في مداخلته خلال الجلسة الاحتفائية التي نظمتها مؤسسة بيت الزبير مساء الأحد الماضي احتفاءً بالعُمانيين المشاركين في أسطول الصمود العالمي، استحضر الإعلامي محمد كريشان زيارته اليتيمة لغزة عام 1998 في أجواء مختلفة تمامًا، إذْ كان أهلها مستبشرين بعهد جديد يدشنه افتتاح مطار غزة، برعاية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ثم حضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي شارك في قص الشريط في المطار في 14 ديسمبر 1998.
في هذا الكتاب يروي كريشان أنه حين كبر الفتى محمد ودخل الجامعة كانت كل بحوثه ومقالاته في الكلية عن القضية الفلسطينية، فأول ملفّ صحفي جمّعه من قصاصات الصحف والمجلات كان عن الصهيونية كحركة استيطانية عنصرية، وأول مقال له وهو لا يزال طالبًا في الجامعة نُشِرَ على صفحة كاملة من جريدة «الصباح» التونسية عام 1978 كان عن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، وكيف أن منحه جائزة نوبل للسلام في ذلك العام يعد جريمة لا تغتفر. والحقّ أن الظرف التاريخي خدمَ الإعلامي التونسي كثيرًا، فقد تزامن تفَتُّقُ وعيه السياسي، وبدايات دراسته للإعلام وعمله بالصحافة، مع أحداث سياسيّة كبرى سيكون لها ما بعدها في التاريخ العربي؛ بدءًا من زيارة السادات للقدس، ثم توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، وانتقال مقرّ جامعة الدول العربية إلى تونس، ومرورًا بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واستقرارها في الجمهورية التونسية، ما أتاح للصحفيّ الشاب في صحيفة «الرأي» أن يكون في قلب الأحداث، فكانت كل رحلاته إلى الخارج مرتبطة باجتماعات منظمة التحرير الفلسطينية، وسافر غير مرة إلى الأردن والجزائر لتغطية اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني.
ما يُسجّل لكريشان في هذه المرحلة المبكرة من عمره المهني أنه تنبأ من خلال أحد مقالاته في جريدة «الرأي» بمجزرة «حمام الشطّ» التي ارتكبتْها إسرائيل في تونس عام 1985، وأدت إلى استشهاد خمسين فلسطينيًّا وثمانية عشر تونسيًّا، عدا عشرات الجرحى والخسائر المادية الجسيمة. فقد نشر على صدر الصفحة الأولى من الصحيفة مقالًا بعنوان: «إسرائيل تخطط لضرب القيادة الفلسطينية في تونس»، جمع فيه تصريحات مختلفة لمسؤولين إسرائيليين ومعلقي صحف تمهّد كلها للعُدوان الذي حدث بعد ذلك بأسبوع، وتحديدًا في الأول من أكتوبر 1985، ولم يكتفِ كريشان بهذا، بل وفّر أيضًا لصحيفته الأسبوعية المستقلة سبقًا صحفيًّا بتغطيته وزميل له تفاصيل هذا الحدث ونشرها في الصفحة الأولى من «الرأي» بعد ساعات فقط من حدوث المجزرة تحت عنوان: «طائرات إسرائيلية تهاجم تونس وتدمّر مقر القيادة الفلسطينية»، سابقًا بذلك وسائل الإعلام الرسمية من تلفزيون وإذاعة ووكالة أنباء، التي لم تكتفِ بالتأخر في تغطية الخبر، بل كانت تغطيتها باهتة وغير دقيقة.
على مدار عمله الصحفي والإذاعي والتلفزيوني كوّن محمد كريشان علاقات وروابط متينة بالمسؤولين الفلسطينيين، توّجها بعلاقة مميزة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي حاول كريشان إجراء حوار معه في تونس خلال فترة الثمانينيات دون نجاح كبير يذكر، إلى أن نجح في مطلع التسعينيات في محاورته بصفته مراسلًا لإذاعة «مونتي كارلو» الفرنسية آنذاك، قبل أن يسافر معه في الطائرة الخاصة المقلة له إلى واشنطن للتوقيع على اتفاق أوسلو في سبتمبر من عام 1993. كان عرفات ــ كما يصفه كريشان في كتابه ــ يبدي من الود والترحاب تجاه زائريه ما يجعل هذا الزائر يعتقد أنه أحد معارفه القديمة جدًّا، أو أن له من الودّ الخاص ما ليس لغيره. ويستذكر الإعلامي التونسي مقابلته مع أبو عمّار على الهواء في قناة «الجزيرة» في أحد أيام حصاره المرير في رام الله، الذي بدأ نهاية 2001 واستمر ثلاثة أعوام متواصلة حتى وفاته/ استشهاده عام 2004. في تلك المقابلة استفزّ كريشان عرفات بسؤال مفاده أن البعض يقول إن ما جرى في ذلك الوقت من خروج عناصر «الأمن الوقائي» من مقرهم في رام الله، ووضع أنفسهم تحت تصرف قوات الاحتلال الإسرائيلي، قد يشكّل مثالًا يمكن أن ينسج على منواله أبو عمار. هنا ردّ عرفات بالقول: «احنا كنّا بنحارب في المغارات. أنت نسيت يا محمد؟ آه يا محمد!». يعلق كريشان مازحًا على هذه العبارة: «خرجتُ وقتها من الاستديو وأنا أمازح زملائي في غرفة الأخبار، وأقول لهم: أتذكّر فعلًا تلك اللحظات العصيبة مع عرفات في المغارة، كنتُ أحاول جاهدًا شدّ أزره ورفع معنوياته بعد أن كان يرتعد خوفًا»، وإذا كان زملاؤه قد انفجروا ضحكًا، فإن كريشان نفسه سينفجر بالبكاء بعد فترة قصيرة حين يرى عرفات شاحبًا وهزيلًا يوزع قبلاته على من حوله قبل دخوله المروحية التي أقلّته من رام الله إلى عَمّان، ومنها إلى باريس، في آخر رحلة له في حياته. يقول كريشان: «بكيتُه بحرقة، كما لم أبكِ أي سياسيّ آخر، فقد ارتبط عندي بكل ما كان لي من تعاطف مع فلسطين».
هذا التعاطف لمسناه في تغطياته وبرامجه المختلفة على قناة الجزيرة، طوال مسيرته الإعلامية، وفي مقالاته الأسبوعية في صحيفة «القدس العربي»، ولذا لم يكن مفاجئًا تعبيره في أمسية بيت الزبير عن الغُصة التي يشعر بها الآن وهو يشاهد غزة وقد تحولت إلى ركام.
سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كتائب القسّام: ارتقى اللواء الغُماري شهيدًا على طريق القدس في أشرف المعارك دفاعًا على الأقصى وفلسطين
الثورة نت /..
تقدّمت قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، اليوم الخميس، “بكل آيات الفخر والاعتزاز إلى أمتنا العربية والإسلامية، وإلى الشعب اليمني، وإلى إخوان الصدق أنصار الله، وفي مقدمتهم القائد السيد عبد الملك الحوثي، بأحر التعازي باستشهاد القائد الجهادي الكبير اللواء الركن/ محمد عبد الكريم الغماري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة اليمنية”.
وقالت، في بيان عسكري، : “ارتقى اللواء الغماري شهيداً على طريق القدس مع عددٍ من إخوانه، في أشرف المعارك، دفاعاً عن الأقصى وفلسطين، وضمن معركة الإسناد المباركة التي تصدرتها اليمن العظيمة واستمرت فيها حتى اللحظات الأخيرة قبل وقف العدوان”.
وأكدَّت: “نحن على ثقةٍ بأن هذه الشهادة المباركة لن تزيد إخوان الصدق إلا قوة وثباتاً وعنفواناً وتصميماً على السير في طريق القدس حتى النصر والتحرير”.
وقالت كتائب القسّام:”وإننا في هذا المقام العظيم، مقام الشهادة والشهداء، لا يفوتنا أن ننعى كل شهداء شعبنا اليمني العزيز، وشهداء أمتنا الأحرار، الذين ارتقوا خلال معركة الإسناد لغزة، لتختلط دماؤهم بدماء أطفال وشيوخ ونساء وشباب غزة ومقاوميها وقادتها”.
وأكدَّ البيان “أن أسماء هؤلاء العظماء وبطولاتهم ستسجل في صفحات المجد، وسيذكر التاريخ بكل فخر كل من ساند شعبنا الفلسطيني، وفي القلب منهم يمن الإيمان والحكمة”.
كما أكدَّت كتائب القسام، أن اليمن “وقف وقفةً مشرفة من أجل الله، ودفاعاً عن مسرى رسول الله، وإسناداً للمرابطين على سواحل عسقلان، وسترفع صور شهدائهم قريباً إن شاء الله في باحات المسجد الأقصى المبارك، يوم يلتقي أبناء أمتنا فيه محرراً مطهراً من دنس الاحتلال”.
وقالت:” لطالما أثبتت سياسة الاغتيالات الجبانة فشلها ومفاعيلها العكسية على الاحتلال المجرم، وستبقى دماء أبناء شعبنا وأمتنا وقادتنا هنية والسنوار والعاروري والضيف ونصر الله والحج رمضان والغماري وقافلة كبيرة من إخوانهم، ستبقى نبراساً يضيء لنا طريق الكرامة والحرية”.