مع انقشاع الضباب عن جبال ظفار وتوقّف أمطار الخريف، تبدأ ملامح موسم "الصرب" بالظهور، معلنة عن واحدة من أقدم العادات الموسمية التي مارسها العُمانيون في ظفار منذ القدم، وهي "خِطلة الإبل"، تلك الرحلة السنوية التي تنتقل فيها الإبل من السهول (الجربيب) إلى الأودية والجبال بعد أن تكون الأعشاب قد نمت واشتدت بعد أمطار موسم الخريف.

وتقام الخطلة في شهر أكتوبر من كل عام، في توقيت دقيق يختاره أصحاب الإبل بعناية، حيث تكون التربة في الجبال قد تيبست وأصبحت صالحة للسير والرعي، بينما تمتلئ الأودية بالخضرة وتكون الأشجار غصونها مليئة بالأوراق الخضراء. ومع بزوغ أولى خيوط الصباح في يوم الخطلة، يبدأ الرعاة وأصحاب الإبل في سوق قطعانهم على مجموعات متتالية لتفادي التزاحم في مداخل الأودية والممرات الجبلية الضيقة.

وتضم كل مجموعة مئات الرؤوس، حيث شهد وادي جرزيز بولاية صلالة هذا العام خطلة أكثر من 2000 رأس من الإبل تم تقسيمها إلى ثلاث مجموعات، تقودها أجيال متتابعة من أصحاب الإبل، من كبار السن المخضرمين إلى الشباب المتحمسين الذين يواصلون الحفاظ على هذا الموروث.

ويرتدي أصحاب الإبل في هذا اليوم لباسًا خاصًا من القماش النيلي يعرف بـ"الصبيغة"، يتأزرون بنصفه ويغطون بالنصف الآخر الجزء العلوي من أجسادهم، في مظهر يعكس الأصالة والهوية العُمانية. ومع تحرك القطعان نحو الوادي، تتعالى أهازيج "الهبوت" و"الزوامل"، مرددة عبارات الفخر والشكر لله على ما أنعم به من خيرات وموسم رعوي وفير. وتزين المشهد أصوات النساء وهن يطلقن الزغاريد فرحًا وتوديعًا للإبل، بينما يتقدم الرجال ممارسين فن "الرقيد" بالسيوف والجنابي، في لوحة متكاملة من الفنون الشعبية والمظاهر الاجتماعية التي ترافق هذا الحدث منذ أزمنة بعيدة.

ويشهد وادي جرزيز في هذا الموسم مشهدًا بديعًا؛ الأشجار تتمايل أغصانها الخضراء مع النسيم العليل، والأعشاب تملأ السفوح، وبعض الشلالات لا تزال تتدفق بفضل الأمطار الموسمية التي أغنت العيون والمخزون الجوفي في فترة الخريف. وفي خضم هذه الطبيعة الندية، تسير الإبل بخطى واثقة نحو وجهتها الجديدة، ترافقها دعوات الأهالي بعبارة مألوفة: "وداعة الله"، تسمعها عادة من كبار السن والنساء أو الذين لا تسمح لهم ظروفهم بمرافقة الإبل في خطلتهن.

ولا يكتمل يوم الخطلة إلا عند بلوغ الإبل مواقعها المعروفة باسم "مبرك الإبل" أو "مناخ الإبل"، حيث تستقر مع رعاتها قبل غروب الشمس، لتبيت ليلتها هناك استعدادًا ليوم جديد من الرعي في جنبات الوادي. وتبقى هذه الرحلة الموسمية علامة فارقة في الحياة الريفية بظفار، إذ تجسد عمق العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وتؤكد تمسك المجتمع الظفاري بعاداته الراسخة التي تشكل جزءًا من الإرث الثقافي والحضاري العماني المتجدد في كل عام.

رافقت جريدة "عُمان" خِطلة الإبل منذ الساعة السابعة صباحًا وحتى وصولها إلى (مبرك الإبل) وسط الوادي قبل صلاة المغرب لالتقاط صور حية لهذه الخطلة، ورصدت وجود بعض المهتمين من عشاق الطبيعة ورواد المغامرات برفقة أصحاب الإبل، فامتزجت كثير من الأفكار والخلفيات المتنوعة في بوتقة جمال الطبيعة وسحر المناظر في مشاهد تسلب العقول، وتجسد تحمل أصحاب الإبل الصعاب وصبرهم على المشقة، حيث يعيشون لحظات زهو وعشق تنسي عناء الرعي وتعبه، فكل من خاض التجربة خرج بتصور جديد يثري ثقافته ومجال مهنته.

كما برز حضور الشباب من ملاك الإبل بحماسهم الكبير ورغبتهم الصادقة في الحفاظ على هذه الثروة الحيوانية التي ورثوها أبًا عن جد، واعتبروها أمانة في أعناقهم، ورغم صغر سنهم لم يبالوا بعناء الرعي في الجبال والأودية، رافقوا الخطلة حتى بلوغها الوادي مدفوعين بعشق الموروث وإصرارهم على الاستمرار.

وخلال مرافقة الخطلة، برز مشهد يعكس روح التعاون والتكافل المجتمعي من قبل الفرق التطوعية بمنطقة غدو في ولاية صلالة، التي عملت في فترات سابقة على إصلاح الممرات والطرق والمسالك الوعرة في وادي جرزيز لتسهيل عبور الإبل والناس أثناء الخطلة وضمان سلامتهم، وهي مبادرات أصبحت جزءًا من الاستعدادات السنوية غير المعلنة التي تعكس وعي أبناء ظفار بأهمية الحفاظ على هذا الموروث ودعم استدامته للأجيال القادمة.

وقال محمد بن محاد شحير الكثيري أحد ملاك الإبل من منطقة غدو بولاية صلالة والمشاركين في الخطلة: إنه بعد انتهاء موسم الخريف يبدأ موسم الرعي الربيعي (خِطلة الإبل)، وهي مناسبة سنوية يعقد فيها أصحاب الشورى من ملاك الإبل اجتماعًا لتحديد اليوم الذي تتحرك فيه الإبل جماعيًا من السهل، منطقة (كزيت) بسهل أتين، حيث يقدر عدد الإبل التي تخطل إلى وادي جرزيز بحوالي 2000 رأس من النوق.

وأوضح أن الخطلة تؤجل عادة إلى شهر أكتوبر حتى تتمكن النباتات من النمو وتجف التربة لتسهيل حركة الإبل إلى الوادي، حيث تكون في حالة أشبه بالهستيريا رغبة في دخول الوادي، وكأنها سجين أفرج عنه بعد انتظار طويل، لتتنقل بعدها في الجبال والأودية بحرية تامة.

وأشار إلى أن الإبل تسرح في موسم الربيع على شكل قطعان ترافقها مجموعة من الرعاة لمدة شهر إلى شهرين، متنقلة من مكان إلى آخر في أجواء أقرب إلى الرحلات السياحية الخلوية في أحضان الطبيعة.

وأضاف الكثيري: إن هناك أعرافًا متفقًا عليها بين ملاك الإبل في محافظة ظفار، فما أن ينزل أهل الإبل من الجبال إلى السهل مع بداية موسم الخريف حتى يقر تلقائيًا قرار منع الرعي، المعروف محليًا بـ"التحديد"، وهو تقليد متوارث يهدف إلى حماية الغطاء النباتي حتى انتهاء موسم الأمطار.

وختم الكثيري حديثه بالإشارة إلى أن من المبشرات شغف الجيل الجديد في اقتناء الإبل والعناية بها، مؤكدًا أن هذا الإقبال يمنح الاطمئنان لاستمرار هذا الموروث الحضاري الذي يجمع بين الرحمة بالحيوان وصون الطبيعة، لتبقى الإبل رمزًا أصيلًا من رموز الاقتصاد المحلي ومصدرًا استراتيجيًا في أوقات الأزمات والكوارث.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أصحاب الإبل ملاک الإبل الإبل من الإبل فی

إقرأ أيضاً:

لبن الإبل.. كنز طبي لا يعرفه الكثيرون.. وهذا سبب استحالة تخثره

أكدت الدكتورة سماح نوح أن لبن الإبل يمتلك خصائص فريدة تميّزه عن أنواع الألبان الأخرى، موضحةً أنه لا يمكن تصنيع الجبن منه، نظرًا لكونه قليل الدهون وعالي المحتوى المائي، وهي خصائص جعلها الله مناسبة لطبيعة حياة سكان الصحراء الذين يعتمدون عليه كمصدر رئيسي للسوائل والغذاء.

طريقة مشروب الهوت شوكليت للشتاءكوب يوميا قنبلة صحية.. فوائد الينسون في الشتاء


وأوضحت أن لبن الإبل يحتوي على مركّبات غير قابلة للتخثّر، بالإضافة إلى مضادات سموم طبيعية تقاوم البكتيريا والجراثيم، ما يسمح له بالبقاء صالحًا لفترة طويلة دون فساد مقارنةً بالألبان الأخرى.


وأضافت أن تناوله مباشرة دون تسخين ليس صحيحًا كما يعتقد البعض، مشيرةً إلى أن غلي اللبن ضرورة للحماية من عدوى حمى البروسيلا، وذلك وفقًا لما أكدته الأبحاث العلمية.
وأشارت إلى أن لبن الإبل غني بـ مضادات الأكسدة والإنزيمات المهمة التي تدعم وظائف الكبد والقلب، فضلًا عن احتوائه على مركّبات شبيهة بالأنسولين، مما يجعله ذا فوائد كبيرة لمرضى السكري وهشاشة العظام.


وختمت بقولها: "سبحان الله.. أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت".

طباعة شارك لبن الابل لبن فوائد لبن الإبل

مقالات مشابهة

  • "الأكاديمية السلطانية" تبدأ الورش التفاعلية للمبادرة الوطنية للفريق الحكومي الواحد في ظفار
  • بنك ظفار ينجح في جمع 100 مليون ريال عبر إصدار دين ثانوي
  • بدء تنفيذ الحلقات التفاعلية للمبادرة الوطنية للفريق الحكومي الواحد بمحافظة ظفار
  • لبن الإبل.. كنز طبي لا يعرفه الكثيرون.. وهذا سبب استحالة تخثره
  • انطلاق موسم جني الكركديه الأسواني
  • أخبار محافظة الوادي الجديد: نائب المحافظ تلتقي وفدًا يابانيًا والمحافظ يجري حركة تغييرات موسعة بقرى مركز الداخلة
  • ما هكذا تُورَدُ الإبل يا شوالي
  • اندماج استراتيجي بين "ظفار للاستثمار" و"خدمة"
  • إطلاق بطاقة "مال" بـ"ظفار الإسلامي"
  • «منار أبوظبي».. ثلاثية الفن والطبيعة والمعرفة