وفي الأيام عِبرة وعظة
تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT
د. سليمان بن خليفة المعمري
يُقال إنّ "من لم تؤدبه المواعظ أدبته السنون"، فمن لم تنفعه النصيحة والموعظة فإنّ في الحياة وتجاربها القاسية وأحداثها الجسيمة ما يغني عن الكثير من المحاضرات والدروس، فكم في التاريخ من عبر وعظات، وكم في كتاب الأيام من مواقف وأمثال.
فهُنا أمم انمحت آثارها واندثرت رسومها، فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، وهنا أمم بقيت آثارها "وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ.
وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الصافات: 37-38)، دالةً كل ذي عقل ولب على مآلات وعواقب الأمور، وإنّ في انقضاء الأيام وتصرم الدهور والأعوام لأبلغ العبر وأعظم العظات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فما يكاد يمر عام حتى يبدأ آخر، وما إن يولد هلال حتى تراه محاقا مؤذنا برحيل الشهر وكم أبدع الشاعر في وصف حال الدنيا ومرورها المخاتل إذ يقول:
سنون تعاد ودهر بعيد... لعمرك ما في الليالي جديد
أضاء لآدم هذا الهلال... فكيف نقول الهلال الوليد
على صفحتيه حديث القرى... وأيام " عاد" ودنيا "ثمود"
وإذا كان هذا حال الدنيا وتلك سنة الأيام، فعلى المرء أن يولي الوقت أيما عناية وأن يعب من نخب الحياة الجميل حتى يرتوي وأن يبقى يقظا فلا تسرقه الأيام فيتلفت وقد طاف به قطار العمر دون أن يعيش الحياة أو يفيد من تجاربها وخبراتها، فيخرج منها بلا أثر يذكر أو معنى جميل يعيش لأجله. وقد أصاب من قال: "إذا أردت أن تجعل لحياتك معنى، فاجعل للحياة معنى"، والحق أنه لا يكاد يوجد في تراث أمة من الأمم اهتمام أغزر ولا أعمق بمسألة الاهتمام بالوقت والحرص على الإفادة منه واستثماره كالأمة الإسلامية، لذا يملؤك العجب وتأخذك الدهشة مما تركه الرعيل الأول لهذه الأمة من آثار ضخمة تضمنت كتبا ومصنفات وأدوات حضارية عديدة شاهدة على حسن تعاملهم مع الوقت؛ إذ ما كان لهم أن يتركوا هذا الإرث الحضاري الزاخر رغم قلة وندرة الأدوات والوسائل المعينة على الكتابة والتوثيق ونحوه لولا اهتمامهم بالوقت وعنايتهم به، وهو ما يضاعف المسؤولية على الأجيال اللاحقة من أبناء هذه الأمة الماجدة في أن يحذوا حذو أولئك الأفذاذ فيبنوا كما بنوا ويشيدوا كما أشادوا ويضيفوا لتراث الحضارة والعلم والإنسانية مثلما أضافوا ويسهموا مثلما أسهموا.
وإذا كانت الأيام سريعة الانقضاء فإن على العاقل أن يعتبر من سرعة زوالها، فهو لا يملك أن يوقف عجلة الزمن عن الدوران ولكنه يملك من الخبرة والتجربة ما يجعله يحرص على الانتفاع بوقته وأن يحسن إدارته وتدبيره، فلا يضيع منه سدى ولا يعيش الحياة سبهللا، وإن من حُسن التدبير أن يوازن المرء بين متطلبات حياته الشخصية والعملية والاجتماعية واضعا أمام ناظريه توجيه ربه الكريم "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (القصص: 77)، وفي الأثر "إنّ لربك عليك حقا، وإنّ لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه"؛ فالتوازن سر نجاح المرء وسعادته، وإنّ من العجيب أن يترك الإنسان حياته تضيع منه دون تنظيم للوقت ثم يشتكي من ضيق الوقت.
ومن طريف ما ذُكر في هذا الجانب ما ذكره الأطباء حول وفاة الموسيقار العظيم بيتهوفن بأنه كان ينسى أن يتردد على دورة المياه؛ حيث كانت تمضي عليه الشهور ولا يستحم ولا يذهب لدورة المياه وعذره في ذلك "ضيق الوقت"، وهو نفس العذر الذي يتعلَّل به الكثيرون تاركين حياتهم تنسل من بين أيديهم.
كما إنّ من واجب الإنسان وهو يرى تقلب أحوال الدهر وتداول أيامها بين الناس أن يحرص على استقامة سلوكه وحسن تعامله مع أبناء جنسه فلا يظلم أحدا ولا ينتقص من أقدار الناس ولا يستكثر عليهم نجاحاتهم. وكم هي سامية تلك الوصايا الإسلامية السمحة التي تحض على التسامح وكريم التعامل مع الآخر؛ بل إنها تحصر جوهر هذا الدين ورسالته الخالدة في مفهوم "الدين المعاملة"؛ ففي الحديث: "قالوا يا رسولَ اللهِ فلانةٌ تصومُ النَّهارَ وتقومُ اللَّيلَ وتُؤذي جيرانَها قال هي في النَّارِ.."، فما يقدمه الإنسان من إحسان وخير للآخر فإنه وإن تم التنكر له وجحوده فإنّ الأيام تدخره له وتنصفه عدالة السماء ويبقى في صحيفة أعماله، وإنّ ما يضمره الإنسان من سوء وشر ومكر بالآخرين فإنه لا بد شاربا من ذات الكأس التي سقى منها غيره.
هذا.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
60% من الحياة.. هل تكفي؟
خالد بن حمد الرواحي
مع مطلع عام 2024، دخل نظام الحماية الاجتماعية الجديد حيّز التنفيذ، موحِّدًا 11 نظامًا تقاعديًّا سابقًا. ورغم ما يحمله هذا التحول من توجهاتٍ نحو العدالة والتكافل، فقد أثار تساؤلات إنسانية، لا سيما بشأن استحقاق الأرملة لمعاش زوجها المتوفى، خاصةً عند غياب أولاد مُستحقين.
تمضي الأرملة إلى صباحٍ جديد، بلا شريك، وبلا صوتٍ يُخبرها أن الحياة ما زالت بخير. لكن الفَقْد لا يتوقف عند العاطفة؛ بل يمتد إلى ما هو أعمق: استقرارٌ تبخّر، ومستوى معيشي انهار فجأة، بعد أن كان كفّ زوجها وحده يُعيل الأسرة ويحفظ كرامتها.
لسنواتٍ طويلة، عاشا على دخلٍ واحد، رتّبا تفاصيل الحياة، وخطّطا للغد بثقة. واليوم، لا تملك الأرملة سوى 60% من راتب تقاعد زوجها، كما نصّت المادة (113) من قانون الحماية الاجتماعية عند غياب أولاد مستحقين. لكن من قرّر أنها، حين تبقى وحدها، لا تستحق أن تحتفظ بالحياة التي بنتها معه؟ وكأن الحزن لا يكفي؛ بل يجب أن يُتبع بتقشّفٍ وأعباء جديدة.
لم يكن المعاش يومًا منحة؛ بل ثمرة عمرٍ قضاه الزوج في العمل والانضباط، وحقٌّ لا يجوز أن يُنتقص مهما تبدّلت الأنظمة. لا شيء يُعوّض الأرملة عن فقدها، لكن يمكن -على الأقل- أن نُبقي لها شيئًا من الطمأنينة التي بنت عليها حياتها.
حين يُفارق ربّ الأسرة الحياة، لا يغيب شخصٌ فحسب، بل يسقط عمود بيتٍ بأكمله. كل شيء يهتزّ: من مصروفات الكهرباء والماء، إلى الإيجار، إلى أسعار المواد الأساسية التي تتزايد بلا توقف، إلى السؤال المُرّ: "كيف نُكمل من بعده؟". في لحظة، تنتقل الأسرة من استقرارٍ مطمئن إلى قلق دائم، ومن اكتفاءٍ بسيط إلى حسابات مؤلمة آخر كل شهر.
تفتح الأرملة كشف المعاش، تبحث فيه عن شيء من الأمان… عن يدٍ كانت تسندها. فلا تجد سوى رقمٍ صامت: 60%. وكأن ما تبقّى لا يستحق أن يُصان أو يُقدَّر أو يستمر. أليست هذه الأسرة نفسها التي كانت تتلقى الراتب كاملًا حين كان الزوج حيًّا؟ ما الذي تغيّر سوى أن المصاب حلّ بها؟ أليست الآن أحوج إلى الثبات بدلًا من خفض دخلها؟
إن الأرملة التي شاركت زوجها حياته ومسؤوليته، لا تطالب برفاه، بل بالحفاظ على حياة كريمة اعتادتها معه، فهل يُعقل أن تتحوّل المصيبة إلى اثنتين: الفقد، ثم حرمانها من حقّ كانت تعيشه كل يوم؟
لا ينبغي أن يقتصر دور نظام الحماية الاجتماعية على الأحياء فقط؛ بل يجب أن يشمل الغائبين أيضًا؛ فالعدالة تُقاس بما يُقدَّم للضعفاء حين تشتدّ المحن، لا بما تُحدده اللوائح. ولعلّ التساؤل يمتد أبعد من ذلك… ولإدراك أثر هذه النسبة على حياة الأرملة، من المفيد أن ننظر في تجارب بعض الدول القريبة، التي تشترك معنا في السياق الاجتماعي والاقتصادي.
في بعض الدول الخليجية، تُعامَل الأرملة بوصفها امتدادًا طبيعيًّا للموظف المُتوفَّى، لا مجرد "مُستحِق مشروط"؛ فهناك أنظمة تقاعدية تضمن لها المعاش الكامل مدى الحياة، بغضّ النظر عن وجود أولاد؛ تقديرًا لدور الزوج، ووفاءً لعطائه، وإدراكًا لحاجة من بقي بعده. ورغم ما عُرف به وطننا العزيز من كرم اجتماعي ومبادرات إنسانية، جاء النظام الجديد ليُربك هذا المشهد، حين قيَّد استحقاق الأرملة بـ60% فقط عند غياب أبناء مُستحقِّين، كما نصّت المادة (113) من قانون الحماية الاجتماعية.
المقارنة ليست للمفاضلة؛ بل للتذكير بأن منح الأرملة حقّها الكامل ليس إسرافًا، وإنما وفاءٌ لرجلٍ رحل، وامتدادٌ لرعاية أسرةٍ لا تزال بحاجة إلى من يُمسك بيدها… ولو من بعيد. وإذا اتسعنا قليلًا في النظر، فسنجد أن مفهوم "المعيل" لا يقتصر على الزوج فقط. فليس كل من يعيل أسرةً هو زوج أو أب؛ فقد يكون ابنًا احتضن أمّه المسنّة، أو أخًا وهب شقيقته غير المتزوجة حياةً كريمة بلا حاجة. كان راتبه مصدر أمانهما وسندهما الوحيد في مواجهة الحياة.
لكن النظام الجديد، وفق ما ورد في المادة (111) من قانون الحماية الاجتماعية، لم يُدرج الأم أو الأخت ضمن الفئات التي تستحق معاش المُتوفَّى، ما يعني أن العديد من الحالات الواقعية -كأمٍّ كانت تعتمد اعتمادًا كليًا على دخل ابنها، أو أختٍ غير متزوجة وجدت في شقيقها سندًا ماليًا ونفسيًا- قد تبقى خارج مظلة الحماية، رغم هشاشتها ووضوح حاجتها. فهذا الغياب لا يعود إلى انتفاء الاستحقاق الفعلي، بل إلى غياب النص القانوني الذي يعترف به.
حين يتوقّف الراتب، لا يتوقّف الحزن؛ بل تبدأ رحلة الحاجة. ماذا تقول أمٌّ انتُزع عنها راتب ابنها؟ أو أختٌ لم يبقَ لها سوى كرامتها التي كانت تستند إلى دعم أخيها؟ العدالة لا تُقاس دائمًا بنصوص القوانين؛ بل بقدرتها على رؤية البشر كما هم: بعلاقاتهم، وبضعفهم، وبمن يعتمدون عليهم فعلًا.
ومن منظور وطني أشمل، فإن ما يدعو إليه هذا المقال لا يخرج عن إطار رؤية "عُمان 2040"؛ بل يتماهى مع روحها وأهدافها الكبرى، التي تؤكد "ضمان العيش الكريم لكافة المواطنين" وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية. فإعادة النظر في استحقاقات الأرملة أو الأم أو الأخت لا تُعد خروجًا عن الرؤية، بل ترجمة عملية لغاياتها؛ إذ إن تمكين الأسر من الاستقرار المالي بعد التقاعد أو فقد المعيل لا يتحقق بالتقيد الجامد بنصوص المواد، بل بالتأويل العادل الذي يلامس الواقع ويحتضن من هم في أمسّ الحاجة إلى الأمان الاجتماعي.
هذا النداء لا يُرفع من منبر تظلُّم؛ بل منبر إنصاف. من قلب أرملةٍ ترى راتب شريكها الذي أفنى عمره في خدمة الوطن وقد تقلّص معه كل شيء: قوتها، وطمأنينتها، وكرامتها المالية. ومن قلب أسرةٍ شعرت أن الفقد لم يكن في الشخص فقط، بل في الأمان الذي كان يمنحه.
إنَّنا لا نطلب ترفًا ولا منحة؛ بل استمرار حقٍّ كان قائمًا بالأمس. فما الذي تغيَّر؟ ومن قرَّر أن رحيل المُعيل يُعاقَب بتقليص المعاش؟ أما يكفي أنه قد رحل؟ إننا هنا لا نكتب عن حالة فردية؛ بل عن مبدأ إنساني واجتماعي يجب أن يظل حاضرًا في السياسات. نأمل أن يجد هذا الصوت أذنًا واعية وقلبًا مسؤولًا، يعيد النظر في تفسير وتطبيق المادتين (111) و(113)؛ بما يراعي الحالات الاجتماعية الواقعية التي لم تنصّ عليها القوانين صراحة، لكنها حاضرة بوضوح في مجتمعنا.
رَبُّ الأسرة حين يرحل، لا ينبغي أن تُغلق أبواب الإنصاف خلفه. وإن غاب جسده؛ فصوته لا يزال حاضرًا في احتياجات من تركهم خلفه… فلتظلّ أبواب العدالة مفتوحةً لمن كانوا يستندون إلى وجوده.