لم تعد الحروب في عصرنا الحديث تعتمد على الجيوش وحدها، بل ظهرت حروب أكثر خفاءً وأشد خطورة تعرف بالحروب "الناعمة" أو "الهجينة".
هذه الحروب تعتمد على الإعلام والتحريض وتزييف الوعي بدلاً من السلاح التقليدي. وفي قلب هذه الحرب تقع مصر حيث تتعرض سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج لحملة منظمة من التحريض والتشويه.

الحملة ليست مجرد أصوات متفرقة على مواقع التواصل الإجتماعي بل هي مخطط ممنهج يهدف إلى ضرب صورة الدولة المصرية في الخارج وتشويه رموزها الدبلوماسية وإرباك علاقاتها مع العالم.

كما أنه ليس جديدًا أن تكون السفارات هدفًا لمحاولات التحريض أو الإعتداء، فمنذ السبعينيات والثمانينيات حاولت بعض الجماعات المتطرفة استغلال الجاليات المصرية بالخارج لإثارة الفوضى حول البعثات الرسمية لكن الفرق بين الماضي والحاضر أن الأدوات تغيّرت.
في السابق كان الأمر يتطلب تحريك مظاهرات أو نشر منشورات ورقية، أما اليوم فقد أصبحت المنصات الرقمية أداة سهلة وسريعة لإطلاق حملات تحريضية تصل إلى الملايين خلال ساعات وهذا ما نشاهده اليوم .

ومن خلال ذلك، سأوضح بعض النقاط الهامة لملامح مخطط التحريض ضد السفارات المصرية ، حيث تُضخَّم الحوادث الفردية والإدارية البسيطة لتتحول إلى ما يشبه "أزمات سياسية" مفتعلة، وتُستَخدم المقاطع المفبركة أو المجتزأة في محاولة لتشويه الصورة . كما يتم الإعتماد على جيوش إلكترونية من حسابات وهمية لتكرار الرسائل الموجهة وتضليل الرأي العام مع استغلال المشاعر عبر روايات مثيرة للغضب من قبيل مزاعم "إهانة المواطنين" أو "التقصير المتعمد" في مسعى واضح لضرب الثقة بين المواطن ومؤسسات بلاده في الخارج.


وتتجلى الأبعاد السياسية لهذا المخطط في كونه جزءًا من استراتيجية أوسع تستهدف تقويض الدور الإقليمي لمصر والتأثير على قراراتها السيادية.

فالتحريض على السفارات لا يمكن عزله عن المشهد الإقليمي والدولي. فمصر في السنوات الأخيرة تمكنت من إستعادة مكانتها الإقليمية ولعبت أدوارًا حاسمة في ملفات كبرى مثل:
الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي وقضايا الغاز والطاقة في شرق المتوسط بالإضافة إلى الملف الليبي ومحاربة الإرهاب.


حيث إن نجاحات مصر في هذه الملفات أزعجت أطرافًا إقليمية ودولية ترى أن صعود الدور المصري يمثل تهديدًا لمصالحها. ومن ثم، فإن استهداف السفارات هو وسيلة لضرب هذا الدور وإظهاره أمام العالم وكأنه "فاقد للشرعية".

أما الأبعاد الأمنية فهي تمثل خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه، إذ إن السفارات المصرية تعد امتدادًا للسيادة الوطنية في الخارج وأي مساس بأمنها يُعد اعتداءً مباشرًا على هيبة الدولة وكرامتها.

ووفقًا لإتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام (1961) فإن أي اعتداء على سفارة هو إعتداء على سيادة الدولة ذاتها ولذلك فإن التحريض على السفارات المصرية ليس مجرد "رأي معارض" بل هو تهديد مباشر للأمن القومي.

كما أن أي اعتداء عليها يعني إحراج الدولة المضيفة دوليًا. واستمرار التحريض قد يشجع أفرادًا متطرفين علي ارتكاب أعمال 
عنف مما يفتح الباب لأزمات حقيقية نحن في غني عنها .

ولا يقتصر تأثير هذه الحملات التحريضية على السفارات المصرية فحسب، بل يمتد ليطال الجاليات المصرية في الخارج، إذ يضعها في دائرة التوتر والضغط النفسي ويعرض أفرادها لموجات من الشكوك والإتهامات مما ينعكس سلبًا على شعورهم بالأمان واستقرارهم المجتمعي.

الجالية المصرية بالخارج هي خط الدفاع الأول عن صورة مصر.  لكن الحملات التحريضية تستهدفها مباشرة من خلال زرع الشكوك في نفوس المصريين حول دور بعثاتهم الدبلوماسية ودفعهم إلي 
الإحتجاج أو الإعتراض على سياسات دولتهم في أماكن حساسة أمام الإعلام العالمي، بالإضافة إلى تشويه الثقة بين المواطن المصري ومؤسسات دولته .

ومع ذلك تشير تجارب عديدة إلى أن غالبية المصريين في الخارج يلتفون حول دولتهم وقت الأزمات ويعتبرون أي استهداف لسفاراتهم استهدافًا لهم شخصيًا.

مصر ليست الدولة الوحيدة التي واجهت تحريضًا ضد سفاراتها.
فالولايات المتحدة واجهت في العراق وإيران تحريضًا منظمًا أدى إلى هجمات على سفاراتها، وواجهت تركيا أيضاً موجات احتجاج أمام سفاراتها في أوروبا بسبب ملفات سياسية.
والصين تواجه باستمرار حملات تحريض ضد بعثاتها في الغرب بسبب ملف حقوق الإنسان.

لكن الفارق أن مصر تُستهدف من قِبل جهات تحاول تقديم نفسها كـ"معارضة سياسية"، بينما هي في الحقيقة أدوات ضمن مشروع أوسع لتقويض استقرار الدولة.

والمواجهة لا بد أن تكون شاملة ومتعددة المستويات، تبدأ أولًا من الجانب الأمني والدبلوماسي عبر تعزيز حماية السفارات بالتعاون الوثيق مع الدول المضيفة، وتوثيق أي تهديدات بشكل منهجي. كما تشمل البعد الإعلامي من خلال إطلاق منصات تفاعلية رسمية قادرة على الرد السريع على الشائعات وتوضيح الحقائق لحظة وقوعها. ويأتي أيضًا البعد الشعبي عبر رفع وعي المصريين في الداخل والخارج بخطورة هذه الحملات، وتشجيعهم على التبليغ عن الصفحات المحرضة. أما البعد القانوني فيتمثل في ملاحقة الجهات المنظمة لهذه المخططات بالاستناد إلى القوانين الدولية التي تجرم التحريض وخطاب الكراهية.

وختاماً يمكن القول إن ما يجري ضد السفارات المصرية ليس إلا حلقة من سلسلة طويلة تستهدف الدولة منذ سنوات، لكنها باءت كلها بالفشل أمام صلابة المجتمع والدولة. اليوم تتكرر المحاولة بأسلوب مختلف عبر الحرب الناعمة والتحريض الرقمي. غير أن مصر بتاريخها وتجاربها ومكانتها قادرة على إفشال هذه المحاولات كما أفشلت ما هو أخطر منها.
إن وحدة الصف والوعي الشعبي هما السلاح الحقيقي الذي يحمي الوطن ويحول دون نجاح أي مخطط يستهدفه.
ولنا لقاء آخر نضيء فيه مناطق الظل في المشهد السياسي.

طباعة شارك الإعلام التحريض الوعي

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الإعلام التحريض الوعي السفارات المصریة فی الخارج

إقرأ أيضاً:

تقرير يُوثق خطابات التحريض الإسرائيلي ودورها في تكريس الإبادة بغزة

غزة - صفا

أصدرت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد) تقريرًا حقوقيًا موسّعًا بعنوان “خطابات التحريض الإسرائيلي ودورها في تكريس الإبادة الجماعية في قطاع غزة”.

ويوثّق التقرير انتقال الخطاب التحريضي من التصريحات العلنية لمسؤولين سياسيين وعسكريين ودينيين وإعلاميين في "إسرائيل" إلى ممارسات ميدانية واسعة النطاق ترقي، وفق القانون الدولي، إلى جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وخلص التقرير إلى أن التحريض المباشر والعلني على القتل والتجويع والتهجير، الذي تكرّر منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يعد “لغة سياسية متشددة”، بل أصبح جزءًا من بنية القرار السياسي والعسكري.

وربط التقرير بين هذا الخطاب وبين سلسلة أفعال مادية شملت القتل الجماعي، فرض شروط معيشية مهلكة، الإخفاء القسري، استهداف البنية التحتية والحياة المدنية، وصولًا إلى هندسة التجويع والتعطيش ومشاريع التهجير القسري والإحلال الاستيطاني.

وترى "حشد" أنّ هذا النمط من التحريض يُعدّ وفق القانون الدولي جريمة قائمة بذاتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، وأنه يمثّل أساسًا قانونيًا لتحميل المسؤولين الإسرائيليين مسؤولية شخصية وجنائية عن الجرائم المرتكبة.

ووثق التقرير سلسلة طويلة من الانتهاكات الجسيمة والمنظمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال على مدار عامين، من أبرزها: القتل الجماعي المتعمد لآلاف المدنيين عبر قصف الأحياء السكنية المكتظة دون تمييز، وارتكاب مجازر متكررة بحق عائلات كاملة، كثير منها أُبيد بالكامل.

وأوضح أن الاحتلال فرض ظروفًا معيشية قاتلة تمثلت في قطع المياه والكهرباء والوقود، وتدمير شبكات الصرف الصحي والطرقات، وإغلاق المعابر، ومنع الغذاء والدواء عن السكان، وكذلك استهداف القطاع الصحي وتدمير المستشفيات والمراكز الطبية، وقتل الأطباء والمسعفين، ما أدى إلى انهيار شبه تام للمنظومة الصحية في القطاع.

وأضاف أن الاحتلال استهدف متعمّدًا المؤسسات التعليمية ودور العبادة والمساجد والكنائس والمراكز الإعلامية، في محاولة لمحو البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني، وتهجير قسري واسع النطاق طال مئات الآلاف من العائلات، مع استهداف متكرر لمناطق النزوح ومراكز الإيواء، بما في ذلك المدارس التابعة لـ"أونروا".

وذكر أن الاحتلال استخدم أيضًا، التجويع كسلاح حرب من خلال إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات واستهداف قوافل الإغاثة الإنسانية، بالإضافة إلى الاعتقالات الجماعية والإخفاء القسري لمئات المدنيين في ظروف احتجاز قاسية، وارتكاب انتهاكات ممنهجة ترقى إلى التعذيب والمعاملة اللاإنسانية.

وأشار التقرير إلى أن هذه الأفعال تمثل، مجتمعةً، تنفيذًا ماديًا لجريمة الإبادة الجماعية التي تهدف إلى تدمير الجماعة الفلسطينية كليًا أو جزئيًا، سواء عبر القتل المباشر أو تدمير مقومات الحياة.

ومن الناحية القانونية، أكّد التقرير أنّ الفلسطينيين يُعتبرون جماعة محمية بموجب اتفاقية 1948، وأنّ ما وقع في غزة يندرج بوضوح تحت تعريف الإبادة الجماعية الوارد في المادة الثانية من الاتفاقية

ولفت إلى أنّ محكمة العدل الدولية أكدت في قرارها الصادر في 26 يناير/كانون الثاني 2024 وجود أساس معقول لاعتبار ما تقوم به إسرائيل “إبادة جماعية قيد التنفيذ”، وهو ما يعزز مسؤولية المجتمع الدولي في منع استمرار الجريمة ومحاسبة مرتكبيها.

ودعا التقرير الدول الأطراف في اتفاقية منع الإبادة الجماعية إلى الوفاء بالتزاماتها القانونية والأخلاقية، واتخاذ إجراءات عاجلة لوقف الجرائم ومحاسبة المسؤولين عنها أمام المحكمة الجنائية الدولية.

وطالب الأمم المتحدة بإرسال بعثات تحقيق دولية مستقلة، وبتأمين ممرات إنسانية آمنة ومستدامة، وإعادة تمويل وكالة "أونروا" التي تعرّضت لحملات تحريض واستهداف ممنهج.

وأكد أن استمرار الصمت الدولي إزاء الجرائم يشكل مشاركة ضمنية في الجريمة، ويقوّض النظام القانوني الدولي برمّته، داعيًا إلى اتخاذ موقف سياسي وقانوني واضح يرفض منطق الإفلات من العقاب ويعيد الاعتبار لمبادئ العدالة والكرامة الإنسانية.

وخلص التقرير إلى أن ما جرى وما يزال في قطاع غزة هو إبادة جماعية مكتملة الأركان، ناتجة عن تحريض ممنهج تقوده الدولة الإسرائيلية وأجهزتها الرسمية،

وأكد أن هذه الجرائم لن تُمحى من الذاكرة، وأن المحاسبة القانونية ليست خيارًا سياسيًا، بل واجب دولي وإنساني لحماية ما تبقّى من الضمير العالمي.

وأوصت "حشد" بضرورة وقف فوري شامل للأعمال العدائية، وحماية خاصة للمستشفيات والطواقم الطبية ومراكز الإيواء وقوافل المساعدات، وفتح المعابر دون قيد، وضمان تدفق الوقود والدواء والغذاء والمياه، وتأمين قنوات توزيع آمنة وغير مسيّسة.

ودعت إلى تحقيق دولي مستقل في جريمة التحريض العلني على الإبادة وأفعالها المادية، وإحالة الملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وطالبت بتعليق نقل الأسلحة والذخائر التي تُستخدم على نحوٍ عشوائي أو محظور، ومراجعة نظم الترخيص والتزويد، وحماية "أونروا" وسائر الوكالات الأممية من التشريعات/الإجراءات التعسفية، واستعادة التمويل وضمان الوصول غير المقيّد.

وأكدت على ضرورة تمكين عودة النازحين قسرًا إلى مساكنهم وممتلكاتهم، ورفض أي مشاريع "هجرة طوعية" قسرية، وكذلك إلزام المنصات بإجراءات شفّافة ومتساوية لردع خطاب الإبادة والكراهية، ومحاسبة أوجه التقصير البنيوي.

مقالات مشابهة

  • لدينا مؤهلات قوية.. مدير حملة العناني لـ شريف عامر: تواصلنا مع جميع السفارات مبكرًا
  • د. منال إمام تكتب: حين تكلمت مصر.. الدبلوماسية المصرية تكتب التاريخ قبيل العبور
  • السفير المصري في أبوجا يلتقي بأعضاء الجالية المصرية في نيجيريا
  • إطلاق الترجمات العالمية لكتابَي أحمد أبو الغيط: توثيق للتاريخ وشهادة على الدبلوماسية المصرية
  • تقرير يُوثق خطابات التحريض الإسرائيلي ودورها في تكريس الإبادة بغزة
  • سفير مصر السابق لدى إسرائيل يوضح دور الدبلوماسية المصرية خلال حرب أكتوبر
  • حزب ”المصريين“: فوز خالد العناني برئاسة اليونسكو يؤكد قوة الدبلوماسية المصرية
  • بعد انتخابه مديرًا عامًا لـ اليونسكو.. أبو العينين يهنئ خالد العناني: فوز ثمين يعكس قوة الدبلوماسية المصرية وقيمتها كقاطرة للعلوم والثقافة
  • نائب وزير الخارجية يلتقي بأبناء الجالية المصرية في المانيا
  • فيديوهات التحريض.. سلاح داعش لتجنيد الأطفال