في أواخر عام 2013، كانت العلاقات بين واشنطن وبرلين على موعد مع أزمة غير مسبوقة، إثر مكالمة غاضبة أجرتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، طالبته خلالها بإجابة قاطعة عن سؤال محدد: "هل تتنصّت واشنطن فعلا على هاتفي الشخصي؟".

جاءت هذه المواجهة بعدما كشفت أجهزة الاستخبارات الألمانية، بتحفيز من تحقيق صحافي، أدلة "ذات مصداقية"، تفيد بأن وكالة الأمن القومي الأميركية راقبت اتصالات المستشارة لسنوات.

لكن برلين لم تكن وحدها المتضررة، فقبل أيام من إجراء هذه المكالمة، وجّه الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا هولاند، احتجاجا رسميا إلى الولايات المتحدة، بعد أن نشرت صحيفة "لوموند" تقريرا يؤكد أن الوكالة الأميركية راقبت أكثر من 70 مليون اتصال في فرنسا خلال ثلاثين يوما فقط.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 210 مليارات دولار.. ما قصة صفقة صواريخ "باك-3″؟list 2 of 2قناع الغرب الذي نعرفه يسقط ووجهه "القبيح" يوشك أن يظهرend of list

آنذاك، لم تكن هذه الوقائع مجرد عملية تجسس محدودة أو منفصلة، بل كانت جزءا من زلزال استخباراتي عالمي أثارته تسريبات إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، الذي سلّم آلاف الوثائق السرية إلى صحفيين استقصائيين عام 2013. وقد كشفت تلك الوثائق عن منظومة مراقبة عالمية تديرها الوكالة بالتعاون مع مقر الاتصالات الحكومية البريطاني، ضمن تحالف استخباراتي يضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ويُعرف باسم تحالف "العيون الخمس" (Five Eyes).

ويُعد هذا التحالف أقدم تكتل استخباراتي متعدد الأطراف في العالم، حيث يتبادل أعضاؤه البيانات الحساسة يوميا عبر شبكة مغلقة لا تخضع لأي رقابة دولية، ويستخدم تقنيات موحّدة لجمع وتحليل الاتصالات والبيانات من مختلف أنحاء العالم.

وبحسب التسريبات، يعمل تحالف "العيون الخمس" ضمن بنية استخباراتية هرمية شديدة التنظيم، تُقسّم العالم إلى ثلاث دوائر من التعاون والتجسّس، حيث تشمل الدائرة الأولى ما يُعرف داخل الولايات المتحدة باسم الطرف الأول، وهي منظومة الاستخبارات الأميركية ذاتها المكوّنة من ست عشرة وكالة، تتصدرها وكالة الأمن القومي الأميركية التي تُمثِّل العمود الفقري لأنشطة المراقبة الرقمية وجمع الاتصالات حول العالم.

إعلان

في حين تضم الدائرة الثانية، أو ما يُعرف بالطرف الثاني، الدول الأنجلوساكسونية الأربع (المملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا)، وهم الشركاء في منظومة تبادل المعلومات داخل التحالف، إذ تُمنح هذه الدول حق الوصول المباشر إلى البيانات وتشارك في عمليات الرصد على قدم المساواة مع واشنطن.

في المقابل، تشمل الدائرة الثالثة، أو ما يُعرف بالطرف الثالث، مجموعة الحلفاء غير المنخرطين في البنية الأمنية العميقة للتحالف، ومن بينهم فرنسا وألمانيا والنمسا وبولندا وبلجيكا. وتُعدّ هذه الدول في نظر واشنطن "حلفاء من الدرجة الثانية"، يمكن التعاون الاستخباراتي معهم في ملفات محددة، لكنهم في الوقت ذاته يخضعون للمراقبة والتجسس من وكالة الأمن القومي.

تحالف فكّ الشفرة الألمانية

يعود أصل تحالف "العيون الخمس" إلى عام 1946، عندما كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان لترسيخ تعاون استخباراتي دائم بعد الحرب العالمية الثانية. ففي ذلك العام، وقّع البلدان اتفاقا سريا عُرف باسم "يوكوسا" (UKUSA)، الذي أصبح لاحقا حجر الأساس لأكبر شبكة تجسس في العصر الحديث.

جاء هذا الاتفاق امتدادا للتعاون بينهما في فك الشفرات العسكرية خلال الحرب، خصوصا في مركز "بليتشلي بارك" البريطاني، الذي أسهم في كسر شفرات الاتصالات الألمانية. وقد نصّ الاتفاق على تبادل شبه كامل للمعلومات الاستخباراتية، وخاصة في مجال استخبارات الإشارات، أي اعتراض الاتصالات والبيانات اللاسلكية، مع التزام الطرفين بعدم التجسس على بعضهما بعضا.

وفي السنوات التالية، انضمت كندا وأستراليا ونيوزيلندا إلى الاتفاق، وكانت تُعرف آنذاك بدول الكومنولث البريطاني المتمتعة بحكم ذاتي جزئي، أي إنها تدير شؤونها الداخلية لكنها لا تزال مرتبطة سياسيا وعسكريا ببريطانيا. وقد شاركت هذه الدول في البداية بصفة تابعة، ضمن ما كان يُعرف بـ"استخبارات الإمبراطورية"، قبل أن تكتسب تدريجيا استقلالا استخباراتيا أكبر، لتصبح في مطلع الخمسينيات على قدم المساواة مع الشركاء الآخرين.

بهذا، جمع التحالف دولا تُوحِّدها اللغة والمصالح والذاكرة الاستخباراتية المشتركة. فقد ورث الأعضاء أساليب تعاونهم من تجربتهم في مواجهة دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أعادوا توجيه بوصلتهم سريعا نحو العدو السوفياتي خلال فترة الحرب الباردة، مع التركيز على مجال استخبارات الإشارات الذي أصبح العمود الفقري للقدرات التقنية والاستخباراتية الغربية.

تطبيع الحلفاء الصغار

مع ذلك، يرى براد ويليامز، أستاذ العلاقات العامة والدولية بجامعة هونغ كونغ، أن تَشكُّل التحالف لم يكن نتيجة التقارب الثقافي بين دول ناطقة بالإنجليزية، بل نتاج تفاعل معقّد بين منطق القوة والمصلحة من جهة، والهوية الثقافية والسياسية من جهة أخرى. فخلف الشعارات عن "الأخوة الأنجلوساكسونية"، كانت هناك شبكة من الحسابات الإستراتيجية الواقعية التي دفعت هذه الدول إلى توحيد قدراتها الاستخباراتية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. فلم تكن المسألة مجرد ثقة متبادلة بين "أمم متقاربة"، بل هندسة مدروسة لبناء تحالف قادر على الردع والتفوق المعلوماتي أثناء الحرب الباردة.

يجمع تحالف "العيون الخمس" وكالات إنفاذ القانون والأمن من الدول الخمس لتبادل المعلومات الاستخباراتية والمعلومات وتقييم التهديدات عبر مجموعة من القضايا المتعلقة بالأمن القومي (الموقع الإلكتروني لشرطة مكافحة الإرهاب)

وفق ذلك، قامت المنظومة على معايير انتقائية تحدد مَن يستحق دخول الدائرة الضيقة ومَن يُستبعد. فالعوامل الثقافية كانت ضرورية لتأسيس الإطار الرمزي للتحالف، لكنها لم تكن كافية للانضمام إليه، إذ كان على أي دولة راغبة في العضوية أن تُثبت ولاءها السياسي والأيديولوجي، وأن تُعد في نظر واشنطن ولندن جديرة بالثقة في مواجهة الخطر الشيوعي. من هنا أصبح الولاء للكتلة الغربية شرطا أمنيا وأخلاقيا لا يقل أهمية عن الجغرافيا أو اللغة أو العرق.

إعلان

ورغم هذه الاعتبارات الإستراتيجية، فإن استمرار التحالف لم يكن ممكنا إلا من خلال عملية أعمق، تتخطى مسائل التنسيق العسكري أو تبادل المعلومات. وهنا يستعين ويليامز بنظرية التماثل الاجتماعي (Socialization)، التي تشرح كيف تعمل القوى الكبرى على إعادة تشكيل الحلفاء الأصغر سياسيا ومؤسسيا بما يتوافق مع معاييرها الأمنية والأيديولوجية. فالقوة هنا لا تُمارس فقط عبر السيطرة العسكرية أو الاقتصادية، بل أيضا عبر تطبيع السلوك والمعايير داخل منظومة التحالف، بحيث تتبنى الدول الصغيرة رؤية الكبار للعالم، وتُعيد هيكلة أجهزتها الأمنية بما ينسجم مع مصالحهم.

في هذا الإطار، اضطلعت الولايات المتحدة وبريطانيا بدور "المهندس الثقافي والأمني" داخل التحالف؛ إذ تولّتا مهمة توحيد البنى المؤسسية والقواعد التنظيمية وأنماط العمل الاستخباراتي في الدول الثلاث الأصغر. تمّ ذلك عبر برامج تدريب مشتركة وتبادل للضباط والمشاركة في صياغة التشريعات الأمنية والاستخبارية.

وعندما ساورت واشنطن شكوك حول موثوقية بعض الحلفاء -كما حدث مع أستراليا في الأربعينيات بسبب مخاوف من اختراق شيوعي داخل حكومتها- تولّت لندن مهمة "إعادة التأهيل الأمني"، فأنشأت جهاز المخابرات الأسترالي على النمط البريطاني لضمان انسجامه مع معايير التحالف. ولم تستعد كانبيرا ثقة واشنطن إلا بعد وصول حكومة روبرت منزيس اليمينية إلى السلطة عام 1949.

بهذا المعنى، لا يُعدّ التحالف مجرد اتفاق تقني لتبادل المعلومات، بل يُعد نظاما اجتماعيا مغلقا يُعيد إنتاج قيم ومصالح القوى المهيمنة داخله. فالتشابه الثقافي بين هذه الدول لم يكن سوى البوابة الأولى، أما الانضمام الفعلي فكان مشروطا بعملية طويلة من "التماثل" مع النموذجين البريطاني والأميركي، سياسيا وأمنيا وأيديولوجيا.

شعار وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في مقر الوكالة في لانغلي بولاية فرجينيا في 3 مارس/آذار 2005 (رويترز)"إيشلون".. من المعركة إلى التنافس الاقتصادي

ومع استقرار البناء الداخلي، بدأ الانتقال من مرحلة "تطبيع الحلفاء الصغار" إلى مرحلة توسيع النفوذ. فمع اتساع رقعة المواجهة بين الكتلتين الشرقية والغربية، تطور عمل "العيون الخمس" جغرافيا وتقنيا بوتيرة متسارعة، وكانت ذروة هذا التوسع في سبعينيات القرن العشرين مع إطلاق مشروع "إيشلون" (ECHELON)، الذي يُعدّ أحد أكثر أنظمة التنصّت طموحا في التاريخ.

فقد شارك الأعضاء في إنشاء منظومة إلكترونية عملاقة، اعتمدت على شبكة من محطات اعتراض موزّعة في أنحاء العالم، هدفها الأساسي هو اعتراض الاتصالات السوفياتية والعسكرية التابعة لحلف وارسو خلال الحرب الباردة، بما في ذلك المكالمات الهاتفية، والبرقيات، والإشارات الراديوية، وصولا إلى بث الأقمار الصناعية.

لكن مع مرور الوقت، تجاوز "إيشلون" غايته العسكرية الأولى، واتسع ليشمل مراقبة الخصوم والحلفاء على حدٍّ سواء. فبعد نهاية الحرب الباردة، استُخدم النظام في رصد الاتصالات الاقتصادية والتجارية، مما منحه بُعدا استخباراتيا اقتصاديا جديدا، إذ أشارت تقارير أوروبية إلى أن واشنطن ولندن استخدمتا هذه البيانات في دعم شركاتهما الوطنية في المنافسة التجارية الدولية.

وفي عام 2001، كشف تحقيق للبرلمان الأوروبي أن "إيشلون" لم يكن مجرد مشروع دفاعي، بل نظام مراقبة عالمي قادر على اعتراض ملايين الاتصالات يوميا، عبر خوارزميات تفرز الكلمات المفتاحية وتربطها بهويات وأماكن محددة. وأكد التقرير أن شبكة الرصد كانت تضم محطات رئيسية في مواقع إستراتيجية على امتداد العالم، تعمل بتنسيق كامل بين الدول الخمس.

ورغم إنكار حكومات التحالف بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية لسنوات طويلة وجود "إيشلون"، فإن التسريبات اللاحقة أكدت طبيعته العابرة للحدود، وقدرته على مراقبة الاتصالات المدنية والعسكرية على حدٍّ سواء. وجاء أول اعتراف رسمي بذلك عام 1999، على لسان مارتن برادي، مدير مديرية إشارات الدفاع الأسترالية، الذي أقرّ أن وكالته شاركت في اعتراض اتصالات مدنية تمرّ فوق المحيطين الهندي والهادي، تنفيذا للمعايير المنصوص عليها في اتفاقية "يوكوسا".

يُعتقد أن هذه المنشأة الواقعة في غرب لندن هي حلقة وصل رئيسية في شبكة إيشلون للتجسس على الاتصالات، وركيزة أساسية للتعاون الأميركي البريطاني في مجال الاستخبارات الإلكترونية (الأوروبية)طبّاخ السمّ أيضا يذوقه

وبحسب منظمة "الخصوصية الدولية" ومقرها لندن، يقوم كل طرف في التحالف بجمع ما يستطيع من إشارات واتصالات ضمن نطاقه الجغرافي، سواء كانت مكالمات هاتفية أو رسائل إلكترونية أو بثًّا عبر الأقمار الصناعية، ثم تُشارك المعلومات تلقائيا مع بقية الأعضاء عبر شبكة إلكترونية مغلقة تُعرف باسم "الشبح الحجري" (Stone Ghost)، تتيح تبادل البيانات والتقارير والتحليلات في الزمن الحقيقي. بمعنى أن أي معلومة تلتقطها إحدى الدول الخمس تصبح متاحة افتراضيا للجميع، باستثناء حالات محدودة تخضع لاعتبارات أمنية خاصة.

إعلان

فضلا عن ذلك، تُعقد اجتماعات دورية لتوزيع المهام حسب الأولويات الجغرافية والتقنية. فالولايات المتحدة تمتلك القدرات الأوسع عالميا بفضل أقمارها الصناعية وشبكاتها البحرية، بينما تركز بريطانيا على أوروبا وروسيا والشرق الأوسط عبر محطات التنصّت في قبرص وغيرها.

أما أستراليا فتغطي آسيا والمحيط الهادي، خصوصا جنوب شرق آسيا، حيث لعبت دورا محوريا فيما يسمى "مكافحة الإرهاب" بعد 2001، في حين تتابع كندا الاتصالات في القطب الشمالي وشرق أوروبا، وتغطي نيوزيلندا منطقة جنوب المحيط الهادي. وبهذا التوزيع الذكي للمهام، تمكن التحالف من تغطية الكرة الأرضية عمليا على مدار الساعة.

وتكشف التسريبات أن التحالف طوّر قواعد بيانات موحدة، يعمل فيها محللو استخبارات من مختلف الدول جنبا إلى جنب، حتى بات من الصعب أحيانا تحديد الجهة الأصلية التي جمعت المعلومة. كما تعمل فرق وضباط اتصال مشتركون في منشآت وقواعد موزعة حول العالم، مما يجعل التعاون الاستخباراتي أقرب إلى دمج مؤسساتي فعلي لا مجرد تنسيق بين دول.

ورغم إعلان أعضاء التحالف التزامهم باتفاقية "عدم التجسس المتبادل"، فإن الوثائق المسربة أظهرت أن الواقع أكثر تعقيدا. فقد طوّرت هذه الدول آلية التفاف قانوني، تسمح لها بتبادل معلومات حساسة عن مواطني بعضها بعضا، دون خرق قوانينها المحلية. فبدلا من أن تتجسس الدولة على مواطنيها مباشرة (وهو أمر تحظره قوانينها الداخلية)، تقوم دولة حليفة بجمع تلك المعلومات ثم تشاركها معها، وبذلك تحصل كل دولة على ما تريد بطريقة قانونية ظاهريا. هذا الترتيب جعل التحالف يعمل في منطقة رمادية قانونيا، لا تخضع لأي تشريعات واضحة أو رقابة برلمانية وقضائية فاعلة.

أحد أمثلة ذلك ما كشفه "مايك فروست"، العميل السابق في استخبارات الإشارات الكندية، حين أشار إلى أن مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، استخدمت شبكة "إيشلون" عام 1983 للتجسس على اثنين من وزرائها. وأوضح فروست أن منظومة "العيون الخمس" استُخدمت للتحايل على القوانين المحلية الخاصة بالمراقبة، إذ طلبت تاتشر من الجانب الكندي تنفيذ عملية التنصت نيابةً عنها، حتى تتمكن من الإنكار الكامل إذا كُشف الأمر لاحقا.

رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (يسار) مع وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بتاريخ 27 مايو/أيار 1983 (غيتي)مراقبة الكلّ تحت ذريعة مكافحة الإرهاب

هذا التدخل في الحريات والالتفاف المنهجي على القوانين المحلّية هو ما مهّد الطريق لتحوّل أكبر لاحقا. فبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، انتقل التحالف من مراقبة الخصوم إلى مراقبة الجميع، وتحوّل بقيادة واشنطن إلى شبكة مراقبة كوكبية تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب". ومع تضاعف ميزانيات الاستخبارات الأميركية والبريطانية، نشأت برامج رقمية سرّية جمعت بلا قيود بيانات الاتصالات والمراسلات حول العالم.

وتكشف التسريبات عن استخدام برامج مثل "بريزم"، الذي مكّن وكالة الأمن القومي الأميركية من الوصول المباشر إلى خوادم شركات كبرى، مثل مايكروسوفت وغوغل وآبل وفيسبوك، لاستخراج رسائل البريد والصوت والفيديو والصور وسجلات الاتصالات لملايين المستخدمين، دون علمهم أو موافقتهم. كان الهدف المعلن "منع الإرهاب"، في حين أتاح برنامج "إكس كي سكور" لمحللي الاستخبارات البحث عبر واجهة بسيطة، في محتوى البريد الإلكتروني وسجلات التصفح ووسائل التواصل لأي شخص تقريبا، دون إذن قضائي مباشر.

بالتوازي، طوّرت وكالة الاتصالات الحكومية البريطانية مشروعا سريا آخر حمل اسم "تمبورا"، بدأ تشغيله عام 2011. هذا البرنامج مكّن بريطانيا من اعتراض وتخزين كميات هائلة من البيانات المارة عبر كابلات الألياف الضوئية الدولية التي تعبر أراضيها. وبفضل هذا المشروع حققت الوكالة إنجازا استثنائيا؛ إذ أظهرت وثائق داخلية أنها باتت قادرة على مراقبة أكبر حجم من حركة الاتصالات العابرة للقارات، من رسائل وبريد إلكتروني واتصالات هاتفية، إضافة إلى ما يُعرف بالبيانات الوصفية، وهي المعلومات التقنية المرافقة لأي اتصال، مثل الوقت والموقع والجهة المرسلة والمستقبِلة.

استند هذا المشروع إلى الموقع الجغرافي الفريد لبريطانيا بوصفها نقطة تقاطع للكابلات البحرية عبر الأطلسي، وتمرّ من خلالها نسبة ضخمة من الاتصالات الأوروبية والأميركية. وقد استغلت الوكالة هذا الموقع لمدّ كوابلها إلى الشبكات الدولية، واعتراض تدفق المعلومات وتخزينها لمدة تصل إلى ثلاثين يوما، بغرض الفحص والتحليل، قبل مشاركة النتائج مع نظيرتها الأميركية.

إعلان

وتُظهر التقارير أن ما عزّز قدرات المراقبة لدى "العيون الخمس" هو قيام شراكات وثيقة بين الأجهزة الأمنية وشركات الاتصالات والتكنولوجيا، فيما يُعرف أحيانا بـ"المجمّع الصناعي–الاستخباراتي للمراقبة"، إذ أشارت وثائق إلى أن وكالة الأمن القومي الأميركية اعتمدت على اتفاقات سرية مع شركات كبرى لتسهيل تدفّق البيانات من الكابلات الدولية نحو خوادمها.

عودة إلى الخصوم التقليديين

لكن بعد عقدين من التركيز على "حرب الإرهاب"، أعاد التحالف توجيه بوصلته نحو خصومه التاريخيين، أي الصين وروسيا. فمع تصاعد الهجمات السيبرانية والتجسس الصناعي والتكنولوجي المنسوب إلى بكين، باتت أجهزة التحالف ترى فيها تهديدا إستراتيجيا مباشرا.

ففي عام 2023، ظهر رؤساء الاستخبارات في الدول الخمس علنا خلال لقاء في كاليفورنيا، اتهموا خلاله الصين بشنّ أوسع حملة في التاريخ لسرقة الملكية الفكرية والتقنيات المتقدمة. هذا الظهور النادر عكس تحولا جوهريا في أولويات التحالف، الذي بات يتعامل مع الصين بوصفها خصما أساسيا يستوجب تنسيقا شاملا.

برز هذا التنسيق بوضوح في ملف حظر شركة "هواوي" الصينية من شبكات الجيل الخامس، إذ قادت واشنطن ولندن حملة لإقناع الحلفاء بأن معدات الشركة تُمثِّل أداة تجسس محتملة لبكين. واستجابت دول التحالف تباعا، وكان آخرها كندا، التي أعلنت حظر استخدام معدات "هواوي" في مايو/أيار 2022.

وفي مؤشر على عمق المتابعة الاستخباراتية داخل الصين نفسها، أعلن التحالف في يونيو/حزيران الماضي رصده محاولات ممنهجة من بكين لتجنيد عسكريين غربيين سابقين، لا سيما الطيارين ومهندسي الطيران والخبراء الفنيين، لتدريب جيش التحرير الشعبي الصيني والاستفادة من خبراتهم في تعزيز القدرات الجوية لبكين.

أوضح التحذير أن بكين تلجأ إلى شركات عسكرية خاصة بوصفها واجهة لتجنيد العسكريين الغربيين، بهدف إخفاء الأهداف الحقيقية للتدريب. وتُنفَّذ هذه الأنشطة غالبا خارج الأراضي الصينية، مثل أكاديمية الطيران التجريبي في جنوب أفريقيا، التي تُعد من أبرز الجهات التي تستقطب طيارين غربيين سابقين لتدريب نظرائهم الصينيين. ولتعميق التمويه، تُجرى التدريبات باستخدام مقاتلات غربية، فيما تُقدَّم للمدربين تفاصيل محدودة أو مضللة حول هوية المستفيدين الفعليين من التدريب.

يعكس هذا التحذير مدى تغلغل الاختراق الاستخباراتي الغربي في مراقبة الأنشطة الصينية، واتساع مهام التحالف من جمع الاتصالات والمعلومات التقنية إلى رصد التحركات البشرية وشبكات التجنيد العسكري، في إطار صراع شامل على التفوق المعلوماتي بين الجانبين.

أما في مواجهة روسيا، فيدّعي "العيون الخمس" نجاحه في التصدي لهجمات سيبرانية منسوبة إلى موسكو، لا سيما لمجموعة القرصنة الروسية "إيه بي تي-29″، التابعة لجهاز الاستخبارات الخارجية الروسي. ففي فبراير/شباط 2024، أصدرت الوكالات السيبرانية في الدول الخمس تحذيرا مشتركا بشأن أساليب المجموعة الروسية، تضمّن تفصيلا للتكتيكات المستخدمة لاختراق البنى التحتية السحابية الغربية.

هذه التطورات تُظهر قدرة التحالف على التكيّف مع تحولات الزمن ومع طبيعة الخصوم المتغيّرة. فمن الحرب الباردة ومواجهة الاتحاد السوفياتي، إلى مرحلة "الحرب على الإرهاب"، ثم إلى صراعات التفوق التكنولوجي مع الصين وروسيا، ظلّ التحالف قادرا على إعادة تعريف مهامه وأدواته بما ينسجم مع متطلبات كل مرحلة. غير أن الثابت عبر كل هذه التحولات هو إدراكه العميق لقيمة المعلومة، باعتبارها العنصر الحاسم في موازين القوة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أبعاد وکالة الأمن القومی الأمیرکیة ن وکالة الأمن القومی الولایات المتحدة تبادل المعلومات الحرب الباردة العیون الخمس الدول الخمس ل التحالف فی مواجهة هذه الدول ما ی عرف لم یکن التی ت لم تکن

إقرأ أيضاً:

مؤتمر أعصاب العيون يستعرض أحدث المستجدات في التشخيص والعلاج

"عمان": استعرض المؤتمر الوطني الأول لطب أعصاب العيون، الذي نظّمه مستشفى النهضة ممثلًا بقسم طب أعصاب العيون بفندق إنترسيتي مسقط اليوم ، أحدث المستجدات في تشخيص أمراض العيون ذات الصلة بالجهاز العصبي وعلاجها.

رعى افتتاح المؤتمر سعادة الدكتور سعيد بن حارب اللمكي وكيل وزارة الصحة للشؤون الصحية، وبحضور عدد من المسؤولين والأطباء من داخل سلطنة عُمان وخارجها.

شهد المؤتمر مشاركة نخبة من الأطباء الاستشاريين والمتخصصين في مجال طب العيون والأعصاب من المؤسسات الصحية داخل سلطنة عُمان وخارجها، وهدف إلى تبادل الخبرات العلمية وبحث أحدث المستجدات في تشخيص أمراض العيون ذات الصلة بالجهاز العصبي وعلاجها، إلى جانب تسليط الضوء على أهمية التشخيص المبكر والتدخل العلاجي المتكامل بين تخصصَي العيون والأعصاب.

تضمّن برنامج المؤتمر عددًا من المحاضرات العلمية وحلقات العمل التخصصية التي تناولت أحدث الأبحاث والتقنيات الطبية في المجال، واستعرض تجارب محلية ناجحة في التعامل مع أمراض العصب البصري واضطرابات حركة العين.

وألقت الدكتورة نسرين بنت ناصر البلوشية اختصاصية أولى طب عيون بمستشفى النهضة كلمة أوضحت فيها أن تنظيم هذا الحدث يأتي في إطار حرص المستشفى على تطوير الخدمات الطبية التخصصية وتعزيز البحث العلمي والتدريب المستمر للكوادر الوطنية، مشيرة إلى أن طب الأعصاب البصري ليس مجرد تخصص طبي، بل هو رحلة لاستكشاف منظومة عصبية دقيقة تتشابك فيها الخلايا وتتبادل الإشارات لترجمة الصور إلى إدراك ومعنى.

وأضافت أن أطباء الأعصاب البصريين يتحمّلون مسؤولية كبيرة لا تقتصر على التشخيص والعلاج، بل تمتد إلى التوعية والتكامل مع الكوادر الطبية في تخصصات الأعصاب والعيون والباطنية، مؤكدة أن هذه اللقاءات العلمية تمثل منصة لتبادل الخبرات ومناقشة الحالات المعقدة واستعراض أحدث التقنيات في التصوير العصبي والفحوصات الوظيفية والعلاجات الحديثة.

وفي الختام، كرّم سعادة الدكتور سعيد بن حارب اللمكي المتحدثين والمشاركين تقديرًا لإسهاماتهم في إنجاح المؤتمر، مؤكدًا على مواصلة تنظيم اللقاءات العلمية المتخصصة مستقبلًا.

مقالات مشابهة

  • جامعة الدول العربية تتابع انتخابات مجلس النواب العراقي 2025 ببعثة مراقبة عربية رفيعة المستوى
  • مؤتمر أعصاب العيون يستعرض أحدث المستجدات في التشخيص والعلاج
  • كوريا الشمالية تعليقاً على العقوبات الأميركية: لن تؤثر مطلقاً علينا وسنرد بالمثل
  • تحقيق بريطاني يكشف شبكة كوردية تدير نشاطات غير قانونية للمهاجرين
  • أخبار بني سويف: توزيع 360 كيلو لحوم مجانًا.. وإزالة 840 حالة تعد على أراض زراعية.. والمحافظة تشهد أكبر مؤتمر انتخابي بحضور مرشحي التحالف والقائمة
  • لوبس: العقوبات الأميركية على قاض فرنسي رمز صارخ لتهديد السيادة الأوروبية
  • بني سويف تشهد أكبر مؤتمر انتخابي بحضور مرشحي التحالف والقائمة
  • مصر تؤكد التزامها ببناء الثقة الرقمية خلال مشاركتها في منتدى حماية البيانات الآسيوي
  • البيت الأبيض: ولي العهد السعودي سيزور واشنطن الشهر الجاري