شبكة الضفتين: آلة نفوذ إماراتية بخمسة مفاتيح على سواحل اليمن والقرن الإفريقي (تحليل خاص)
تاريخ النشر: 17th, October 2025 GMT
لم تعد الحرب اليمنية مجرد صراع داخلي على السلطة أو الجغرافيا، بل تحولت إلى مختبر استراتيجي يعيد رسم توازنات الإقليم. ومع انخراط الإمارات في التحالف العربي، لم تكتف بالدور العسكري المباشر، بل أسست نموذجا جديدا للنفوذ يعتمد على التحكم بالموانئ والممرات البحرية وبناء شبكة نفوذ تمتد من السواحل اليمنية إلى القرن الإفريقي.
هذا التحول جعل البحر الأحمر وبحر العرب مساحة نفوذ متصلة تعمل فيها أبوظبي بمنطق الجغرافيا–السياسة، حيث تصبح الجزر والموانئ أدوات سيطرة بقدر ما هي ممرات تجارة.
تظهر وثائق الأمم المتحدة وتحليلات مراكز أبحاث مثل مجموعة الأزمات الدولية ومركز ستراتفور أن الإمارات لم تتعامل مع البحر كحد طبيعي بل كجسر للنفوذ. فمنذ عام 2015 بدأت مرحلة بناء هادئ لهيكل من القواعد والمرافئ والعلاقات المحلية والدولية.
التقرير الصادر عن ستراتفور عام 2022 يشير إلى أن "الإمارات تبني شبكة نفوذ بحرية غير معلنة تمتد من خليج عدن إلى بربرة، تدار عبر وكلاء محليين وهياكل أمنية متداخلة".
في هذا التحليل، نحاول قراءة هذه الشبكة بوصفها منظومة متكاملة ذات خمسة مفاتيح: المنبع في شبوة ومرّة، الشفة في بلحاف، البرج في الريان، السنترال في ميون، والورشة في المخا، وحول هذه العقد الخمس تدور شبكة نفوذ بحرية – برية تديرها أبوظبي عبر وكلاء محليين، وتتكامل مع حضور مقابل في الضفة الإفريقية يشمل عصب وبربرة، ومن خلال هذه الخريطة المترابطة، نكتشف أن البحر لم يعد خلفية للأحداث اليمنية، بل أصبح المحرك الفعلي لسياسات القوة في المنطقة.
تعتمد هذه المنظومة على فلسفة "النفوذ بالوكالة"، أي إدارة المصالح عبر شركاء محليين يملكون الغطاء السياسي والميداني، فيما تحافظ أبوظبي على حضور منخفض الكلفة وعالي التأثير. تقرير لمركز كارنيغي في 2023 وصف هذه المقاربة بأنها "استراتيجية السيطرة عبر الإدارة غير المباشرة، حيث تستخدم أدوات التنمية والأمن في آن واحد لبناء حضور دائم دون احتلال معلن".
بهذا المعنى، يصبح البحر اليمني فضاء سياسيا لا جغرافيا، وملف الجزر والموانئ ليس تفصيلا عسكريا بل عمودا فقريا في سياسة خارجية إماراتية تسعى لتأمين خطوط الطاقة والملاحة، وموازنة القوى الإقليمية على ضفتي البحر الأحمر والمحيط الهندي.
الدراسة التالية تتتبع هذا الامتداد، عقدة بعد أخرى، لتفكك مكونات ما يمكن تسميته بـ"آلة النفوذ الإماراتية" في شبكة الضفتين.
الجغرافيا حين تتحول إلى سياسة خارجية
لا يمكن فهم اليمن من الداخل فحسب، فقصته تبدأ من البحر وتمتد إليه، إن الخط الممتد من باب المندب حتى بحر العرب، ومن المحيط الهندي إلى قناة السويس، هو شريان الجغرافيا الذي تتنفس منه السياسة والاقتصاد والأمن في آن واحد. على هذا الخط تعبر الطاقة والبضائع، ومنه أيضا تتنقل القوة. تاريخ اليمن، كما يذكر الباحث الجغرافي الفرنسي جان لوي ريشارد في دراسته عن البحر الأحمر (2020)، هو "تاريخ الضفة التي كانت دائماً مطلوبة أكثر مما كانت قادرة على المطالبة".
منذ دخول الإمارات الحرب عام 2015 ضمن التحالف العربي، بدأ تحول جذري في مقاربة البحر اليمني. لم يعد البحر مجرد ساحة عمليات عسكرية بل تحول إلى إطار استراتيجي تعاد داخله صياغة النفوذ الإقليمي، ووفق تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر عام 2022، فإن "أبوظبي طورت نموذجا فريدا للتمدد الجغرافي يقوم على السيطرة عبر البنية التحتية وليس عبر الاحتلال المباشر". هذا النموذج تمثل في بناء عقد لوجستية (موانئ، مطارات، قواعد، وجزر)، وتفعيل وكلاء محليين (المجلس الانتقالي الجنوبي، ألوية العمالقة، قوات النخب، وقوات طارق صالح)، إلى جانب تأسيس امتدادات مقابلة في الضفة الإفريقية تشمل عصب وبربرة وبورتسودان.
في يوليو 2019، أعلنت الإمارات ما سمته إعادة انتشار قواتها في اليمن، في خطوة قدمت كتحول من الحرب إلى "السلام أولاً". لكن التقارير الميدانية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وصفت هذه الخطوة بأنها "انسحاب شكلي"، فقد خفضت أبوظبي بصمتها العسكرية المباشرة لكنها أبقت شبكة النفوذ قائمة، تعمل عبر وكلاء محليين وتدار من قواعد خلفية في الساحل والجزر. صحيفة فايننشال تايمز البريطانية وصفت ذلك في تقريرها (نوفمبر 2020) بأنه "نموذج الهيمنة الهادئة التي تتيح للإمارات الاحتفاظ بمفاتيح البحر دون رفع علمها على أي جزيرة".
هذا التحول في الجغرافيا السياسية جعل اليمن نقطة انطلاق نحو ما يمكن تسميته بـ"النفوذ العابر للضفتين". فبينما كانت عصب في إريتريا تستخدم قاعدة انطلاق أولى لعمليات الساحل الغربي عام 2015، بدأت تظهر ملامح التمركز في الجزر اليمنية كسلسلة مترابطة من محطات السيطرة: ميون، سقطرى، عبد الكوري، الريان، بلحاف، والمخا. دراسة صادرة عن مركز أبعاد (2023) وصفت هذه الخطة بأنها "تحويل البحر اليمني إلى منطقة أمن اقتصادي–عسكري تحت إدارة غير مباشرة، تمكن من التحكم بخطوط الطاقة والملاحة دون إعلان سيادة مباشرة".
من هذا المنظور، يصبح البحر اليمني ليس مجرد واجهة جغرافية بل محور نفوذ إقليمي، فاليمن هو الممر، لكن البحر هو الغاية، ومع كل عقدة تبنى أو تدار، تتضح معالم آلة نفوذ تستثمر الجغرافيا كأداة للسياسة الخارجية، لهذا يمكن القول إن اليمن كان المدخل، أما البحر فهو الهدف، والضفتان معاً تمثلان معمل النفوذ الجديد في معادلات الشرق الأوسط الحديثة.
شبوة - معسكر مرّة: أوتاد الداخل وقبو الموارد
في عمق محافظة شبوة، وعلى مقربة من خطوط أنابيب النفط الممتدة من بيحان ومأرب إلى بلحاف، يقع معسكر مرّة الذي مثل منذ 2016 أحد أهم أعمدة النفوذ الإماراتي في الداخل اليمني.
هذا الموقع لم يكن مجرد ثكنة عسكرية، بل ركيزة لتشكيل هندسة أمنية متكاملة تجمع بين السيطرة على الأرض، وتأمين طرق الطاقة، يقول تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية في 2022 إن "معسكر مرّة أصبح العمود الفقري لشبكة النفوذ الإماراتية في شبوة، ومركز القيادة الميدانية الذي يدير العمليات بين الشرق والجنوب".
بدأت المرحلة الأولى لبناء المعسكر في 2016 بإنشاء قاعدة مؤقتة تحت غطاء تدريب القوات المحلية، ومع نهاية 2017 تحولت إلى منشأة دائمة بعد أن أضيفت مهابط للطيران ومدرج ترابي بطول يقارب كيلومترين، إلى جانب مستودعات لتخزين العتاد وغرف قيادة محصنة، وبين 2018 و2020 توسعت البنية التحتية أفقياً، فتم شق طرق تربط المعسكر بمدينة عتق وميناء بلحاف وخط مأرب، وأنشئت نقاط مراقبة مزودة برادارات صغيرة وأجهزة اتصالات حديثة، والمرحلة الثالثة، التي بدأت فعلياً في 2021، شهدت تحويل المعسكر إلى مركز تحكم متكامل لإدارة العمليات الأمنية والعسكرية في الإقليم، مزود بمخازن تحت الأرض وأنفاق في التلال المحيطة.
صحيفة ذي غارديان البريطانية نشرت في تقرير لها (2022) أن "مرّة باتت أشبه بقلعة لوجستية، تستخدم لتأمين خطوط تصدير الطاقة وتنسيق تحركات القوات المتحالفة مع الإمارات في شبوة"، كما نقلت وكالة أسوشييتد برس عن مصادر ميدانية أن المعسكر يضم مركز مراقبة متقدما يربط مباشرة مع وحدات في بلحاف والريان، عبر شبكة اتصالات مشفرة تدار جزئيا من منشآت في الساحل.
في أغسطس 2022، اندلعت مواجهات بين قوات دفاع شبوة الموالية للإمارات ووحدات من الجيش الحكومي، انتهت بسيطرة الأولى على مدينة عتق وتثبيت حضورها في المعسكر، وهذا الحدث أعاد رسم الخريطة الأمنية للمحافظة. أحد شيوخ القبائل قال لموقع المونيتور: "من يملك مرّة يملك قلب شبوة، فهو مركز القرار في كل ما يتعلق بخطوط النفط والغاز". ، ومنذ ذلك الوقت، توسعت المنشآت المحيطة بالمعسكر لتشمل ورش صيانة ميدانية ومرافق تخزين وقود ومهابط إضافية للطائرات المسيّرة.
تقرير للأمم المتحدة عام 2023 أشار إلى أن "الوجود العسكري في معسكر مرّة يتجاوز الطابع المحلي، ويشكل جزءاً من منظومة تنسيق إقليمي تشمل القواعد في بلحاف وميون". هذا الارتباط جعل من مرّة عقدة رئيسية في ما يمكن تسميته بـ"الجبهة الداخلية" لشبكة النفوذ الإماراتية في اليمن.
على المستوى الاجتماعي، أدى هذا التوسع إلى احتكاكات مع السكان المحليين، خصوصا بعد فرض قيود على الحركة والرعي في المناطق المحيطة، ورغم اعتراض الحكومة اليمنية واعتبارها ما يجري انتهاكاً للسيادة، استمر المعسكر في التوسع وبناء منشآت جديدة حتى عام 2024، ليصبح رمزاً عملياً لتحول الحرب من صراع جبهات إلى هندسة نفوذ مستدامة داخل الجغرافيا اليمنية.
بلحاف: الغاز كأداة في السياسة الخارجية
منشأة بلحاف الواقعة على الساحل الجنوبي لمحافظة شبوة لم تعد مجرد مشروع اقتصادي لتسييل الغاز الطبيعي، بل تحولت إلى محور صراع السيادة والنفوذ في اليمن، فمنذ بداية الحرب، اتخذت الإمارات من الموقع قاعدة استراتيجية تمزج بين الأبعاد الاقتصادية والعسكرية والأمنية، ما جعلها نقطة التقاء بين مصالح الطاقة ومشاريع النفوذ الإقليمي.
تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2021 وصف بلحاف بأنها "تحولت من محطة لتصدير الغاز إلى منشأة أمنية مغلقة تديرها قوات أجنبية بالتنسيق مع وحدات محلية"، مشيراً إلى وجود مرافق مزدوجة الاستخدام في الموقع، كما ذكر تقرير للبنك الدولي في 2023 أن تعطيل إنتاج الغاز في بلحاف "حرم اليمن من أكثر من عشرة مليارات دولار من العائدات المفقودة"، ما جعله من أكثر الملفات الاقتصادية حساسية في البلاد.
بدأت عمليات التوسع في بلحاف على ثلاث مراحل: الأولى كانت في عام 2016 حين أنشئت وحدات حماية أمنية دائمة لتأمين خطوط الأنابيب الممتدة من مأرب وبيحان إلى الساحل، والثانية في 2018 حيث شهدت المنشأة بناء مرافق إضافية تشمل مخازن وصوامع ومحطات اتصالات ساحلية ورادارات مراقبة بحرية، والثالثة بين 2020 و2022 حيث تم تحويل جزء من الميناء إلى مركز مراقبة لوجستي يربط بين منشآت الطاقة ومواقع التمركز في شبوة والريان وميون.
صحيفة لوموند الفرنسية نقلت في تقرير لها (2022) عن خبير أوروبي قوله إن "من يسيطر على بلحاف لا يتحكم فقط في الغاز اليمني، بل في إيقاع الحركة الاقتصادية والسياسية في الجنوب"، وقد أشار التقرير إلى أن الموقع يستخدم اليوم كغرفة عمليات للتحكم بتدفق الطاقة وبالقرار الاقتصادي المحلي.
من الناحية العسكرية، أدخلت تحسينات على البنية التحتية سمحت بتحويل بعض المنشآت إلى مراكز اتصال وأنظمة رصد ساحلية، كما زودت المرافق بمهابط مخصصة لطائرات مروحية ومسيّرة، ما منح الموقع طابعاً مزدوجاً يجمع بين الحماية والإدارة اللوجستية، تقرير رويترز (2021) أشار إلى أن "الموقع شهد تحديثات هندسية سمحت بتشغيل جزئي سريع أو إيقاف فوري عند الضرورة الأمنية".
على المستوى السياسي، شكلت أزمة بلحاف اختباراً لتوازن القوى بين الحكومة اليمنية والتحالف. ففي أواخر 2021 دعا محافظ شبوة آنذاك محمد بن عديو إلى إخلاء القوات الأجنبية واستئناف التصدير، لكن موقفه أدى إلى إقالته بعد أسابيع. أحد المحللين في مركز كارنيغي للشرق الأوسط علق على الحادثة بالقول: "إقالة بن عديو أكدت أن القرار في بلحاف يتجاوز سلطة المحافظين ويدار وفق اعتبارات إقليمية لا محلية".
هذا التعقيد جعل بلحاف واحدة من أعقد عقد النفوذ في اليمن. فهي ليست منشأة طاقة فحسب، بل عقدة سيطرة متعددة الوظائف تجمع بين حماية الموارد وتوجيه القرار الاقتصادي والسياسي في الجنوب. ومع مرور الوقت، تحولت بلحاف إلى مرآة تعكس فلسفة النفوذ الإماراتي في اليمن: حضور منخفض الكلفة، مرتفع العائد، يستثمر الاقتصاد لتثبيت الأمن، ويستخدم الأمن لضبط الاقتصاد.
المكلا - الريان: برج المراقبة الشرقي
منذ تحرير مدينة المكلا من سيطرة تنظيم القاعدة في أبريل 2016، أصبح مطار الريان رمزا لتحول البنية التحتية المدنية إلى جزء من منظومة أمنية إقليمية، فالمطار الذي كان بوابة حضرموت التجارية تحول تدريجيا إلى مركز قيادة وتحكم يغطي الممرات البحرية الممتدة من بحر العرب حتى خليج عدن، ووفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة في 2020، فإن "التحالف العربي، وتحديدا القوات المدعومة من الإمارات، استخدم مطار الريان كنقطة مراقبة جوية وبحرية متقدمة ضمن عمليات مكافحة الإرهاب في الجنوب".
تشير بيانات مجموعة الأزمات الدولية (2022) إلى أن التحول في الريان لم يكن عسكرياً بحتاً، بل جزءاً من مشروع أوسع يربط الموانئ والمطارات اليمنية بشبكة مراقبة إلكترونية تتكامل مع قواعد الدعم في بلحاف وميون وسقطرى، هذا التكامل منح الإمارات قدرة على التحكم بخطوط الملاحة التجارية في بحر العرب، وجعل الريان أشبه ببرج مراقبة يتحكم بإشارات البحر لا برحلات المسافرين.
من الناحية التشغيلية، جرى توسيع المطار بين 2018 و2021، حيث أضيفت مناطق صيانة ومهابط جديدة قادرة على استقبال الطائرات العسكرية وطائرات الشحن الكبيرة. كما أنشئت مرافق خاصة لتخزين الوقود والاتصالات الأرضية المتصلة بالأقمار الصناعية. تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية (2021) أوضح أن "الريان تحول إلى عقدة رادار متقدمة تتيح تتبع السفن والطائرات في البحر العربي، وهو جزء من شبكة مراقبة تتجاوز الحدود اليمنية".
على الصعيد المحلي، تسبب إغلاق المطار أمام الرحلات المدنية لأكثر من ست سنوات في أزمة إنسانية ومعيشية خانقة، واضطر المرضى والطلاب إلى السفر برا لمسافات طويلة للوصول إلى مطار سيئون أو عدن. ووفق تقرير هيومن رايتس ووتش (2022)، فإن "القيود المفروضة على استخدام مطار الريان لأغراض مدنية تمثل عقاباً جماعياً للسكان المحليين". ومع ذلك، لم تفتح الرحلات المنتظمة إلا بشكل محدود في 2023 بعد ضغوط محلية ودولية.
على الصعيد الأمني، بات المطار مركزاً لعمليات الاستطلاع والاستخبارات الجوية، وتفيد تقارير متقاطعة بأن طائرات من دون طيار تشغل من هناك لمراقبة السواحل اليمنية ورصد التحركات البحرية في الممر الدولي. صحيفة واشنطن بوست (2023) نقلت عن مصادر دبلوماسية قولها إن "الريان يشكل اليوم جزءاً من شبكة المراقبة البحرية الممتدة من القرن الإفريقي إلى خليج عمان، ما يجعله أحد أعمدة مشروع المراقبة البحري في المنطقة".
هذا الدور المزدوج جعل من الريان نموذجا مصغرا لمعادلة السيطرة الإماراتية في اليمن: بنية مدنية تعمل كذراع أمنية، وبنية أمنية تقدم كحماية تنموية. فالمطار الذي كان يوماً منفذاً للتجارة والسفر، أصبح الآن مركزاً لتنسيق المراقبة والتحكم في البحر واليابسة على حد سواء، مما جعله البرج الشرقي لشبكة النفوذ الممتدة عبر سواحل اليمن.
سقطرى - عبد الكوري: مرصد المحيط ومفترق الصمت الصاخب
على أطراف المحيط الهندي، حيث يتقاطع بحر العرب مع مداخل القرن الإفريقي، ينهض أرخبيل سقطرى كمرسى طبيعي ومختبر بيئي وإنذاري في آن واحد. منذ 2020 تسارعت وتيرة الإنشاءات في الجزيرة وجزرها التابعة، وعلى رأسها عبد الكوري الواقعة في أقصى الغرب. تقارير صحفية دولية وصور أقمار صناعية مفتوحة المصدر وثقت تشييد مدرج بطول يقارب 1800 متر في عبد الكوري، مع ساحات تموضع ومهابط للمروحيات ومنشآت يرجح أنها مخصصة للاتصالات والمراقبة الساحلية.
ذكرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية أن "الحضور الإماراتي المتزايد في سقطرى منذ 2020 يمثل نقلة نوعية في استخدام الجزر اليمنية كمختبر للتوسع البحري"، بينما نقلت رويترز عن مصادر دبلوماسية أن "الجزيرة شهدت أعمال تطوير قادرة على استقبال طائرات نقل ومسيّرات طويلة المدى". كما أظهرت تحليلات منشورة على منصات تتبع فضائي أن نمط البناء يوحي بوظيفة مزدوجة تجمع بين الدعم اللوجستي ورقابة الممرات البحرية.
الأهمية الاستراتيجية للأرخبيل تتجاوز الجغرافيا المحلية إلى معادلات الأمن الإقليمي، فبحسب تقرير مجموعة الأزمات الدولية (2022)، فإن "سقطرى تمثل حلقة وصل بين الممرات الممتدة من خليج عدن حتى بحر العرب، ما يمنح من يسيطر عليها قدرة على قراءة حركة الملاحة على نطاق واسع". ويتكامل ذلك مع وصف ستراتفور للجزيرة بأنها "عين بعيدة للرقابة البحرية" ضمن مشروع يربط الضفتين العربية والإفريقية.
لكن الأثر البيئي والاجتماعي يثير أسئلة ملحة، فالأرخبيل مدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ 2008 بسبب تفرده البيولوجي. تقارير لخبراء بيئة نقلتها لوموند وناشيونال جيوغرافيك حذرت من أن "أي توسع عسكري أو عمراني غير مدروس قد يهدد التنوع الحيوي الهش". سكان محليون تحدثوا لوسائل إعلام مستقلة عن تغير في أنماط الحركة والصيد التقليدي، وقيود على بعض المساحات التي كانت مفتوحة للعموم.
على مستوى البنية والتدرج الزمني، يمكن رصد ثلاث مراحل رئيسية: مرحلة تموضع أولي (2020) بإنشاء نقاط مراقبة وتمهيد أرضي لمهابط مؤقتة، تلتها مرحلة بناء مدرجات دائمة وساحات تموضع (2021–2023)، ثم مرحلة التكامل الشبكي (منذ 2024) عبر وصل الجزيرة بمراكز تشغيل واتصال في ميون والريان وبلحاف، ما يحول الأرخبيل إلى مرصد محيط متكامل.
يمكن القول أن سقطرى، ومعها عبد الكوري، تشكلان اليوم مرصدا بحريا متقدما و"صمتاً صاخبا" في معادلة النفوذ وحضور منخفض الأعلام مرتفع الأثر، يراقب المحيط ويغذي شبكة الضفتين ببيانات وممرات وآفاق مناورة تمتد من بحر العرب حتى باب المندب.
المخا: ورشة الساحل الغربي ومعسكر القوة 404
لم تعد المخا مجرد ميناء البن التاريخي، بل تحولت خلال الحرب إلى مركز عمليات ولوجستيات متكامل، يمثل القلب الصناعي لشبكة النفوذ الإماراتية على الساحل الغربي. فمنذ عام 2017، بدأ تحويل الميناء إلى ورشة صيانة وإمداد ضخمة، تعمل على دعم القوات المنتشرة في الشريط الساحلي الممتد من الخوخة إلى باب المندب.
تشير تقارير مجموعة الأزمات الدولية (2021–2023) إلى أن المخا أصبحت "العاصمة العسكرية الفعلية للساحل الغربي" بعد اتفاق ستوكهولم، حيث توقفت العمليات الهجومية وتحولت إلى إدارة نفوذ طويل الأمد، هذا التحول تجسد في بناء قواعد صيانة للعربات والزوارق السريعة ومخازن ضخمة للمعدات والذخيرة، إلى جانب إنشاء مهابط للطائرات المسيّرة والمروحيات.
المرحلة الثانية من التوسع (2019–2021) شملت إنشاء منشآت تحت الأرض وغرف قيادة محصنة تحت إشراف مباشر من ضباط إماراتيين. أما المرحلة الثالثة (2022–2024) فتميزت بإنشاء معسكر القوة 404، الذي تحول إلى أكبر مركز احتجاز وتحقيق في الساحل الغربي. وثّقت تقارير هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية (2021–2023) وجود سجون سرية تدار من قبل ضباط مرتبطين بعمار صالح، يشرفون على احتجاز مئات المعتقلين، بعضهم تعرض للاختفاء القسري. صحيفة ميدل إيست آي نقلت شهادات لمعتقلين سابقين وصفوا المعسكر بأنه "منطقة معزولة داخل منطقة عسكرية لا يدخلها إلا من يحمل تصريحاً إماراتياً".
صحيفة واشنطن بوست (2023) أشارت إلى أن المخا تمثل "عصب شبكة البحر الأحمر"، إذ تُدار منها عمليات التموين والاستخبارات الساحلية. أما رويترز فقد وصفتها بأنها "مركز التنسيق بين القواعد الخمس"، مشيرة إلى أنها تؤمن الدعم اللوجستي لميون وبلحاف والريان وسقطرى. ووفق تحليل مركز ستراتفور (2023)، فإن "المخا تمثل ورشة التحكم الميدانية التي تضمن استمرارية العمليات دون انقطاع".
في الجانب المدني، تغيرت هوية المدينة بشكل جذري. تراجعت أنشطة التجارة التقليدية، وارتفعت أسعار الأراضي والإيجارات مع توسع الوجود العسكري. دراسة ميدانية لصحفيين محليين (2023) وصفت المخا بأنها "مدينة ثكنات"، حيث أصبحت المهن الأمنية والخدمية تحل محل المهن المدنية القديمة. ومع ذلك، ما زالت المدينة تؤدي دورها كبوابة إمداد للخط الساحلي، ونقطة انطلاق للعمليات نحو ميون وتأمين المضيق.
من منظور أوسع، تمثل المخا الورشة التشغيلية لشبكة الضفتين، حيث تُشحذ الأدوات وتُدار الصيانة والإمداد، وتُضبط الإيقاعات اليومية للحركة بين الجزر والمضيق. هنا يتجسد مبدأ الحضور بالظل: سيطرة لوجستية دقيقة لا تُرى بالعين، لكنها تمسك بخيوط البحر من خلف الستار.
الخوخة: عقدة التموين والظل الأمني في الساحل الغربي
الخوخة، المدينة الساحلية الواقعة بين المخا والحديدة، تمثل اليوم إحدى العقد التشغيلية الأهم في منظومة النفوذ الإماراتي على الساحل الغربي. فمنذ عام 2018، تحولت من منطقة عبور صغيرة إلى قاعدة إمداد وتموين لوجستي تُستخدم لدعم القوات المنتشرة على طول الشريط الساحلي الممتد حتى باب المندب. تقرير لمجموعة الأزمات الدولية (2022) أشار إلى أن "الخوخة أصبحت مركز تموين متقدم ضمن شبكة النفوذ الإماراتية، حيث تُدار منها العمليات الميدانية والإمدادات اللوجستية باتجاه المخا وحيس".
من الناحية الهندسية، شهدت الخوخة أعمال توسعة متسارعة شملت إنشاء مخازن وقود ومرافق صيانة للمركبات، إلى جانب مهابط للمروحيات ومهاجع للقوات الميدانية. تقارير ميدانية لمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش (2021–2022) وثقت وجود مواقع احتجاز مؤقتة تُستخدم للتحقيقات الميدانية، بعضها داخل مرافق لوجستية مغلقة تابعة لتشكيلات محلية مدعومة من الإمارات.
صحيفة واشنطن بوست (2023) وصفت الخوخة بأنها "مركز الإمداد الذي لا يُذكر"، في إشارة إلى غيابها عن الخطاب السياسي رغم أهميتها في إدارة سلسلة الإمداد العسكري. وذكرت الصحيفة أن القوات المتمركزة هناك تعمل وفق نمط "الحضور بالظل"، أي التواجد الميداني المكثف دون إعلان رسمي، وهو ما يمنح الإمارات قدرة على إدارة التموين العسكري والبحري بسرية وفعالية.
من الناحية الأمنية، تُستخدم الخوخة كمنطقة عازلة بين خطوط التماس شمالاً والمخا جنوباً، حيث يتم فيها تجميع البيانات الميدانية وتحليلها قبل إعادة توجيهها نحو القيادة في المخا أو ميون. تقرير صادر عن مركز ستراتفور (2023) أشار إلى أن "الخوخة تضم وحدات مراقبة أرضية مزودة بأنظمة تحديد مواقع وإرسال لاسلكي، تعمل كغرفة عمليات متقدمة تدير المهام اللوجستية اليومية".
أما على المستوى الاجتماعي، فقد تغيرت ملامح المدينة بشكل واضح. فقد تراجعت أنشطة الصيد والزراعة التقليدية لصالح المهن الأمنية والخدمية المرتبطة بالقواعد الجديدة. سكان محليون تحدثوا لموقع المصدر أونلاين (2023) عن "انتشار نقاط تفتيش جديدة وتوسع عمراني غير منظم في أطراف المدينة". وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار الإيجارات وتزايد الطلب على الخدمات التجارية الصغيرة التي تلبي احتياجات الوحدات العسكرية.
في العمق، تمثل الخوخة اليوم حلقة الدعم الخلفي لورشة المخا وسنترال ميون، وهي بمثابة مستودع تموين يتحرك بالظل. حضورها لا يُرفع عليه علم، لكنه يحافظ على نبض شبكة النفوذ الإماراتية عبر البحر الأحمر، ويؤكد أن السيطرة لا تحتاج دائما إلى إعلان، بل إلى قدرة صامتة على تشغيل الميدان دون ضجيج.
ميون: سنترال المضيق وهاتف البحر الأحمر
في قلب مضيق باب المندب، الممر الذي تمر عبره يومياً أكثر من خمسة ملايين برميل من النفط، تقع جزيرة ميون الصغيرة التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى عقدة استراتيجية في مشروع النفوذ البحري الإماراتي. صور الأقمار الصناعية التي حللتها وكالة أسوشييتد برس (2021) كشفت عن مدرج جديد بطول 1850 متراً وحظائر للطائرات، فيما وصف تقرير واشنطن بوست (2022) الجزيرة بأنها "سنترال المضيق الذي يربط بين بحر العرب والبحر الأحمر".
تطور الوجود في ميون على ثلاث مراحل متداخلة: مرحلة التموضع الأول (2016–2018) التي شهدت إنشاء مهبط ترابي ومنشآت دعم لوجستي مؤقتة، ثم مرحلة التحصين (2019–2021) حيث بدأت أعمال البناء الدائم وتوسيع المدرج وإنشاء مرافق اتصالات عسكرية ومخازن محصنة، وأخيراً مرحلة التشغيل التكتيكي (2022–2024) التي تميزت بتكامل الجزيرة ضمن شبكة المراقبة البحرية الممتدة بين الريان وسقطرى وبلحاف.
تقرير لمركز ستراتفور الأمريكي أوضح أن "جزيرة ميون أصبحت مركز عمليات متقدم يتيح مراقبة السفن العابرة في المضيق والتحكم بخطوط الاتصال البحرية بين الشرق والغرب". كما أشار تقرير مجموعة الأزمات الدولية (2023) إلى أن "الوجود الإماراتي في ميون يشكل جزءاً من مشروع أكبر يربط قواعد النفوذ من القرن الإفريقي إلى خليج عدن".
القوات المتمركزة في الجزيرة تدار عبر وكلاء محليين يتبعون تشكيلات العميد طارق صالح، وهي قوات مدعومة لوجستياً من أبوظبي وتعمل ضمن ما يسمى بـ"قوات الساحل الغربي". هذا النمط من الإدارة عبر التفويض بالوكالة يمنح الإمارات مرونة في الإنكار السياسي، مع الحفاظ على قدرة تشغيل كاملة. تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية (2023) نقل عن مصادر أمنية أن "الجزيرة تدار فعلياً من قبل شبكة قيادة محلية ذات إشراف إماراتي غير معلن".
من الناحية العسكرية، يتيح موقع ميون مراقبة الممر الدولي والسيطرة على حركة السفن التجارية والعسكرية في المضيق. كما تستخدم مرافقها كمحطة إمداد لوجستي للسفن والطائرات بدون طيار. وفق تحليل لرويترز (2022)، فإن "المدرج الجديد يسمح بإقلاع الطائرات الاستطلاعية والمسيّرات طويلة المدى التي يمكنها الوصول إلى القرن الإفريقي وخليج عدن خلال دقائق".
لكن هذه الهيمنة العسكرية أثارت مخاوف سيادية في الداخل اليمني. فقد وصفت الحكومة وجود تلك المنشآت بأنه انتهاك للسيادة الوطنية، في حين بررت الإمارات نشاطها بأنه يندرج ضمن جهود تأمين الملاحة الدولية. ويشير باحثون يمنيون إلى أن "ميون تمثل المعنى الفعلي للسيطرة غير المعلنة: جزيرة يمنية بإدارة محلية وقرار استراتيجي خارجي".
في المحصلة، أصبحت ميون حلقة وصل مركزية بين البحرين العربي والأحمر، وجزءاً لا يتجزأ من منظومة "شبكة الضفتين" التي تمنح الإمارات موقعاً للتحكم في واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.
لا تقتصر أهمية جزيرة ميون على موقعها الجغرافي فحسب، بل تمتد إلى دورها المتزايد كمنصة استخباراتية وتقنية في شبكة النفوذ الإماراتية. منذ عام 2020، كشفت صور الأقمار الصناعية ومصادر استخبارات بحرية أن المنشآت في الجزيرة ليست مجرد بنية تشغيلية للمراقبة السطحية، بل تشمل أيضاً تجهيزات متقدمة للاتصالات المشفرة وأجهزة استشعار بحرية.
تقرير لوكالة رويترز (2022) أشار إلى أن "المنظومة التقنية في ميون تضم تجهيزات رصد إلكتروني قادرة على تتبع الإشارات اللاسلكية للسفن والطائرات"، بينما ذكرت صحيفة واشنطن بوست (2023) أن "الجزيرة تحولت إلى مركز تنصت بحري يخدم عمليات جمع المعلومات من القرن الإفريقي إلى خليج عدن". كما نشرت منصة Intelligence Online الفرنسية (2024) أن ميون تشكل اليوم جزءاً من شبكة المراقبة الإقليمية التي تديرها الإمارات عبر مزيج من التكنولوجيا الإسرائيلية والأمريكية.
من الناحية الهندسية، شهدت الجزيرة منذ 2021 توسعاً في بنيتها التحتية يشمل إنشاء أبراج اتصالات وأجهزة رادار منخفضة البصمة، إلى جانب مراكز بيانات مصغّرة تعمل بأنظمة تبريد بحرية لتخفيف استهلاك الطاقة. هذه التقنيات تُستخدم عادة في أنظمة المراقبة المستمرة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل الحركة البحرية والجوية. وبحسب دراسة لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن (2023)، فإن هذه الأنظمة "تتيح مراقبة فورية للممرات الاستراتيجية وتمنح الإمارات قدرة استباقية على تحديد التهديدات أو الفرص اللوجستية".
مصادر يمنية محلية نقلت عن ضباط سابقين أن "الجزيرة تُستخدم أيضاً لتدريب فرق استطلاع يمنية على تقنيات المراقبة البحرية، وأن بعض المهندسين من شركات اتصالات خليجية شاركوا في تركيب معدات الرصد". هذا الدمج بين التدريب المحلي والتكنولوجيا الأجنبية جعل من ميون مركزاً مزدوجاً يجمع بين الاستخبارات التقنية والعمليات الميدانية.
على الجانب الدبلوماسي، أبدت دول إقليمية، منها السعودية ومصر، قلقاً من الطابع المتقدم للمنشآت في الجزيرة. صحيفة العربي الجديد (2024) نقلت عن مصدر دبلوماسي عربي قوله إن "وجود هذه التقنيات في جزيرة ميون يجعلها عيناً إلكترونية على واحد من أهم الممرات العالمية، ويخلق تداخلاً مع مصالح قوى بحرية أخرى".
بهذا المعنى، تتحول ميون من سنترال للمضيق إلى عقدة استخباراتية متقدمة، لا تراقب البحر فقط بل تحلله وتعيد توجيه قراءته السياسية والعسكرية. إنها ليست مجرد جزيرة في خريطة النفوذ، بل مركز بيانات للبحر الأحمر، حيث تمتزج الجغرافيا بالسيبرانية، والمضيق بالمعلومة.
عدن: العاصمة الشبكية ومختبر النفوذ المزدوج
في عدن تتشابك الخيوط السياسية والعسكرية لتشكل عقدة السلطة والنفوذ الأكثر تعقيداً في المشهد اليمني. فمنذ أن فرض المجلس الانتقالي الجنوبي سيطرته على المدينة عام 2019 بدعم إماراتي مباشر، عملت أبوظبي على تثبيت هذا الكيان كذراع سياسي وأمني لها من خلال عمليات ممنهجة لتصفية خصومه داخل المدينة، ومنع عودة الرئيس عبدربه منصور هادي إلى العاصمة المؤقتة، وتعطيل انعقاد البرلمان في عدن عبر أدوات ضغط ميدانية وهجمات على قصر معاشيق في أكثر من مناسبة. كما أشرفت الإمارات على بناء قوات أمنية وعسكرية خارج سلطة الحكومة، وأقامت شبكة من السجون السرية في البريقة وعدن الصغرى يديرها ضباط إماراتيون ومحليون موالون لها، رافقها حملات اعتقال لناشطين وضباط رافضين للنفوذ الجديد. بالتوازي، جرى تعطيل نشاط ميناء عدن تدريجياً لصالح تحويل حركة الشحن نحو الموانئ التي تديرها شركات إماراتية، فيما تم إنشاء قاعدة عسكرية موسعة في العند تُدار من قبل قوات إماراتية تشرف على المجال الجوي والبري للمدينة. هذه التحركات مجتمعة مكنت أبوظبي من فرض هيمنة شاملة على عدن إعلامياً وأمنياً واقتصادياً، لتتحول إلى عاصمة موازية تعمل وفق نموذج "الإدارة الشبكية" الذي تمزج فيه بين النفوذ الأمني والاقتصادي والإداري.
تقرير هيومن رايتس ووتش (2022) وثّق وجود مراكز احتجاز تابعة لقوات الحزام الأمني في المدينة، تعمل خارج إطار القضاء الرسمي، ما يعكس ازدواجية السلطة بين الحكومة الشرعية والتشكيلات المدعومة من الإمارات. هذا الازدواج الإداري ظهر أيضاً في إدارة الميناء والمطار؛ فوفق تقرير فايننشال تايمز (2022)، "يعمل ميناء عدن ضمن نظام تشغيل مزدوج تشارك فيه شركات محلية ذات صلة بالإمارات إلى جانب هيئة موانئ عدن". أما المطار فقد خضع لتحديثات أمنية وتقنية جعلته جزءاً من منظومة المراقبة البحرية والجوية المرتبطة بشبكة الضفتين.
على المستوى السياسي، تمثل عدن نقطة التقاء مصالح القوى الإقليمية؛ فالرياض تسعى لتثبيت الحكومة ومؤسساتها، بينما تركز أبوظبي على بناء نفوذ مؤسسي دائم. تقرير مجموعة الأزمات الدولية (2023) وصف المدينة بأنها "المختبر السياسي الذي يختبر فيه التحالف توازنات النفوذ بين ضفتي البحر الأحمر". هذه الازدواجية جعلت عدن مركز إدارة الشبكة، ومنصة لتنسيق الحركة بين مفاتيح السيطرة الخمسة: شبوة، بلحاف، الريان، ميون، والمخا.
اجتماعياً، انعكست هذه التركيبة على البنية الحضرية للمدينة. فقد ارتفعت كلفة المعيشة وتراجعت الخدمات العامة، بينما نشأت طبقة جديدة من العاملين في المرافق الأمنية واللوجستية. أحد الأكاديميين بجامعة عدن وصف المدينة قائلاً: "عدن اليوم ليست عاصمة دولة، بل لوحة تحكم في نظام نفوذ متعدد المستويات". وهكذا باتت عدن قلب الشبكة وواجهة مشروع النفوذ الذي يمزج بين الأمن والاقتصاد والسياسة.
الامتداد الإفريقي: المثلث المقابل على الضفة الأخرى
في الضفة المقابلة من البحر الأحمر، تمد الإمارات خيوط نفوذها عبر القرن الإفريقي، لتغلق الدائرة حول الممرات البحرية اليمنية. هذا الامتداد يشكل الجناح المقابل لشبكة الضفتين، ويعكس استراتيجية إماراتية تجمع بين الاستثمار البحري والتموضع العسكري.
بدأت الحلقة الأولى من قاعدة عصب الإريترية عام 2015، حيث بنت الإمارات مدارج للطائرات ومستودعات للذخيرة استخدمت لدعم عملياتها في الساحل الغربي. تقرير رويترز (2019) وصف القاعدة بأنها "رئة عمليات الإمارات في البحر الأحمر". ومع تراجع النشاط العسكري بعد 2019، تحولت القاعدة إلى محطة دعم استخباراتي ولوجستي.
في بربرة (صوماليلاند)، وقّعت شركة موانئ دبي اتفاق تطوير الميناء لمدة 30 عاماً، ما منح أبوظبي حضوراً دائماً في خليج عدن. وفق تقرير فايننشال تايمز (2020)، "تحولت بربرة إلى منصة تجارية–عسكرية تمنح الإمارات قدرة على مراقبة الممرات نحو باب المندب". أما جيبوتي، فرغم إنهاء عقد موانئ دبي في محطة دوراليه، فقد واصلت الإمارات وجودها الاقتصادي عبر شركات وسيطة. بينما شكل ميناء بورتسودان في السودان الامتداد الثالث للمثلث، حيث تسعى الإمارات لتطوير ميناء جديد ضمن استثمارات استراتيجية طويلة الأمد.
تقرير لمجلة فورين بوليسي (2023) أشار إلى أن "الوجود الإماراتي في القرن الإفريقي يمثل منظومة دعم لوجستي متكاملة لشبكة النفوذ على الضفة اليمنية". ووفق مركز تشاتام هاوس (2024)، فإن "من يسيطر على قواعد الضفة الإفريقية يملك اليد العليا في تحديد أمن البحر الأحمر". بهذه الصورة، يكتمل مثلث النفوذ عبر الرصيف والمدرج والامتياز: الرصيف لتزويد السفن، والمدرج للمراقبة، والامتياز لضمان الحضور القانوني والاستثماري.
آلة نفوذ بخمسة مفاتيح
عند جمع خيوط الصورة من شبوة إلى بربرة، يتضح أن المشروع الإماراتي لم يعد مجرد تدخل عسكري في حرب اليمن، بل تحول إلى بنية نفوذ هندسية–جيوسياسية تعمل وفق منطق البحر لا البر. هذه البنية تعتمد على خمسة مفاتيح تشغيل رئيسية: المنبع في شبوة (معسكر مرّة)، الشفة في بلحاف، البرج في الريان، السنترال في ميون، والورشة في المخا، مع رأس شبكة إداري في عدن، وامتداد مقابل في القرن الإفريقي.
تقرير مركز C4ADS (2023) وصف هذه المنظومة بأنها "نموذج نفوذ منخفض الكلفة وعالي المرونة" يعتمد على الوكلاء المحليين بدل الوجود المباشر. فيما رأت مجموعة الأزمات الدولية أنها "تجربة في إدارة السيطرة دون احتلال". ويضيف تشاتام هاوس (2024): "من يملك القدرة على تشغيل الموانئ أو تعطيلها يمتلك سلطة تقرير مصير الدولة الساحلية".
بهذا المنطق، يمكن النظر إلى شبكة الضفتين كآلة نفوذ كاملة: تدمج المرافئ والمطارات والجزر في نظام واحد لتوجيه السياسات عبر البحر، إنها ليست شبكة قواعد فقط، بل منظومة تحكم في الجغرافيا اليمنية والإقليمية، تعيد تعريف مفهوم السيادة في زمن النفوذ المرن.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: الإمارات الإمارات في اليمن جزيرة سقطرى منشأة بلحاف جزيرة ميون صحیفة واشنطن بوست المراقبة البحریة الممرات البحریة البنیة التحتیة القرن الإفریقی فایننشال تایمز الساحل الغربی الإمارات قدرة البحر الأحمر الإماراتی فی البحر الیمنی على المستوى أشار إلى أن عبد الکوری جزیرة میون الممتدة من فی الجزیرة من الناحیة باب المندب رایتس ووتش الجزیرة ت وفق تقریر من منظومة تحولت إلى قادرة على بحر العرب فی الساحل فی الیمن خلیج عدن إلى مرکز عن مصادر تحول إلى تجمع بین قدرة على إلى جانب فی بلحاف فی میون منذ عام ت ستخدم فی شبوة أکثر من من شبکة دار من عام 2015
إقرأ أيضاً:
تقرير أمريكي: حاملة الطائرات “ترومان” ما تزال خارج الخدمة بسبب أضرار جسيمة
يمانيون |
كشفت مجلة ذا ناشيونال إنترست الأمريكية عن تفاصيل جديدة تتعلق بحاملة الطائرات الأمريكية “هاري إس ترومان”، مؤكدة أنها لا تزال تعاني من أضرار جسيمة منذ الحادث الذي تعرضت له خلال مهمتها في البحر الأحمر مطلع العام الجاري.
وأوضحت المجلة أن البحرية الأمريكية اضطرت لتأجيل الإصلاح الكامل للحاملة إلى موعد عملية إعادة التزود بالوقود والإصلاح الشامل المعروفة بـ”RCOH”، والمقررة العام المقبل، ما يعني بقاء “ترومان” خارج الخدمة الكاملة لفترة طويلة قادمة.
وأضاف التقرير أن الحاملة عادت من مهمتها الأخيرة في البحر الأحمر وهي تفتقد ثلاث مقاتلات من جناحها الجوي، في مؤشر واضح على حجم الخسائر التي لحقت بها خلال تلك المهمة.
كما أشار إلى أن “اللافتة الذهبية” التي ظهرت خلف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أحد خطاباته كانت تهدف لإخفاء الأضرار التي لحقت بالحاملة في فبراير الماضي، في محاولة لتغطية فشل كبير في إحدى أبرز رموز الردع العسكري الأمريكي.
وأكدت المجلة أن هذه المعطيات تمثل ضربة قاسية للبحرية الأمريكية، كونها تكشف عن تراجع الجاهزية القتالية لإحدى أهم حاملات الطائرات الأمريكية في وقت يشهد فيه البحر الأحمر تصعيداً متسارعاً وتحديات متزايدة أمام الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.