور والمشاهد والأصوات والأنات.. وأنفاس الموت الأخيرة التي أدمت القلوب، وأبكت العيون، وأصمّت الآذان؛ وصلت للضمير العالمي، وأيقظته من سباته العميق وقد تأخر كثيرا كثيرا؛ فتأثّر حكام وزعماء العالم، عربا وغربا، وتصدروا شاشات التلفزة والمنصات الإعلامية دفاعا عن صورهم المهزوزة أمام شعوبهم وعن مواقفهم المخزية، التي لا ترتقي لصرخة طفل "أنا جوعان".

إنه الموت الأخلاقي والإنساني والديني للبشرية، وموت كل الشرائع؛ إلا شريعة الغاب، وسحق القوي للضعيف، وشريعة "سلام القوة" الأمريكي الصنع والتصدير، وشريعة الإذلال والاستسلام، وشريعة العنجهية والاستعلاء
وقف هؤلاء أمام الكاميرات، واستنكروا مجددا حصار التجويع والتعطيش والمقتلة الإنسانية بحق أطفال غزة بعدما أرعبتهم، بل أخجلتهم، تلك المشاهد من الأكفان البيضاء التي ضمت في ثناياها الأجساد الهزيلة الصغيرة، وبعضها الآخر تلطخ بدماء أجساد من كانوا ينتظرون حصولهم على لقمة عيش يسدون بها رمق أحبتهم الصغار. استنكر القادة وأدانوا بكلماتٍ خجولة ما يحدث، وبعضهم تأثر وذرف دموع التماسيح، ولكن الأهم أن الرئيس ترامب "سمع" أن هناك مشاهد مأساوية في غزة، و"قيل" له أن هناك معاناة، والأكثر أهمية أن زوجته ميلانيا شاهدت تلك الصور وتأثرت جدا، ولربما تبللت وجنتاها بالدموع.

أي نفاقٍ هذا؟ أي استخفافٍ بعقول البشر هذا؟ أي تجاهل للحقيقة هذا؟ ورُبَّ سائل يسأل: كيف يشعر هؤلاء؟ هل هم بشر مثلنا؛ لهم مشاعر وأحاسيس، ودم يجري في عروقهم؟ إن هذا التجاهل والاستخفاف لا يحدث حتى في الأساطير، وحكايا زمان الخرافية.

في الحقيقة، إنه الموت الأخلاقي والإنساني والديني للبشرية، وموت كل الشرائع؛ إلا شريعة الغاب، وسحق القوي للضعيف، وشريعة "سلام القوة" الأمريكي الصنع والتصدير، وشريعة الإذلال والاستسلام، وشريعة العنجهية والاستعلاء على مخلوقات الله، وكأن هؤلاء خُلقوا من نار، ومن عارضهم اتّهِمَ بأنه معادٍ للسامية، وكأن السامية تبيح لهم هذا الإجرام، وهذه الإبادة الممنهجة والمهندسة لتهجير أهل غزة، ودفن القضية.

أرادوه موتا سريعا لغزة وأهلها، لكن ترسانتهم المتعددة الجنسيات فشلت؛ فتحولوا إلى الموت البطيء، فشلت معهم "السيوف الحديدية" و"خطة الجنرالات" و"عربات جدعون"، فتحولوا إلى التجويع والقتل تجويعا برفقة "خطط جديدة تُغيّر مسار الحرب" كما زعموا. وأصغوا إلى كلمات المجرم الفاشي بن غفير الذي قال مؤخرا "لا وجود لفلسطين ولا للشعب الفلسطيني، بل هناك إسرائيل وشعب إسرائيل"، وقال أيضا: "امنعوا دخول المساعدات لتحقيق الانتصار وإطلاق سراح الرهائن"، فتحوّلوا إلى منع الحليب والدواء والمكملات الغذائية للأطفال، وقطعوا الأوكسجين عن المرضى من الأطفال الخدج، فسمعوا لسموتريتش قائلا: "على الفلسطينيين أن يخضعوا لنا أو يرحلوا أو يموتوا"، فكان خيار الفلسطيني "نموت جائعين ولن نرحل".

وهل يرحل الليمون والزيتون؟

لقد راع قادة الكيان تلك الصحوة العالمية المتأخرة، والعزلة التي مني بها الكيان، إلى حد أن صحافتهم اعتبرت الاعترافات الأخيرة من قبل بعض الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية بمثابة "تسونامي سياسي"، خاصة عندما أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا والعديد من الدول وآخرها وليس أخيرها استراليا، استعدادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية، فاعتبروا ذلك "مكافأة للإرهاب"، وأن هذا يقلص من فرص إطلاق سراح الرهائن. وهذا ليس بجديد، إذ ما انفك القادة الصهاينة عن اتهام أية جهة (سواء كان عضو برلمان أوروبي أو عضوا في محكمة الجنايات، أو منظمة أممية، أو جهة غير رسمية حتى منظمة إسرائيلية) بالعداء لهم، طالما لا يؤيد هؤلاء جرائم الإبادة والتجويع لأطفال غزة بعد مرور أكثر من 675 يوما على الحرب الفاشية الوحشية.

إن المزاج السياسي العام للدول الغربية شَهد تغييرا وتطورا حقيقيا، كالتلويح بالعقوبات على دولة الكيان لضرورة الإنهاء الفوري للحرب، وإدخال المساعدات بكثرة، وذلك من خلال إصدار 26 دولة ذاك البيان. التغيير جاء نتيجة عوامل عديدة؛ أبرزها المطالبات الشعبية المتصاعدة، والمظاهرات الحاشدة التي شهدتها شوارع العواصم، وخاصة الغربية منها، إضافة إلى اشتداد حصار التجويع والتعطيش، وانكشاف هذا القتل البطيء المتعمد والممنهج؛ بعد وصول الصور المؤلمة والمشاهد التي تدمي القلوب قبل العيون، وسقوط المزيد من الضحايا بين الأطفال واستهداف المدنيين العزل والطواقم الطبية والإغاثية، والصحفيين وآخرهم الطاقم الصحفي للجزيرة.

ومن هذه العوامل الفاعلة والمؤثرة، ما قامت به هولندا داخل الاتحاد الأوروبي من تعليق العمل باتفاقية مشروع "آفاق" الذي يُعتبر من أكبر المشاريع العالمية، التي استفادت منها عشرات الشركات الإسرائيلية لإنتاج أسلحتها ومعداتها العسكرية، وتحديدا صناعة المُسيّرات، وكذلك إيقاف العمل في مشروع الابتكار العلمي الذي ضم أكثر من 35 شركة إسرائيلية، وكذلك قرار ألمانيا وقف تصدير السلاح والمعدات المستخدمة ضد غزة.

وكان لصدى التقرير الكارثي حول الأمن الغذائي في غزة الذي قدمته العديد من المنظمات الأممية، مثل اليونيسيف ومنظمة الغذاء العالمي وغيرهما، الأثر الأبلغ في تحريك الضمير العالمي؛ حيث أشار بالأرقام إلى حجم المأساة الإنسانية في غزة، التي تستهدف بالموت قرابة 100 ألف طفل ما لم يكن هناك تدخل عاجل وكافٍ.

من ناحية أخرى، وعلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، هناك عامل حاسم دفع الحكومة الإسرائيلية إلى إعلان هدنة مؤقتة يومية وإفساح المجال أمام المساعدات، ولكن بالإنزال الجوي الدعائي المميت، هذا العامل تمثّل بالرسالة التي أرسلها نحو 40 أكاديميا وأديبا وصحفيا، وشخصيات مؤثرة أخرى بينهم خمسة من رؤساء الجامعات الإسرائيلية، والتي طالبوا فيها دولة الكيان بالوقف الفوري للحرب، وإنهاء المأساة في غزة؛ وإلا فإن البحث العلمي والأكاديمي التنموي سينهار في الكيان، نتيجة للتلويح بفرض العقوبات الأوروبية على برامجهم؛ لأن التطور العلمي والبحثي يقوم أساسا على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. هذا التحرك الداخلي يُعبر عن خشية هؤلاء من دخول "دولتهم" مرحلة السقوط والانهيار، ما لم تُوقف الكارثة الإنسانية واللاأخلاقية في غزة.

وفي هذا الصدد صرح عاموس يدلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، بأن "إسرائيل تقترب من هزيمة استراتيجية عميقة، وأنها تواجه استنزافا وعزلة".

وما يؤكد خطورة الانقسام الداخلي الإسرائيلي، هو اجتماع نحو 600 مسؤول سياسي وعسكري وأمني سابق، ومطالبتهم الرئيس ترامب للضغط على نتنياهو لإنهاء الحرب. وفي السياق ذاته، وقع نحو 1000 فنان إسرائيلي على عريضة، طالبوا فيها بوقف فوري للحرب في غزة، وإعادة الرهائن.

ولعل ما ذكره في مقال كتبه رئيس شعبة العمليات السابق في الجيش الإسرائيلي، الجنرال يسرائيل زيف من أن "الحكومة الإسرائيلية فقدت بوصلتها، وأن حرب التجويع غباء شديد، وقد حولت هذه الحرب الملعونة الجيش الإسرائيلي إلى جيش لا أخلاقي، ومنحت حماس انتصارا حاسما.. ولا يمكن تبرير قتل الأطفال جوعا"؛ يؤكد تهور وحماقة حكومة نتنياهو التي لا تملك رؤية سياسية واضحة وأهدافا للحرب، الأمر الذي زاد من عزلتها الدولية والانقسامات الداخلية، وكذب سرديتها، مقابل تصديق الرواية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، يمكننا القول أيضا، إن هناك تظاهرات وحراكا داخليا كبيرا على جميع الصعد، وتحديدا تلك المظاهرات الحاشدة التي جرت في تل أبيب، وما رافقها من اعتقالات واشتباكات مع الأمن الإسرائيلي، ودعوات لشل الاقتصاد، ووقف قرار احتلال غزة وإنهاء الحرب، والدعوة للإضراب العام؛ ما يعزز الانقسام والتصدع الداخلي وينذر بحدوث ما هو غير متوقع.

المشهد الختامي للرياء والنفاق الدولي الشاهد على استمرار الحصار والتجويع والتعطيش، وتزايد مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، واغتيال رسل نقل الحقيقة والواقع المرير والمأساوي.. إنه أيضا الصرخة ما قبل الأخيرة للإسراع بتفعيل القانون الدولي الإنساني وإدخال المساعدات إلى المجوَّعين فورا
بقي أن نقول، إن على الدول العربية القيام بما قامت به الدول والمنظمات الغربية، بالمبادرة إلى فرض عقوبات تجارية، ووقف التطبيع، وقطع العلاقات، وطرد السفراء، وممارسة الضغط اللازم على الولايات المتحدة لدفعها للضغط على الكيان؛ والكف عن سياسة المراوغة والتسويف والخداع الدبلوماسي والأكاذيب التي ينشرها دائما سيد البيت الأبيض؛ والتي لا تعبّر إلا عن شراكة حقيقية مع دولة الكيان فيما يحدث في غزة من كوارث إنسانية لم يسبق أن شهدتها البشرية على الإطلاق، كما تعبر عن تجاهل كامل لحقيقة وجود تجويع وتعطيش حقيقي في غزة، لا كما زعم مبعوثه ويتكوف مؤخرا لدى زيارته "مؤسسة غزة اللاإنسانية".

وكذلك على الدول العربية -إذا لم تكن قادرة على اتخاذ ما يلزم من تفعيلٍ لأدوات الضغط اللازمة بحكم تبعيتها- إتاحة المجال للشعوب العربية لتقول كلمتها والقيام بدورها، وعدم الاكتفاء بالتعاطف والتأييد والخُطب الرنّانة، والتصاريح المنددة والمستنكرة لعمليات الإبادة الجماعية ولحصار التجويع والتعطيش الذي حصد حتى الآن نحو 223 بينهم 100 طفل، بل العمل على كسر هذا الحصار بشكل حقيقي، أسوة بما حاولت القيام به سفينتا مادلين وحنظلة، لا بالإنزالات الجوية المشبوهة الدعائية التي تتماهى مع الخطة الإسرائيلية الأمريكية لتجميل صورة الكيان أمام العالم، وإظهاره بالمظهر الإنساني الأخلاقي الذي لا يستهدف الأطفال والنساء، بل "الإرهابيين" على حد زعم قادته، وكأن الصحفيين الشهداء أنس الشريف ومحمد قريقع ورفاقهما يهددون الأمن "القومي الاسرائيلي".

إنه المشهد الختامي للرياء والنفاق الدولي الشاهد على استمرار الحصار والتجويع والتعطيش، وتزايد مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، واغتيال رسل نقل الحقيقة والواقع المرير والمأساوي.. إنه أيضا الصرخة ما قبل الأخيرة للإسراع بتفعيل القانون الدولي الإنساني وإدخال المساعدات إلى المجوَّعين فورا، وهل ينتظر العالم سقوط أكثر من 62 ألف شهيد ونحو 153 ألف جريح حتى يتحرك ويتخذ إجراءات عملية فعّالة لوقف هذا الإجرام وهذه الإبادة؟ إن الوقت ينفد، وغزة على وشك الموت، إنه النداء الأخير للضمير الإنساني.

[email protected]

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة حصار التجويع غزة حصار ابادة تجويع قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التجویع والتعطیش فی غزة

إقرأ أيضاً:

متى تنتهي صفقات العار مع الكيان الصهيوني؟!

في الوقت الذي تعاني فيه غزة من القتل بالجوع والحصار تارة وبالنابالم تارة أخرى، وتوجه الكيان الصهيوني لاحتلالها، طفت على السطح صفقة جديدة من صفقات العار، فلم يكتف النظام في مصر بغلق معبر رفح، والحيلولة دون دخول الشاحنات لغزة ما أدى لتكدسها وفساد الغذاء والدواء والمستلزمات وموت العشرات يوميا جياعا في غزة، بل قام بتوقيع اتفاقية مع الكيان الصهيوني لتوريد الغاز إلى مصر. وتعد هذه الاتفاقية أكبر اتفاقية تصدير في تاريخ الكيان الصهيوني، حيث تصل قيمتها إلى 35 مليار دولار من منصة الغاز في حقل ليفياثان، أكبر حقل غاز في الكيان الصهيوني.

وقد ذكرت رويترز أنه بموجب الاتفاقية التي أُعلن عنها الخميس الماضي، فإن حقل ليفياثان، قبالة سواحل إسرائيل على البحر الأبيض المتوسط، والذي تبلغ احتياطياته نحو 600 مليار متر مكعب، سيبيع نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر بسعر أعلى بنسبة 14.8 في المئة مقارنة بالصفقة السابقة، وتمتد الصفقة حتى عام 2040 أو حتى يتم استيفاء جميع الكميات المتعاقد عليها.

وبموجب الاتفاقية سيزود حقل ليفياثان مصر في المرحلة الأولى بنحو 20 مليار متر مكعب من الغاز اعتبارا من أوائل عام 2026 بعد ربط خطوط أنابيب إضافية. وقالت شركة نيوميد إنها ستصدر 110 مليارات متر مكعب المتبقية في مرحلة ثانية في عام 2029، تبدأ بعد الانتهاء من مشروع توسعة حقل ليفياثان وإنشاء خط أنابيب نقل جديد من الكيان الصهيوني إلى مصر عبر نيتسانا في الكيان الصهيوني. وسوف يزيد تدفق الغاز إلى مصر مطلع العام المقبل من 4.5 مليار متر مكعب إلى 6.5 مليار متر مكعب. وبعد الانتهاء من المرحلة الثانية من حقل ليفياثان ستزيد الكمية إلى 12 مليار متر مكعب سنويا.

وتهدف مصر من هذه الصفقة للتخفيف من أزمة الطاقة، حيث أنفقت مليارات الدولارات على استيراد الغاز الطبيعي المسال منذ أن أصبحت إمداداتها أقل من الطلب. وقد بدأ إنتاج مصر بالتراجع في عام 2022، مما أجبرها على التخلي عن طموحاتها في أن تصبح مركزا إقليميا للإمدادات، ولجأت بشكل متزايد إلى الكيان الصهيوني لتعويض ذلك النقص.

وتشير بيانات مبادرة بيانات المنظمات المشتركة إلى أن الغاز الإسرائيلي يمثل ما بين 15 في المئة إلى 20 في المئة من استهلاك مصر. وبالنظر إلى هذه النسب نجد أن صفقات العار للغاز مع الكيان الصهيوني ليست وليدة اليوم، ففي عام 2005 وقّعت مصر اتفاقية لتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنويا إلى الكيان الصهيوني عبر شركة غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وتم تشغيل خط أنابيب أرِيش-عسقلان في 2008، وفيما بعد تم رفع الكمية إلى 2.1 مليار متر مكعب سنويا، مع عقد إضافي لتزويد القطاع الصناعي الإسرائيلي بكمية تصل إلى ملياري متر مكعب. وحينما جاءت ثورة يناير 2011، تم إلغاء الاتفاقية بدافع وطني رفضا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتلبية الاحتياجات الداخلية، إضافة إلى تفجيرات مستمرة طالت خط الأنابيب. وقد لجأ الكيان الصهيوني لهيئة تحكيم دولية فحكمت على مصر بدفع تعويضات بلغت نحو ملياري دولار، ثم تم تسوية ذلك بدفع 500 مليون دولار على مدى 8.5 سنة في عام 2019.

وبعد تراجع الإنتاج المحلي المصري، بدأت مصر تستورد الغاز من الكيان الصهيوني، ففي شباط/ فبراير 2018، جرى الاتفاق على توريد 64 مليار متر مكعب على مدى 10 سنوات من حقلي تمار وليفياثان عبر شركة دولفينوس القابضة، وبذلك تحولت مصر من مصدر للغاز إلى مستورد، ثم بدأ حقل ليفياثان بتصدير الغاز إلى مصر بداية عام 2020 بناء على الاتفاقيات السابقة، ووصلت كمية التوريد إلى حوالي 23.5 مليار متر مكعب حتى الآن، ثم في الأسبوع الماضي، وقّع الطرفان تلك الصفقة التي سميت بالصفقة التاريخية، باعتبارها الأكبر في تاريخ الكيان الصهيوني.

إن هذه الصفقة لا تتوقف عند مهازلها الأخلاقية وحرمتها الشرعية بدعم هذا الكيان المحتل الواجب مقاطعته، بل وبذل الجهد لإنهاء احتلاله، ورفع الظلم عن أهلنا في غزة، فهذه الصفقة تمتد كذلك لتعري ما قيل عن حقل ظُهر للغاز وضخامته ونقله لمصر نقلة نوعية، فقد كشف هذا الأمر عن أكذوبة ما قيل عن هذا الحقل وقدرته، خاصة وأن مصر تواجه صعوبة في زيادة إنتاجها من الغاز وفقا لأحدث الأرقام الصادرة عن مبادرة بيانات المنظمات المشتركة (JODI)، حيث بلغ الإنتاج 3,545 مليون متر مكعب في أيار/ مايو، مقارنة بـ6,133 مليون متر مكعب في آذار/ مارس 2021 بانخفاض يزيد عن 42 في المئة في أقل من خمس سنوات.

إن تبرير الصفقة بالحاجة الملحة للطاقة وتوفير إمدادات ثابتة طويلة الأمد لمصر، مما يساعد على تشغيل محطات تسييل الغاز في إدكو ودمياط بكامل طاقتها، وتعزيز صادرات الغاز المسال إلى أوروبا، خصوصا مع الطلب الأوروبي المرتفع بعد أزمة أوكرانيا، ما يرفع من الإيرادات السنوية من العملة الصعبة ويدعم الاحتياطي النقدي، هو تبرير يحمل معه عوامل هدمه، فهل ضاقت من أمامنا الدول العربية المصدرة للغاز -وفي مقدمتها قطر- ولم يتبق إلا الكيان الصهيوني للجوء إليه؟! كما أن الكيان الصهيوني لا يعرف سوى مصلحته، وهو ينظر لتلك الصفقة على أنها تعاون استراتيجي مع مصر في ملف الطاقة، وهو مؤشر على عمق العلاقات الاقتصادية بينهما، وهو عمق على حساب الدم الفلسطيني، ونهب موارد الفلسطينيين، ولا يوجد مبرر واحد لهذا الفعل مقبول شرعا أو عقلا، وسيظل التاريخ يذكر تلك الصفقات بمزيد من العار.

x.com/drdawaba

مقالات مشابهة

  • أدانت انتهاكات السلطات الإسرائيلية.. مريم العطية: اغتيال الصحفيين جريمة مروعة تضاف لجرائم الإبادة
  • فضل الاستغفار في الثلث الأخير من الليل.. الإفتاء تكشف 4 فضائل
  • متى تنتهي صفقات العار مع الكيان الصهيوني؟!
  • ما وراء الخبر يناقش مستقبل أزمة الدروز بعد البيان الثلاثي الأخير
  • جوتا شعر بالفخر بهدفه الأخير مع ليفربول قبل وفاته
  • بعد القرار الأخير.. رسوم السحب على فودافون كاش
  • عباس يبحث مع ميلوني وقف الإبادة الإسرائيلية وحرب التجويع في غزة
  • أبو تريكة يوجه رسالة صارمة إلى فيفا بشأن الفرق الإسرائيلية
  • وزير الخارجية: الحكومة الإسرائيلية تنتهج سياسة الإبادة في قطاع غزة