رحل تاركا لنا إرثا "قبيحا"، و"وعدا" تقابله باللغة العربية تعابير أخرى من وزن مؤامرة و"الوعد الآثم"، وبقي الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، من كل عام حاضرا في وجداننا كعرب لاستذكار الرجل واستحضار "وعده" المشؤوم.
رحل متجاهلا ما سببه "تصريحه" من كوارث للشعب الفلسطيني لا تزال حاضرة حتى يومنا هذا، وما أحدثه من أوجاع وحروب في وطننا العربي، وتجاهل المظالم العربية والفلسطينية بآذانٍ صماء، كما بدا مصرا أن يكون مستفزا قدر الإمكان حتى آخر أيامه.
وقال في آخر تصريح علني له إنه تعهد بإنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين" وإنها ليست خطة شخص واحد أو أمة، بل هي "تجسيدٌ لرأي هيئة أكبر الدول التي وقعت على معاهدة فرساي" وبالتالي أبدى "صعوبة إلغاء ما أقدم عليه".
نجاحات وإخفاقات سياسية
ولد آرثر جيمس بلفور في وايتنغهام بأسكتلندا، في عام 1848، وكان والده وجده أعضاء في البرلمان الأسكتلندي، التحق بجامعة كامبريدج، حيث درس العلوم الأخلاقية في كلية ترينيتي وتخرج منها في 1869.
انتخب عضوا في البرلمان البريطاني عام 1874، وعمل وزيرا أولا لأسكتلندا عام 1887، ثم وزير الدولة لشؤون أسكتلندا، وأصبح أول رئيس للخزانة ما بين عامي 1895 و1902، تقلد بعدها منصب رئيس وزراء بريطانيا ما بين عامي 1902 و1905.
وعانى حزب المحافظين تحت قيادته لاحقا من إخفاقات انتخابية في البرلمان دفعته إلى الاستقالة من قيادة الحزب في عام 1911.
وغاب عن المشهد السياسي بعد ذلك حتى جاء عام 1915 حيث عاد إلى الساحة السياسية حاملا لقب اللورد الأول للأدميرالية في الحكومة الائتلافية، وفي عام 1916 تسلم منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية وشؤون الكومنولث.
وما إن غادر حكومة لويد جورج عام 1919 حتى عاد إلى مكتبه في البرلمان وشغل منصب رئيس مجلس اللوردات من عام 1925 وحتى عام 1929.
في تلك السنوات تنافس الثنائي، البريطاني سايكس والفرنسي بيكو، على الوصاية على فلسطين، فقد طالبت بريطانيا بشرقي نهر الأردن وفلسطين، وأعطيت فرنسا، سوريا ولبنان، وكاد بيكو ينفجر غضبا، ففرنسا أيضا كانت على استعداد لإقامة "وطن يهودي" في فلسطين إذا ما وضعت فلسطين تحت وصايتها، وكان صراعا مذلا بين أقوى قوتين آنذاك لإرضاء زعماء الصهيونية العالمية.
"تصريح" يمنح فلسطين لليهودوأطلق بلفور وعده المشؤوم –الذي حمل اسمه- على شكل رسالة إلى البارون المليونير اليهودي اللورد ليونيل والتر روتشيلد، وأرخت الرسالة بتاريخ الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917، وكانت تصريحا مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى روتشيلد يتعهد فيه بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، واشتهر التصريح باسم "وعد بلفور".
إعلانلقد نظرت الحكومة البريطانية -اعتمادا على ذلك التصريح- بعينين، واحدة "عين العطف" إلى تأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين، وعين الجحود والنكران لـ"لطوائف الأخرى غير اليهودية الموجودة في فلسطين" بحسب نص الرسالة (الوعد).
وبجرة قلم من بلفور، تحول أصحاب الأرض العرب الفلسطينيون إلى طوائف أخرى، وأصبح الطارئون على فلسطين وعلى وطننا العربي أصحاب حق ينظر إلهم بـ"عين العطف".
وهكذا فهو وعد من لا يملك (بلفور)، بمنح من لا يملكون (اليهود) وطنا على حساب من يملكون (العرب/الفلسطينيون). وتحولت الأقلية اليهودية التي كانت تعد على أصابع اليد الواحدة في فلسطين إلى "أكثرية" و"أغلبية" في "عين" بريطانيا التي كانت تلهث وراء السلطة والمال والقوة بأي ثمن، وبأي وسيلة.
لقاء بلفور ووايزمان
وقبل الوعد المشؤوم، التقى بلفور مع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان صاحب اختراع مادة "النيتروجليسرين" شديدة التفجير التي منح بريطانيا تركيبتها لتستخدمها في الحرب العالمية الأولى، ولم يطلب وايزمان لنفسه شيئا، فقط "النصر" لبريطانيا في الحرب، ومنح فلسطين لليهود!
وهمس بلفور في أذن وايزمان: "أعتقد أنه حالما يتوقف إطلاق النار فإنه يمكنك الحصول على أورشليمك".
أعجب بلفور بشخصية حاييم وايزمان الذي التقاه عام 1906، فتعامل مع الصهيونية باعتبارها قوة تستطيع التأثير في السياسة الدولية وبالأخص قدرتها على إقناع الرئيس الأميركي وودرو ويلسون للمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا.
وفي الوثائق البريطانية نقرأ أن بلفور كتب "لم أقصد أبدا أن نستأنس برغبات السكان وأمانيهم (كما في نص الوعد)، إن الصهيونية أهم بكثير من الرغبات والأفكار المسبقة لـ700 ألف عربي كانوا يقطنون تلك الأرض القديمة".
الانتداب البريطاني لتحقيق "الوعد"ولبث الروح في الوعد، وحتى لا يتحول إلى حبر على ورق، احتلت بريطانيا فلسطين بقيادة الجنرال أرموند اللنبي الذي قال قولته الشهيرة: "الآن انتصرت الحروب الصليبية، وأصبحت القدس لنا أبدية".
ولم نفهم نحن العرب كيف أصبحت لهم، وقد وعد بلفور بها اليهود، كان التطبيق على الأرض توضيحا إنجليزيا لمقولة اللنبي، فقد وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وعينت لندن اليهودي الصهيوني المتطرف هربرت صموئيل أول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين.
صهيوني الهوى والقلبوعندما نبحث في السيرة الذاتية لصاحب "الوعد" بلفور الذي كان صهيوني الهوى، نجده قد تشبع بالأسفار والروايات التوراتية، وحفظ العهد القديم (التوراة) عن ظهر قلب، واهتم بالنصوص التوراتية وبالمسألة اليهودية منذ بدايات القرن العشرين.
ولم يكن اهتمامه بهذه المسائل شخصيا فقط بل كان رسميا عندما شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا العظمى حين بدأت موجات هجرة يهود أوروبا الشرقية تجتاح بريطانيا، ووقف بلفور منها موقفا معارضا، وكان يعارض الهجرة اليهودية إلى شرق أوروبا خوفا من انتقالها إلى بريطانيا، وكان يؤمن بأن الأفضل لبريطانيا أن تستغل هؤلاء اليهود في دعم بريطانيا من خارج أوروبا.
وفي تلك الحقبة أيضا وتحديدا في عام 1906 كان اللقاء الأول مع حاييم وايزمان وتبادل الرجلان الإعجاب كل منهما بالآخر.
.
تعبيرات دقيقة تضمنها "وعد بلفور" عام 1917، والذي أعطى وطنا قوميا لليهود على أرض فلسطين، حتى إن كلمة "the" بالإنجليزية كانت محل جدل كبير، فما قصة هذه الكلمة أو "أل" التعريف بالعربية؟ pic.twitter.com/50y8wpW0uc
— الجزيرة الوثائقية (@AljazeeraDoc) October 21, 2023
قراءة توراتية للمنطقةولا تذكر السيرة الذاتية الكثير عن اهتمامات بلفور بالصهيونية في الفترة ما بين عامي 1906 و1917 بسبب ابتعاده عن المنصب الرسمي الحكومي وإن بقي على تماس غير مباشر مع اليهود بالحكومة البريطانية، لكنه ما لبث أن عاد إلى سيرته الأولى في قراءة النص التوراتي للمنطقة بعد أن عين وزيرا للخارجية في حكومة سكوت لويد جورج.
إعلانوكان هناك ميل في ذلك الوقت لدى يهود شرق أوروبا إلى تبني النزعة الثورية التي أخذت تنمو مع ظهور الأفكار الاشتراكية، وهنا تنبه بلفور إلى أنه ينبغي محاربة هذه النزعة بضمان عدم انضمامهم إلى روسيا في الحرب، وسارت به ظنونه إلى القول إنه بإمكان اليهود التأثير على الرئيس ويلسون لدخول الحرب إلى جانب الحلفاء.
انكشاف مؤامرة سايكس بيكولم يكن اليهود بعيدين عن صياغة ديباجة "سايكس بيكو" و"مؤتمرات السلم" التي عقدت بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، والتي أقرت بصورتها النهائية وضع المنطقة العربية تحت الانتداب الاستعماري الغربي، وبدا وكأن النصوص التوراتية كانت تخيّم فوق رؤوس المؤتمرين والمتآمرين.
وبقي الأمر طي الكتمان وسرا لدى الأطراف التي كانت توشك على اقتسام كعكة الوطن العربي الضعيف والمغيب والذي تعرض لحملة تجهيل وتهميش لسنوات طويلة، لكن هذا السر ما لبث أن انكشف بعد استيلاء البلاشفة على الحكم في روسيا، واكتشف الشريف الحسين بن علي الخديعة البريطانية وأن بريطانيا "حليفتنا الكبرى" لم تكن سوى "طامتنا الكبرى".
سيل من اللعنات تطاردهأطلق بلفور وعده ومضى في سبيله تاركا السياسة وراء ظهره بعد أن أدى "الأمانة" و"رد الجميل" للحركة الصهيونية العالمية، وحقق أحلامه "التوراتية"، واعتزل العمل الرسمي ولم يظهر بعد عام 1922، إلا في مناسبة واحدة بعد نحو 3 سنوات حين شارك في افتتاح الجامعة العبرية، وزار مصر وفلسطين ودمشق فاستقبله السوريون والفلسطينيون والمصريون بتظاهرات كبرى وبسيل من اللعنات، فاضطرت السلطات إلى تهريبه تحت الحراسة المشددة.
وفي تحليلها لجولة بلفور علقت صحيفة الأهرام بأن الزيارة "أججت غضب المشرقيين في كل مكان وطئته قدم صاحب الوعد الآثم. وهو الأمر الذي ترك بلا شك أثرا في ذهن اللورد بلفور"؛ لكنه أثر وقتي، إذ لم يصدر عن الرجل أي كلام يوحي بتأنيب الضمير، وبقى بلفور منعزلا حتى وفاته عام 1930.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فی البرلمان فی فلسطین فی الحرب فی عام
إقرأ أيضاً:
السفيرة إلينا بانوفا: مصر كانت وما زالت ركيزة أساسية في الأمم المتحدة
أشادت السفيرة إلينا بانوفا سفيرة الأمم المتحدة في القاهرة، بدور مصر البارز في تأسيس الأمم المتحدة، مؤكدة أنها كانت من أوائل الدول التي وقعت على ميثاق المنظمة وساهمت في صياغته.
وأشارت السفيرة الينا بانوفا في حديث حصري مع الإذاعة المصرية عن الذكرى الثمانين لإنشاء الهيئة الدولية التي تأسست في 24 أكتوبر 1945- إلى العلاقات المتميزة بين السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، مشيرة إلى أن هذه العلاقة تتميز بتوافق تام في الأطر الأساسية والمواضيع التفصيلية.
وفي هذا السياق، أكدت أن مصر كانت لها مساهمة محورية في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP27)، حيث لعبت دورا رياديا في ملف التنمية المستدامة، مشيرة إلى الدعم المستمر للرئيس السيسي بتحقيق الأمن والسلام في قطاع غزة والسودان، مشددة على اتفاق جوتيريش مع الرئيس السيسي على منع التهجير وإعادة الإعمار في غزة.
وأشارت إلى أن عدد مكاتب الأمم المتحدة في مصر 34 مكتباً من بينها 18 مقرًا إقليميًا، ما يعكس مدى الثقة التي توليها الأمم المتحدة لمصر كمركز إقليمي قوي لما تتمتع به من مكانة سياسية واستقرار في المنطقة.
كما أكدت السفيرة بانوفا، فخر الأمم المتحدة بالكفاءات المصرية التي شغلت مناصب رفيعة في المنظمة، مثل الدكتور بطرس غالي السكرتير العام الأسبق، والدكتور مصطفى طلبة، والسيدة غادة والي. كما أشادت بتعيين الدكتور خالد العناني مديرًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، مؤكدة أن هذا التعيين يمثل فوزا مستحقا يعكس مكانة مصر الدولية في مجالات الثقافة والتعليم.