صدى البلد:
2025-10-27@01:34:25 GMT

مصطفى الشيمي يكتب: وجه آخر

تاريخ النشر: 27th, October 2025 GMT

#فاطمة #يحيى .. كانت الليلة ثقيلة، كأنها تمتدّ بلا نهاية. جلست فاطمة أمام المرآة، لا لتُصلح شعرها، بل لتُحاول أن ترى نفسها كما يراها يحيى لو وقف أمامها الآن.
لم ترَ في عينيها سوى امرأة تائهة، تعرف تمامًا أنها خسرت الرجل الذي كان يمكن أن يكون ملاذها الأخير.

جلست تُحصي ما تركه فيها من ضوء، كأنها تتفقد أثر دفئه في كل زاويةٍ من قلبها:
كان صبورًا، أكثر مما تحتمل الطبيعة.


يستمع حين يصمت الآخرون، ويصمت حين يفيض الكلام بلا فائدة.
كان صادقًا إلى حدٍّ يُرهق من حوله، لا يُجيد المواربة، ولا يعرف كيف يلبس الأقنعة.
حين يُحب، يُحبّ بكلّه، لا يترك لنفسه مخرجًا ولا احتمالًا للنجاة.
هذا ما كان يُربكها دائمًا، أن يرى فيها ما لم تَرَه هي في نفسها.

ثم تتنفس بعمق… وترى وجهًا آخر له:
يحيى الذي يبالغ في الإخلاص حتى يُخيف،
الذي إذا أحبّ صار ظلًّا يلاحق حضورك أينما ذهبت،
الذي يملك من الحنان ما يكفي ليخنقك إن لم تكوني جاهزة له،
والذي حين يُصاب بخيبة… يصمت، لا يُعاتب، فيتركك تغرقين في ذنبك وحدك.

تبتسم بخفوت، وتهمس لنفسها:
«كنتُ أريده أن يُخطئ مرة… أن يغضب، أن يكسر شيئًا في وجهي كي أشعر أنه بشر، لا ملاك يضعني على عرشٍ لا أستحقه».

ثم ينهار صوتها في الداخل وهي تهمس:
«لكنني أنا التي كسرت شيئًا فيه… شيئًا لا يُصلَح».

كانت تخاف أن يفلت من بين يديها، فتُحكم قبضتها أكثر،
لكنها ما أدركت أن الاحتواء الذي منحها إيّاه كان أوسع من أن يُمتلك.
كانت تظنّ أن الحُبّ ميدانُ سيطرةٍ، لا ساحةُ أمان.
وكان هو، في المقابل، يضمّها كما يضمّ الماءُ ظلَّه بلا قيدٍ ولا ادّعاء.
غير أنها لم تُجِد قراءة قلبٍ بهذا الاتساع،
فخافت من دفئه، كما يخاف الطيرُ من القفص وإن كان من ذهب.
بالنسبة لها، احتواؤه كان قيدًا،
وإحسانه كان قيدًا،
وكل ما فعله ليُطمئنها، كان يزيدها اضطرابًا.

تعرف أنه لن يعود، ليس لأنه قاسٍ، بل لأنه حين يرحل، يأخذ معه الثقة، ويترك لكِ فقط مرآةً كبيرة ترى فيها كل ما فعلتِ به.
تعرف أنه سامحها، لكنها أيضًا تعرف أن السامح لا ينسى الإهانة التي مرّت على مكانٍ طاهرٍ في قلبه.

الآن هي بين صورتين:
وجه يحيى القديم، الذي كان يضحك حين تخطئ وتتعلم،
ووجهه الأخير، الصامت كالجدار، الذي لم يعد يراها كما كانت في السابق.

تدرك فاطمة أنها ما زالت تريده، لا حبًا بالرجوع، بل توقًا للغفران.
تريده أن ينظر إليها مرةً أخرى، نظرةً لا تُعيدها إليه، لكن تُعيدها إلى نفسها.

تغمض عينيها، وتقول بصوتٍ خافت:
«أعرف أنك لن تعود يا يحيى… لكن لو أني أستطيع فقط أن أشرح لك، أنني حين كذبت… لم أكن أخونك، كنتُ أخافك، أخاف نقاءك الذي يفضحني».

تسكت قليلًا، ثم تكتب في دفترها:

"كنتَ رجلاً نادرًا، وكنتُ امرأةً عادية… ولهذا خِفتك، فخسرتك."

وبينما تضع القلم جانبًا، ويغمرها الصمت كالموج،
رنّ الهاتف فجأة على الطاولة.
نظرت إلى الشاشة في ذهولٍ صامت…
الاسم واضح: يحيى.

تجمّدت أنفاسها، كأن القدر نفسه أراد أن يقول لها إنه شعر بها في اللحظة ذاتها.
رفعت الهاتف بيدٍ مرتجفة، ولم تُجب…
ظلّت تنظر إلى اسمه، والدمعة على خدّها تشهد أن القلوب، مهما ابتعدت، تظلّ أحيانًا تُفكّر في اللحظة نفسها.


-----------------

لم يكن يحيى ينوي الاتصال.
لم يخطط لذلك، ولم يُفتّش في ماضيه عمدًا.
لكن شيئًا غامضًا في تلك الليلة دفعه إلى أن يمدّ يده نحو الهاتف كمن يستسلم لوخزةٍ يعرف أنها لن تقتله، لكنها أيضًا لن تتركه كما كان.

تردّد لحظة، ثم ضغط على اسمها.
لم يكن ينتظر ردًّا، فقط أراد أن يسمع صدى الرنين،
وكانت كل رنّةٍ تُعيده إلى مقطعٍ قديمٍ من الحنين.
وحين لم تُجب، ابتسم بهدوءٍ يعرفه جيدًا من تعلّم الدرس بعد وجعٍ طويل.
لم يكن في الابتسامة انتصار، بل راحةُ من انتهى أخيرًا من معركةٍ داخله.

جلس على مقعده يتأمل صمته.
كل شيء في الغرفة ساكنٌ إلا ذاكرته.
تطفو أمامه ملامحها:
ضحكتها الأولى حين قال إنها تُشبه الفجر المتردّد بين ليلٍ ونهار — لا ظلمة فيه، بل وعدٌ بالنور.
ووجهها الأخير حين صمتت ولم تجد ما تقول.

كان يعرف أنها لم تخنه بالمعنى البسيط للخيانة.
كانت فقط تخاف.
خافت من وضوحه، من صدقه الذي يعرّي الزيف الصغير الذي نحيا به جميعًا.
وهو — رغم جراحه — لم يكرهها.
لكنه أدرك أن النقاء لا يكفي دائمًا للبقاء،
وأن الحبّ الذي لا يُحتمل صدقه، يتحوّل إلى عبءٍ على من يجهله.

أغمض عينيه، وتذكّر آخر ليلةٍ جمعتهما.
كانت تبكي، وهو يُحاول أن يُمسك يدها فتنسحب.
قال لها يومها بصوتٍ خافت:
«لا تُقاومي ما لا يفنى، فالحبّ الصادق لا يحتاج دفاعًا».
فبكت أكثر، وكأنه لامس الجرح الذي كانت تخفيه عنه طوال الوقت.

الليلة، حين سمع صدى الرنين، شعر أنها سمعته أيضًا.
أنها توقّفت مثله، في اللحظة ذاتها.
ربما رأت اسمه، وربما دمعت عيناها كما دمعت عيناه،
لكنّه لم يتمنَّ أن تردّ.
كان يعرف أن بعض الأبواب حين تُفتح بعد الفقد، تُعيدك لا إلى الماضي، بل إلى وجعٍ أكبر.

كتب في مفكرته التي لم تمسّها يد منذ شهور:

"بعض النساء يرحلن حين يشعرن أن البقاء سيجعل الحبّ مرآةً لا يجرؤن على النظر فيها."

ثم أغلق الدفتر، ووضع الهاتف بعيدًا.
كان الليل ساكنًا، لكن في داخله سلامٌ صغير، يشبه شفاء الجرح بعد طول وجع.
مدّ بصره نحو الأفق الرمادي خلف النافذة، وهمس لنفسه:
«لقد سامحتها حقًا… فقط لم أعد أراها في المكان نفسه من قلبي».

وبينما يستعد للنوم، لم يعلم أن فاطمة في الجهة الأخرى من المدينة،
ما زالت تحدّق في الاسم على الشاشة،
وفي قلبها سؤالٌ واحدٌ لم يهدأ:
هل كانت المكالمة صدفة؟
أم أن الأرواح — حين تظلّ على عهدها — تلتقي بلا موعد؟

طباعة شارك المرآة فاطمة امرأة تائهة الطبيعة

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: المرآة فاطمة الطبيعة ما کان

إقرأ أيضاً:

د. عصام محمد عبد القادر يكتب: فقه المشاعر

إذا ما أردنا أن نمتلك ما يشعرنا بالسعادة، ويدفعنا إلى أمل الحياة، والرغبة في الإنتاج، وبث الطمأنينة في النفس وفيمن حولنا؛ فعلينا أن نبحث عن مقومات تعزيز المشاعر في صورتها الإيجابية؛ حينئذ نتذوق طعم الفرح والحب والرضا، ونربو فوق الصعوبات والتحديات؛ فلا تؤثر في وجداننا، بل، نزداد قوة ومثابرة ومقدرة على التحمل، وتصبح ضغوط الحياة في كليتها في حيز التكيف، بما لا يؤثر على السلوك القويم، ويسهم في تعظيم ما لدينا من طاقات بناءة تخلق لنا فرصًا؛ لتحقيق ماهية الصحة العامة، التي لا تنفك عن صحة النفس والبدن، وهنا ينال الإنسان المناعة التي تقيه توغل الأمراض بكل صورها.
عمق تفهم ما يجوش في نفوسنا، وما تموج به أطياف عواطفنا، يمكننا من أن نعي ماهية فقه مشاعرنا؛ فيصبح لدينا مقدرة على الاتزان، وضبط النفس، والتحلي بالتؤدة، وتحويل سلبيات الشعور إلى إيجابيات في الوقت ذاته؛ فعندما ينتابنا الخوف؛ حينئذ نعمل على إزالة مسبباته، بمشرب من كأس الثقة بالنفس، وعندما يتملكنا الغضب؛ فإن العمل وبذل الطاقة في المسار القويم سبيل للخروج من حالة الكبت إلى واحة العطاء، عبر سيطرة تحكمها أطر أخلاقية تنسجم معها الروح؛ فلا يستنزف الوجدان، ولا يصاب البنيان بضعف الإنتاج.
الحديث بأن جودة الحياة تنطلق من ذات الإنسان، لا من الحيز الذي يحيط به، صحيح في كليته؛ لأن مشاعرنا تعد الموجه الرئيس للسعادة أو التعاسة، وهذا يعني أن الطمأنينة والرضا من أعمدة جودة الحياة لدينا، وأن اعتبارية الماديات أو ما نتملكه من مقدرات بمختلف صورها، يصعب أن تحقق معنى الجودة في سياقها المتكامل؛ ومن ثم تتناغم الأبعاد النفسية؛ فيبدو الانفعال العاطفي ما بين فرح، وحزن، وخوف، وغضب، لا يضير بصاحبه، ولا بالآخرين، وتتعالى أطر التفكير وعملياته، ليصبح الفرد قادرًا على صناعة واتخاذ القرار القويم، ويتعامل الإنسان منا مع رغباته وحاجاته بصورة منضبطة، تحقق التوازن على المستويين الداخلي والخارجي، ويحرص على تواصله بالآخرين بغض النظر عن المسافات والحوائل، ويتمسك بمنظومة القيم التي تعزز لديه معتقده، وتحقق في خبايا نفسه سكينة وطمأنينة.
قاعدة التوازن لا تنفصل عن جودة الحياة، التي نسعى إلى تحقيقها على الدوام، وهذا يؤكد لنا أن محاولة الهروب من المشاعر السلبية ضرب من المستحيل؛ لكونها متوافرة بين جنبات النفس؛ لكن الأجدى أن نعمل بحكمة على استيعابها، وحمل رسائلها في إطار من التريث والتوازن، ومحاولة استرداد القوى التي تدعم التفكير الإيجابي، الذي يعد مخلصًا لنوازع الألم، وهنا نتوقع أن تتغذى المشاعر الإيجابية على نظيرتها السلبية؛ فيحدث التحول الحميد؛ إذ نشعر بالامتنان والرضا، عندما نصاب بنوازل الدهر، أو نعطب في أبداننا، ونحاول بكل ثقة تجاوز أزمة الفشل، وطرق أبواب النجاح؛ حتى نحقق الفلاح بمزيد من الصبر وبذل الجهد، الذي يقوم على تفكير علمي، ينبثق من معرفة ومطالعة لخبرات الآخرين، وفي ضوء ذلك نستطيع أن نتحرر من أغلال السلبية؛ لنصل إلى واحة الإيجابية.
ينبغي أن ندرك ما نشعر به؛ كي نتعامل معه بطريقة صحيحة، ولا نحاول الهرب فيصيبنا الفزع، أو الوجل، أو الخوف؛ لذا لا بد من محاولات التهدئة، التي تبعث فينا أملًا في المقدرة على الوصال، ولا نحاول أن نبدى ردَّ فعل غير محسوب، بل، نسعى إلى استكمال رؤيتنا المنقوصة للأمور؛ حينئذ نرصد جوانب القصور، ونحدد نقاط الإخفاق، ونعيد تفسيراتنا واستنتاجاتنا التي تسرعنا فيها، وهذا في حد ذاته بداية لتصويب المسار؛ حيث نقطة الشعور بالرضا؛ فتتهاوى حينها السلبيات، ويزول التوتر، ودواعي القلق، والضغوط، ونصل إلى حالة الإيجابية، التي تعد بالنسبة لكثير منا مصدرًا لا ينضب للإلهام.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

طباعة شارك السعادة أمل الحياة الطمأنينة

مقالات مشابهة

  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: فقه المشاعر
  • د. عادل القليعي يكتب: أليس لنا رب كريم.....!
  • في ذكرى ميلاده.. سعيد الشيمي يوجه رسالة مؤثرة لصديقه الراحل محمد خان|فيديو
  • تعلن محكمة شرق إب أن على المدعى عليه معاذ يحيى المجاهد الحضور إلى المحكمة
  • تعلن محكمة غرب الامانة بأن على/ محمد يحيى ومحمد أحمد الحضور إلى المحكمة
  • نتنياهو يتحدث مجددا عن يحيى السنوار ..ويعلن: كان سيتحول لـ صلاح الدين
  • تعلن محكمة خمر أن الأخوة يحيى أبو طالب وآخرين تقدموا بدعوى إثبات تسلسل نسب
  • تعلن محكمة بيت الفقيه أن على المدعى عليه يحيى عياش مردفي الحضور إلى المحكمة
  • محمد موسى: المهندس مصطفى مجاهد نموذج للوطني الذي يخدم بلا مصالح