الفاشر: قصة صمود بين الحصار والجوع
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
أنظار العالم مركزة على غزة، ومأساتها تستحق بلا شك كل هذا الاهتمام والتركيز الدولي. لكن في ركن آخر من عالمنا المثخن بالجراح، تعيش مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور في غرب السودان، وجع الحصار والتجويع في ظل اهتمام محدود من المجتمع الدولي.
على مر العصور، شكل الحصار أحد أقسى أشكال الصراع، إذ يعزل المدن عن محيطها، ويجوع أهلها، ويمطرهم بالنيران، في محاولة لكسر إرادتهم قبل كسر أسوار دفاعاتهم.
مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) ربما كانت الأشهر بعد صمودها 872 يوماً في وجه الحصار والجوع والبرد، ولم تسقط في أيدي القوات النازية إبان الحرب العالمية الثانية، لكن سراييفو عاصمة البوسنة هي في الواقع المدينة التي عرفت أطول حصار في الحروب الحديثة، إذ استمر 1425 يوماً عاش خلالها السكان تحت القصف والقنص ونقص الإمدادات مع الانقطاع المستمر للكهرباء والمياه. إلى جانب هذين النموذجين، فإن التاريخ البعيد والقريب حافل بقصص عدة مدن قاومت الحصار لفترات تطول أو تقصر، يصعب إيرادها كلها هنا.
الفاشر في معاناتها المستمرة منذ أزيد من عام تنضم إلى القائمة، ورغم الحصار والتجويع نجحت في صد 227 هجوماً شنته «قوات الدعم السريع»، آخرها كان يوم الاثنين الماضي حينما هوجمت المدينة من ثلاثة محاور بعدد كبير من القوات والآليات، ونجح الجيش والقوات المشتركة مجدداً في كسر الهجوم بعد معركة ضارية.
بعد خسارتها للمعركة لجأت «قوات الدعم السريع» للانتقام من المدنيين الأبرياء فهاجمت معسكر أبو شوك للنازحين الواقع على تخوم المدينة، وارتكبت مذبحة ضد سكانه فقتلت 40 شخصاً وجرحت 19. فالهدف هو إفراغ المعسكر إما بالترويع والتجويع، أو بالقتل الممنهج، مثلما حدث مع معسكر زمزم، الذي هاجمته هذه القوات مراراً وتكراراً قبل أن تقتحمه وتسيطر عليه وسط تقارير عن انتهاكات واسعة، وقتل ممنهج قال عنه مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إنه «يكشف عن الثمن الباهظ لصمت المجتمع الدولي».
ووفقاً للأمم المتحدة فإن أكثر من 70 في المائة من سكان الفاشر يعانون منذ أشهر من انعدام الأمن الغذائي نتيجة الحصار. فـ«الدعم السريع» تمنع وصول المساعدات، علماً بأن الحكومة السودانية كانت قد استجابت لنداء الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ووافقت على فتح معبر أدري على الحدود التشادية لإيصال المساعدات، رغم علمها بأنه يستخدم أيضاً لتهريب السلاح.
«قوات الدعم السريع» وداعموها رموا بكل ثقلهم في معركة الفاشر واستعانوا بمزيد من المرتزقة الذين جلبوا من كولومبيا ودول أخرى عدة، وكأن إسقاط المدينة يعني تحولاً نهائياً في مسار الحرب يقلب كل الموازين لصالحهم. لكن يبدو أن هؤلاء في تفكيرهم هذا لم يتعلموا شيئاً من دروس هذه الحرب.
الخرطوم اُحتلت نحو عامين، وسقطت مدني حاضرة ولاية الجزيرة، وتمددت «قوات الدعم السريع» في 70 في المائة تقريباً من مساحة السودان، حتى ظنت أنها باتت على مشارف إسقاط الدولة السودانية بأكملها وفرض سيطرتها عليها. لكنها استيقظت من هذا الحلم على كابوس هزائمها المتلاحقة حتى تقلصت مساحة وجودها وانحصرت في دارفور ومناطق من كردفان حيث تقاتل الآن لمنع الجيش من التقدم نحو معاقلها وتحقيق هدفه المعلن في استعادة كل الأراضي حتى آخر نقطة حدودية.
مع كل يوم تصمد فيه الفاشر تخسر قوات الدعم السريع
ولأن «قوات الدعم السريع» تدرك أنه لا يمكنها العودة إلى الخرطوم أو مدني أو أي من المناطق التي وصلت غليها أو كانت تحلم بالوصول إليها، فإن إصرارها الانتحاري على احتلال الفاشر على الرغم من الخسائر الهائلة التي تكبدتها في هجماتها المتتالية، ربما كان مرده أنها تتعرض لضغوط من داعميها لإكمال السيطرة على دارفور ضمن مخطط لتقسيم السودان بعدما فشل المخطط الأول للسيطرة عليه كله بانقلاب مباغت.
في هذا السياق يأتي تشكيلهم للحكومة «الموازية»، التي لم ولن تجد الاعتراف الذي تصبو إليه، إذ ووجهت بسيل من الإدانات الدولية، والرفض الصريح لخطوة إعلانها، والتشديد على عدم الاعتراف بها.
ومع كل يوم تصمد فيه الفاشر، تخسر «قوات الدعم السريع» المزيد من عتادها، ومن قواتها التي بدأ بعضها يفر من المعارك باتجاه مناطق أخرى، أو مستسلماً للجيش، مع ارتفاع وتيرة التذمر في صفوفها. ويصب ذلك بالتأكيد في صالح خطط الجيش وتحركاته لا لفك حصار الفاشر فحسب، بل لاستعادة السيطرة على كامل الأراضي.
صمود الفاشر يسطّر صفحة جديدة في كتاب مدن وشعوب قاومت الحصار عبر التاريخ. وكما حفظت الذاكرة أسماء مدن أخرى، فإنها ستحفظ أيضاً اسم الفاشر التي عاندت الحصار وقاومت التجويع، وأثبتت أن روح الصبر والثبات لا تنكسر بسهولة.
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الفاشر السودان الدعم السريع السودان الدعم السريع البرهان الفاشر سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
الفاشر بين مطرقة الدعم السريع وسندان الخذلان العربي!
ما الذي يحدث في مدينة الفاشر، عاصمة شمال ولاية دارفور في السودان؟ حصار وضرب وقصف واعتداءات على إخوة الإسلام والعروبة من أهل السودان، ممن أوقعهم حظهم العاثر في مواجهة تاجر الإبل محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"، وما تحت يديه من المليشيات المسلحة الإجرامية من المرتزقة الأفارقة والكولومبيين، تلك المليشيات المُمولة من الراعي الرسمي والحصري لكافة عمليات الانشقاق والاقتتال والاحتراب بين مكونات الدولة الواحدة في وطننا العربي، لمطامع ومآرب يريدها ذلك الراعي خدمة لمصالحه وأطماعه من ناحية، وخدمة كذلك لوكالته للصهيونية العالمية من ناحية أخرى!
والمواجهات المسلحة التي تقودها مثل تلك المليشيات المتمردة ما هي إلا أوراق ضغط لمصلحة الراعي الممول لانتزاع بعض المكاسب الجيوستراتيجية عنوة، دون أي مسوغ وطني أو دولي، فقط بعض التفاهمات والمكاسب التي تُمنح لبعض القوى الدولية المتواطئة في الملف كما حدث مع فرنسا وروسيا في شرق ليبيا، إضافة لسلطة الأمر الواقع، على وقع البارود والمُسيّرات التي أصبحت كابوسا للمدن والأحياء. ولا غضاضة من حدوث ذلك من أجل مصالح الراعي، فتجري استباحة الممتلكات العامة والخاصة، وتستباح أعراض النساء والفتيات.
الفاشر نموذج مكرر لضحايا التشكيلات المسلحة من المرتزقة ومن يقف خلفهم من الطامعين في ثروات الأرض وحيازة السلطة مهما كانت النتائج، فهؤلاء لا يدينون بدين ولا يحملون مبدأ، ولا تلين عريكتهم للاعتداء على شيخ مسن أو طفل بريء أو امرأة ضعيفة، كالضباع المتوحشة التي تسعى خلف فريستها! وللعجب فالراعي لتلك التشكيلات واحد، هو من يقف خلف كل الكوارث التي حدثت في المنطقة العربية بدءا بليبيا مرورا باليمن وحاليا السودان! ولا يكاد يخلو قُطْر من الأقطار من هؤلاء المرتزقة تحت أي مسمى، فلربما كانوا في مرحلة كُمُون في دولة ما مثل الخلايا النائمة التي تنتظر إشارة البدء!
وجدول الراعي مزدحم دائما بصناعة الفتن والقلاقل في بلادنا العربية دون تفرقة، مستميلا
أخس وأحقر الشخصيات المعروفة سلفا بدناءتها والتي لا تعرف حرمة للدماء أو الأعراض، مغدقا عليها الأموال والحسابات البنكية الدافئة والإقامات الفاخرة في فنادق إمارته! هدفه الأكبر الانتصار لأيديولوجيته في تمزيق الأوطان وصناعة الاحتراب الداخلي بين الفرقاء خدمة للاحتلال وللصهيونية خلفه، ولِمَ لا وهو الوكيل الحصري لها! ثم تأتي مكافأته الشخصية عن طريق السيطرة على منابع الغاز والبترول ومناجم الذهب، والموانئ البحرية التي تتحكم في مفاصل المنطقة برمتها.
إن محنة الفاشر وصويحباتها، بحصار المدن وتفشي المجاعات والأوبئة الفتاكة كالكوليرا التي تحصد الأرواح حصدا في المدينة المنكوبة، لهي شهادة وفاة للعروبة والعمل العربي وللجامعة التي تعفنت وباتت تزكم الأنوف برائحتها، حينما يقف القادة من الأمراء والزعماء والملوك عاجزين عن مواجهة ذلك الوكيل! دون أي معارضة منهم لجرائمه ومؤامراته التي أحال بها دولا المفترض أنها أعضاء في جامعتهم العربية؛ إلى أشلاء ممزقة بفعل التحارب والتقاتل الذي يغذيه بأموال إمارته التي فاضت حتى أصبحت وبالا على العرب والمسلمين!
محنة الفاشر ناقوس خطر لبقية الشعوب المستكينة الهائمة على وجهها خلف لقمة العيش المغموسة بالذل والهوان، أو الشعوب اللاهثة خلف ساحات الترفيه والمجون من مهرجانات السينما ومباريات الكرة، تقول لهم الدور قادم لا محالة، فالحكومات والأنظمة مشغولة بتثبيت كراسييها وتوريث أبنائها وتهيئة الأمور لأحفادها حتى الحفيد السابع! والوكيل لا يهدأ ولا يكل ولا يرضى بأقل من تمزيق دولكم وتهاوي لُحمتكم، وانكشاف سوءتكم وهتك أعراضكم وتدنيس مقدساتكم..
فإما إفاقة وأوبة إلى الرشد من أجل الاصطفاف لمعركتكم القادمة التي يجهزها الراعي لكم في جنح الليل، وإما الطوفان الذي سيقتلع دولكم ويحيل خضراءكم إلى صحراء جرداء، وحينها لن يبقى لكم وطن، ولن تهنأوا ببرد العيش، ولن تجدوا الخبز الذي مرغتم أنوفكم في الأرض لأجله، وسيصبح كل شيء في مهب الريح وتحت قدمي الراعي الذي لن تأخذه فيكم إلّا ولا ذمة، كما فعل مع من سبقوكم من الشعوب.