لم يعد الصراع داخل الكيان الصهيوني شأنًا سياسيًا أو خلافًا عابرًا بين أحزابٍ يمينيةٍ ويسارية، بل تحوّل إلى مرآةٍ تكشف عمق التآكل في مجتمعٍ بُني على الخوف والكراهية والأسطورة. ما نراه اليوم من انقساماتٍ حادّة بين الحكومة والجيش، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقانيين والغربيين، ليس إلا بدايةَ تشقّقٍ في جدارٍ حاول قادته إخفاء تصدّعه لعقودٍ طويلة تحت لافتة “الأمن القومي” و“الوحدة المقدسة”.

منذ تأسيس هذا الكيان على ركام التاريخ وتناقضات المهاجرين، ظلّ السؤال المؤجَّل: كيف يمكن لمجتمعٍ يقوم على فكرة العدوّ أن يبني سلامه الداخلي؟ واليوم، بعد أكثر من سبعة عقودٍ من الاستيطان والدم، بدأت الحقيقة تطفو: إنهم يعيشون أزمةَ هويةٍ قبل أن تكون أزمةَ حكم. لا لغةَ تجمعهم إلا لغةَ الخوف، ولا وطنَ يؤمنون به إلا بقدر ما يحمي امتيازاتهم أو يبرّر جرائمهم ضد الآخرين.

في المشهد الراهن، تتبدّى المفارقة بين “إسرائيل الأمنية” و“إسرائيل الدينية”، وبين “جيشٍ يرى نفسه حارسًا للعقيدة” و“سياسيين يلهثون خلف شعبويةٍ مريضة”. لم تعد الخلافات خفية، بل وصلت إلى حدّ التمرّد في صفوف الجيش ورفض أوامر الحكومة. بات الجنرالات يتحدثون بلهجةٍ متمرّدة، ورجال الدين يفتون بقتل الخصوم السياسيين. أمّا الشارع، فقد انقسم إلى معسكرين: أحدهما يعيش هوسَ البقاء، والآخر يقدّس الوهم.

هذا الانقسام ليس طارئًا، بل نتيجةً طبيعيةً لبنيةٍ اجتماعيةٍ مصطنعةٍ تحاول الجمع بين ثقافاتٍ متناقضةٍ جاءت من بولندا والمغرب واليمن وروسيا، في خليطٍ لا يملك ذاكرةً واحدةً ولا سرديةً جامعة. لقد فشل الكيان في صناعة “الإنسان الإسرائيلي” الذي بشّر به الآباءُ المؤسسون، لأنهم زرعوا فكرة “الخطر الدائم” في جذور التعليم والتربية، فصار الخوف هو الرابط الوحيد بين المكوّنات المتنافرة.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمةٍ سياسية، بل قيامة داخلية لمجتمعٍ فقد بوصلته الأخلاقية. فالفساد ينهش مؤسسات الدولة، والمال السياسي يشتري الولاء، والمستوطنات تتحوّل إلى دولٍ صغيرةٍ تحكمها الميليشيات الدينية. حتى القضاء، الذي كان يُقدَّم للعالم كنموذج “للديمقراطية الوحيدة في الشرق”، صار أداةً في يد السلطة لتبرير القمع وإدامة الاحتلال.

في جوهر هذا الانهيار يطلّ السؤال الفلسفي: هل يمكن لدولةٍ قامت على إنكار الآخر أن تبقى من دون أن تنكر نفسها؟ من هنا تأتي المفارقة الوجودية التي يعيشها الكيان: فهو يحتاج إلى عدوّه ليبرّر وجوده، لكنه لا يحتمل ظلّه في المرآة. يعيش حالة “الاغتراب الجمعي”، تمامًا كما وصفها هيغل حين قال: إن الوعي بالذات يبدأ حين يرى الإنسان ذاته في الآخر الذي ينكره.

وربما تبدو الانقسامات اليوم سياسية، لكنها في الحقيقة صراعٌ على المعنى: هل هو وطنٌ أم مشروع؟ هل هو دولةٌ حديثة أم مملكةٌ توراتية؟ ومن يملك الحق في تعريف “من هو الإسرائيلي”؟

الكيان اليوم يقف على تخوم السقوط الأخلاقي قبل السياسي، في زمنٍ لم يعد فيه السلاح كافيًا لبناء شرعية. ما يُكتب في شوارع تل أبيب والقدس ليس شعاراتِ احتجاج، بل نبوءاتِ أمةٍ تخاف أن تنظر في مرآتها. فكلما اشتدّ صراع الداخل، انكشف أن الكيان الذي أرعب العالم، بات يخاف نفسه أكثر من عدوّه.

وربما يكون المشهد المقبل أكثر تعقيدًا مما يظنّ المراقبون، إذ سيتحوّل الانقسام الداخلي إلى صراعٍ مفتوحٍ بين مراكز القوى، يُعيد رسم خريطة السلطة داخل الكيان. ومع الوقت، ستتراجع الهيمنة المركزية لصالح أقاليمٍ ومستوطناتٍ تتحرّك وفق مصالحها الأمنية والعقائدية، لتصبح إسرائيل أكثر شبهًا بدويلاتٍ متنازعةٍ تتقاسم الوهم تحت مظلةٍ واحدة. عندها لن يكون السؤال: من يهدّد وجود الكيان؟ بل: من بقي يؤمن بوجوده أصلًا؟

وكما سقطت روما حين تآكلت من الداخل قبل أن تغزوها جيوشُ البرابرة، وكما تهاوت غرناطة حين غاب العقل وارتفع صوتُ التعصّب، يسير الكيان اليوم في الدرب ذاته، يُعيد إنتاج أسطورة القوة التي تخفي هشاشةَ المعنى. فالإمبراطوريات لا تسقط بالمدافع، بل حين تفقد قدرتها على الحلم والعدل والانسجام مع ذاتها.

إن سقوط الكيان ــ إن حدث ــ لن يكون على يد عدوٍّ خارجي، بل حين يكتشف أبناؤه أنهم عاشوا عمرهم يحرسون جدارًا من الوهم، وأن “الأمن” الذي تغنّوا به لم يكن سوى قيدٍ على أرواحهم.

هكذا تبدأ النهاية دائمًا: حين ينهزم الإنسان في داخله قبل أن تُهزم الدولة على خرائط العالم.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الكيان الإسرائيلي المجتمع الإسرائيلي الصراعات الدولية الجيوسياسية سقوط الكيان الإسرائيلي اليهود الشرقيين الفساد في إسرائيل

إقرأ أيضاً:

وفاة محامى الإسكندرية.. قصة أب مات من الخوف على ابنه والرضيع يلحق به بعد ساعات

وفاة محامي الإسكندرية أثارت حالة من الحزن العميق على أوساط المحامين وأهالي الإسكندرية بعد الواقعة المفجعة التي هزت المدينة الساحلية، حين رحل المحامي الشاب أحمد محمد البرنس إثر أزمة قلبية مفاجئة، لم يتحمل على إثرها صدمة مرض نجله الرضيع البالغ من العمر ستة أشهر، قبل أن يلحق به الطفل بعد يوم واحد فقط، في مشهد مأساوي أبكى القلوب وأثار مشاعر الجميع.
شئون التعليم بجامعة الإسكندرية: دعم الطلاب وتوفير بيئة تدريسية متميزةالقبض على سائق استعرض بسيارته في الإسكندريةإعلان على الإنترنت.. القبض على 4 فتيات يمارسن الرذيلة في الإسكندرية|صور

الأب يلفظ أنفاسه أثناء محاولة إنقاذ نجله

بدأت المأساة حينما تلقى المحامي الراحل اتصالًا من طبيب نجله يخبره بتدهور حالته الصحية، مما استدعى نقله على وجه السرعة إلى المستشفى لإنقاذ حياته، لكن القدر كان أسرع من الجميع، فبينما كان أحمد البرنس يحمل طفله على ذراعيه في طريقه للمستشفى، فاجأته أزمة قلبية مفاجئة أودت بحياته على الفور، بعد أن انهار تمامًا أمام فكرة فقدان ابنه الوحيد الذي لم يكمل نصف عام من عمره.

وقال شهود عيان إن المحامي الشاب لم يتحمل وقع كلمات الطبيب حين أكد له أن حالة ابنه "حرجة جدًا وتحتاج إلى تدخل فوري"، فسقط مغشيًا عليه داخل المستشفى وفارق الحياة في لحظتها، تاركًا زوجة شابة وطفلتين إحداهما تبلغ عامين فقط، والأخرى ما زالت بين الحياة والموت.

الطفل يعيش يومًا واحدًا فقط بعد وفاة أبيه

وفي مشهد مأساوي آخر لا يقل ألمًا عن الأول، تمكن الأطباء من إنعاش قلب الطفل بعد توقفه لعدة دقائق، ليعود إلى الحياة وسط دموع الأطباء والممرضين، إلا أن حالته بقيت حرجة، إذ تبين أنه يعاني من ارتشاح بالمخ ونزيف داخلي، وتم إيداعه غرفة العناية المركزة تحت رعاية طبية مشددة، لكن الأجل لم يمهله كثيرًا، فلحق بوالده بعد يوم واحد فقط، وكأن قلبه الصغير رفض أن ينبض دون والده.

جنازتان في يومين.. مشهد مؤلم يهز الإسكندرية

شهد مسجد العمري بمنطقة كرموز مشهدًا إنسانيًا مؤثرًا، إذ شيّعت جنازتا الأب والابن في يومين متتاليين وسط بكاء الحضور ودهشتهم من هول الموقف، حيث خرجت جموع المحامين وأصدقاء الراحل وأهالي المدينة لتوديع الشاب الذي كان معروفًا بخلقه وأدبه واجتهاده في عمله، فيما خيم الصمت على الوجوه والدموع على الأعين في لحظة وداع حزينة نادرة.

شهادات مؤثرة من زملاء الراحل

كتب عدد من أصدقاء المحامي الراحل كلمات وداع مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّروا فيها عن حزنهم العميق لفقد زميلهم الشاب، فقال أحدهم:"اللهم ارحم الصديق الخلوق أحمد محمد البرنس، الذي اختبر الله قلبه كأب بأقسى ما يمكن أن يمر به إنسان، فلم يحتمل فكرة فقدان فلذة كبده، فسبق ابنه إلى السماء".

وقال آخر: "لحظات معدودة غيّرت مجرى حياة أسرة بأكملها، الطفل سقط من أعلى السرير، والأب حمله مهرولًا إلى المستشفى، وهناك سمع الطبيب يقول له: ابنك مات، فمات هو من الصدمة، قبل أن يُنعش الأطباء قلب الطفل الذي عاش يومًا واحدًا فقط ثم لحق بأبيه".

نقابة المحامين تنعي زميلها الراحل

من جانبها، نعت نقابة المحامين في الإسكندرية الفقيد في بيان رسمي عبر صفحتها على "فيسبوك"، مؤكدة أنه كان مثالًا للمحامي المجتهد والمخلص في عمله، ودعت الله أن يتغمده برحمته الواسعة وأن يصبر أسرته على الفاجعة الكبيرة، كما قررت النقابة صرف إعانة عاجلة لأسرة الراحل الذي ترك زوجة وطفلة صغيرة في عامها الثاني.

وأكد محمد عبد الوهاب، عضو مجلس نقابة المحامين بالإسكندرية، أن زميله الراحل لم يستطع تحمّل الموقف الصعب حين تدهورت حالة نجله، مشيرًا إلى أن وفاته كانت نتيجة أزمة قلبية حادة بسبب الحزن الشديد والضغط النفسي، مضيفًا أن الطفل توفي بعد والده بيوم واحد فقط في مشهد أبكى الجميع.

قصة تراجيدية تهز القلوب وتفتح نقاشًا حول الضغوط النفسية

تلك الواقعة المؤلمة فتحت الباب واسعًا للحديث عن الضغوط النفسية والعاطفية التي قد تؤدي إلى الوفاة المفاجئة، خاصة عند الآباء والأمهات الذين يواجهون مواقف مأساوية تتعلق بأبنائهم، فقد أثبتت دراسات طبية أن الحزن الشديد والصدمة المفاجئة يمكن أن تسبب ما يعرف بـ"متلازمة القلب المنكسر"، وهي حالة تتشابه أعراضها مع النوبة القلبية وقد تكون قاتلة كما حدث مع المحامي الراحل.

الأطباء أوضحوا أن الصدمات النفسية قد تؤدي إلى اضطراب في ضربات القلب وانقباض مفاجئ في الشرايين، مما يتسبب في توقف عضلة القلب خلال لحظات، وهو ما يفسر الوفاة الفجائية التي تعرض لها المحامي الشاب بعد سماعه الخبر المؤلم عن نجله.

مأساة لن تنساها الإسكندرية

رحيل المحامي أحمد محمد البرنس وطفله الرضيع خلال 48 ساعة فقط ترك أثرًا بالغًا في نفوس زملائه وأصدقائه وجيرانه، الذين أكدوا أن الراحل كان طيب القلب، عطوفًا على أسرته، محبوبًا من الجميع، وأنه عاش حياة قصيرة لكنها مليئة بالعطاء والمحبة، وأن رحيله المأساوي سيظل محفورًا في ذاكرة المدينة لسنوات طويلة.

وفي الوقت الذي شيّع فيه الأهالي جثمان الأب والابن إلى مثواهما الأخير بمقابر العامود بكرموز، لم تجد الكلمات طريقها للتعبير عن الحزن، واكتفى الجميع بالدعاء لهما بالرحمة، ولزوجته بالصبر والثبات على هذا البلاء العظيم.

طباعة شارك الإسكندرية المحامين وفاة محامي الإسكندرية المحامي الشاب أحمد محمد البرنس أزمة قلبية وفاة محامي الإسكندرية حزنًا على طفله

مقالات مشابهة

  • ضخ أكثر من 20 شاحنة وقود اليوم إلى قطاع غزة
  • حريق ضخم يلتهم منزلا بالكامل في مقاطعة كوليتز الأمريكية دون إصابات
  • “يونيسف” : أطفال غزة بأمسّ الحاجة إلى الأمان والدعم بعد عامين من الخوف والدمار
  • يثير خوف الأسود والمفترسات.. ما هو الصوت الأكثر رعبا للحيوانات؟
  • حريق مهول يلتهم مستودع بالبليدة
  • وفاة محامى الإسكندرية.. قصة أب مات من الخوف على ابنه والرضيع يلحق به بعد ساعات
  • شجاعة الخوف!
  • حريق يلتهم محتويات شقة بسبب شاحن محمول فى المحلة
  • أحمد مجدي: مهرجان الجونة مرآة لمصر الحديثة النابضة بالحياة