دارفور – في زاوية من زوايا مخيم الطويلة، يجلس الطفل آدم فوق كومة من التراب، يعبث بعصا مكسورة يرسم بها دوائر على الأرض، لا يعرف عمره، ولا يملك أي وثيقة تُثبت اسمه أو نسبه، وعندما يُسأل عن والديه، يهمس بصوت خافت "أمي ماتت في الطريق وأبي لا أعرفه".

وداخل خيمة تغطيها ثياب بالية، تحتضن مريم إسماعيل، وهي أرملة في الثلاثينيات من عمرها، طفلا لا يتجاوز الثالثة من عمره، تقول للجزيرة نت "عثرنا عليه يبكي قرب الطريق المؤدي إلى طويلة، كان وحيدا، لا يتكلم، ولا أحد يعرفه، سألنا في كل الخيام، ولم يتعرف عليه أحد".

لتضيف "أطلقت عليه اسم نور، وقررت أن أتكفل برعايته مع أطفالي"، لكنها تواجه عقبة صعبة، إذ لا يحصل على حصته من الغذاء أو العلاج لأنه غير مسجل لدى المنظمة التي تقدم المساعدات، "طلبوا إثباتا لهويته، وهذا ما لا أملكه"، تقول مريم بأسى.

مريم ليست الوحيدة التي تواجه هذا التحدي، فهناك عشرات الأسر في المخيمات تحتضن أطفالا تائهين دون أن يكون لهم أي وضع قانوني أو إداري، مما يحرمهم من أبسط حقوقهم في الغذاء والرعاية من قبل المنظمات الوافدة هذه الأيام إلى المنطقة.

 

بلا سند ولا هوية

عندما أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة الفاشر المحاصرة يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اندفعت موجات كبيرة من السكان نزوحا في مختلف الاتجاهات، فرارا من القصف والرعب وأعمال التنكيل.

كانت العائلات تفرّ تحت وابل من الرصاص، يجرون أطفالهم، أو يحملونهم على الأكتاف، أو يتركونهم خلفهم دون قصد، وسط الدمار.

ومنذ أن بسطت هذه القوات سيطرتها على آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور الغربي المترامي الأطراف، ارتكبت -بحسب شهادات ناجين ومراقبين محليين- سلسلة من الانتهاكات المروعة، شملت إعدامات ميدانية واغتصابات ونهبا واسعا، وقد دفعت هذه الفظائع آلاف الأسر إلى النزوح العشوائي، تاركة وراءها أطفالا بلا سند ولا هوية.

إعلان

وكان مخيم طويلة، الواقع على بُعد نحو 68 كيلومترا إلى الغرب من المدينة، الوجهة الأقرب والأكثر أمانا نسبيا للنازحين، غير أن كثيرا من الأطفال وصلوا إليه بمفردهم، بلا آباء أو أمهات، ودون أي وثائق تُثبت هوياتهم، فبعضهم لا يعرف اسمه الكامل، وآخرون لا يتذكرون حتى اسم أمهاتهم.

أم سودانية نازحة تطعم أطفالها في ملجأ بسبب استمرار الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش في طويلة (رويترز)

 

ذاكرة مشوشة 

تقول عائشة عبد الرحمن، وهي متطوعة ميدانية تعمل في مخيمات طويلة، "نستقبل يوميا أطفالا لا يعرفون أسماءهم، ولا يملكون أي وثائق، فبعضهم لا يتذكر حتى اسم والدته، خصوصا من هم دون الخامسة من العمر".

وتضيف "الصدمة النفسية التي تعرضوا لها أربكت ذاكرتهم، كثيرون منهم شهدوا القصف أو رأوا جثثا أو فقدوا إخوتهم أثناء الفرار، ونحن نتعامل مع جيل فقد كل شيء، كالأسرة والهوية والأمان".

وتشير عائشة، في حديثها للجزيرة نت، إلى أن بعض الأطفال يرفضون الحديث أو يصرخون عند سماع أصوات مرتفعة، في حين يختبئ آخرون عند رؤية أشخاص غرباء، وتتابع "هؤلاء الأطفال لا يحتاجون فقط إلى الغذاء، بل إلى رعاية نفسية عاجلة، وإلى من يعيد إليهم الإحساس بالأمان".

وفي بيان نشرته عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن آلاف الأسر تفر من العنف المتصاعد في مدينة الفاشر، وتصل إلى مخيم طويلة في حالة إنهاك شديد، تعاني الجوع وسوء التغذية وفقدان أفراد من عائلتها.

وتضيف المنظمة الدولية أن معظم النازحين من النساء والأطفال، وكثير منهم انفصلوا عن ذويهم خلال رحلة النزوح، مشيرة إلى أن فرقها تعمل ميدانيا لتقديم الدعم الغذائي والرعاية الصحية والمياه النظيفة للأطفال والأسر التي فقدت كل شيء.

لكن رغم هذه الجهود، تقول اليونيسيف إن حجم الكارثة يفوق قدرات المنظمات الإنسانية، في ظل غياب التنسيق الرسمي، وتدهور الأوضاع الأمنية، وتزايد أعداد النازحين يومًا بعد يوم.

طفل سوداني مفقود بلا أهل ودون معيل بمنطقة طويلة شمالي دارفور (مواقع التواصل)جهود محدودة

من جانبه، يقول محمد شرف الدين، مسؤول العمل الإنساني في لجنة فك الحصار عن الفاشر، إن "ما يحدث في المخيمات يمثل كارثة إنسانية صامتة، فنحن أمام جيل مهدد بالضياع، ليس فقط بسبب الحرب، بل بسبب غياب آليات الحماية والتوثيق".

ويضيف في حديثه للجزيرة نت "هؤلاء الأطفال بلا شهادات ميلاد، بلا أسماء قانونية، مما يعني أنهم خارج النظام التعليمي وخارج مظلة الرعاية الصحية، وحتى خارج الإحصاءات الرسمية، إنهم غير مرئيين".

ويتابع شرف الدين "المشكلة ليست فقط في غياب الوثائق، بل في غياب الدولة نفسها، لا توجد جهة مسؤولة عن حصر هؤلاء الأطفال أو تقديم الدعم النفسي لهم، فالمنظمات الإنسانية تعمل بجهود فردية، وغالبا ما تصطدم بعوائق أمنية ولوجستية".

وفي ختام حديثه، يطلق شرف الدين نداء عاجلا، مشيرا إلى أن الفاشر "بحاجة إلى تحرك جماعي، من الإعلام والمنظمات والمجتمع، لتسليط الضوء على مأساتها، فهؤلاء الأطفال ليسوا مجرد أرقام، إنهم مستقبل هذا البلد، وإذا لم نتحرك الآن، فإننا نواجه خطر إنتاج جيل جديد من المهمشين الذين قد يتحولون لاحقا إلى ضحايا للاستغلال في صراعات قادمة".

إعلان

وبحسب تقديرات غير رسمية حصلت عليها الجزيرة نت من متطوعين ميدانيين، فإن عدد الأطفال الذين وصلوا إلى بعض القرى حول الفاشر دون ذويهم يتجاوز 300 طفل، من بينهم نحو 70 طفلا في مخيمات النازحين بمنطقة طويلة.

ويحذر ناشطون من أن ترك هؤلاء الأطفال دون حماية قانونية أو نفسية قد يجعلهم عرضة للاستغلال، سواء في أعمال غير مشروعة، أو في تجنيدهم ضمن جماعات مسلحة، أو حتى في شبكات الاتجار بالبشر مستقبلا.

#الفاشر.. مدينة تقاوم الحصار المتواصل والمجازر المتكررة لقوات الدعم السريع في #السودان#ألبوم pic.twitter.com/bfeYk1ktma

— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 4, 2025

جريمة مكتملة

تقول فاطمة عبد الله، ناشطة محلية، إن "ما يحدث في الفاشر جريمة إنسانية مكتملة الأركان، فالأطفال يُتركون لمصيرهم بلا حماية، بلا تعليم، وبلا رعاية، هذا ليس مجرد انتهاك لحقوقهم، بل تهديد لمستقبل السودان كله".

وتضيف في حديثها للجزيرة نت "الطفل الذي لا يعرف اسمه، ولا يملك وثيقة، ولا يتلقى تعليما، هو مشروع ضياع، فنحن لا نتحدث عن حالات فردية، بل عن ظاهرة تتسع يومًا بعد يوم".

ورغم أن السودان صادق على اتفاقية حقوق الطفل التي تكفل لكل طفل الحق في الاسم والهوية والرعاية الصحية والتعليم والحماية من الاستغلال، فإن الواقع في الفاشر يكشف عن انتهاك ممنهج لهذه الحقوق، وسط غياب المساءلة وضعف التدخل الدولي الفعّال.

وتطالب منظمات حقوقية محلية ودولية بفتح تحقيقات مستقلة، وتوثيق الانتهاكات، ووضع آليات عاجلة لتسجيل الأطفال فاقدي السند الأسري، بما يضمن لهم الحد الأدنى من الحماية القانونية والإنسانية.

وبينما تغيب الحلول الجذرية، يبقى آدم ونور وأقرانهما في انتظار من يعيد إليهم أسماءهم وهوياتهم، وربما طفولتهم المسلوبة، وفي ظل غياب الدولة وصمت المجتمع الدولي، يبقى السؤال مفتوحا: من يحمي أطفال الفاشر من أن يصبحوا وقودا لصراعات الغد؟

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات هؤلاء الأطفال الدعم السریع للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

شهادات مروّعة عن اغتصابات جماعية بعد سقوط الفاشر بيد الدعم السريع

تتكشف يوما بعد يوم فظائع مروّعة من داخل مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، بعدما أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها عليها في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، منهية بذلك حصارا استمر أكثر من عام.

وتصف شهادات الناجين مشاهد صادمة من القتل والعنف الجنسي والانتهاكات الواسعة التي رافقت سقوط المدينة، في واحدة من أكثر فصول الحرب السودانية قسوة.

تروي أميرة (اسم مستعار)، وهي أم لأربعة أطفال نجت من الفاشر بعد رحلة محفوفة بالموت نحو مدينة طويلة غربا، لمنظمة "أفاز" ما شاهدته من أهوال قائلة "الاغتصاب كان جماعيا وأمام الناس، لا أحد يستطيع أن يوقفهم.. كانوا يضربون ويعذبون النساء علنا".

وتضيف أنها احتُجزت في بلدة كورما شمال غربي الفاشر، حيث "كان الاغتصاب يتم حتى في الليل، ولا أحد يسأل أو يمنع"، وكشفت أنها دفعت فدية قدرها 5 مليارات جنيه سوداني لتُفرج عنها قوات الدعم السريع وتسمح لها بالرحيل مع أطفالها.

وتتابع أميرة أن من يعجز عن الدفع "يُسلب ماله أو تُؤخذ بناته للاغتصاب.. وحين غادرت كورما، كان الطريق مليئا بالجثث.. تضطر أن تقفز فوقها لتواصل السير".

وتؤكد أنها شاهدت مقاتلي الدعم السريع "يذبحون رجلا بالسكاكين" أثناء دخولهم مدينة قرنة في طريقهم إلى كورما، مشددة على أنّه "كان هناك قتل بالرصاص وقتل بالسكاكين". وتقول "هذه المشاهد لا تزال تطاردني في الليل. كثيرا ما أستيقظ وأنا أرجف متذكرة ما رأيت في الطريق".

وحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، فقد أُبلغ عن اغتصاب جماعي لما لا يقل عن 25 امرأة داخل مأوى للنازحين قرب جامعة الفاشر، حيث "اختار عناصر الدعم السريع النساء تحت تهديد السلاح واعتدوا عليهن جنسيا"، ما أجبر مئات الأسر على الفرار وسط إطلاق النار.

وقال المتحدث باسم منسقية اللاجئين والنازحين في دارفور آدم رجال إن منظمته وثقت ما لا يقل عن 150 حالة عنف جنسي منذ سقوط المدينة وحتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، مشيرا إلى أن بعض تلك الجرائم وقعت داخل الفاشر، وأخرى على الطرق المؤدية إلى مدينة طويلة.

إعلان

كما تحدث شهود آخرون عن عمليات تفتيش "مهينة" طالت النساء، حيث يقول محمد، البالغ 56 عاما، وهو ناجٍ آخر من الفاشر "يفتشون الملابس وإن لم يجدوا شيئا يبدؤون بالضرب. وينتزعون حتى الفوط الصحية وحفاضات الأطفال. لا يتركون أي شيء. لا أموالك ولا كرامتك".

ومنذ سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر، قُدّر عدد الفارين بنحو 65 ألف مدني، بينهم 5 آلاف على الأقل لجؤوا إلى مدينة طويلة التي تستقبل أصلا أكثر من نصف مليون نازح. ويعيش هؤلاء في ظروف إنسانية مأساوية داخل خيام مهترئة ومع انعدام شبه تام للطعام والمياه والدواء.

وقال رجال إن الوضع في طويلة "بحاجة إلى تدخل فوري"، مؤكدا أن السكان "يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة، ويعانون من صدمات نفسية عميقة بسبب ما شهدوه من عنف".

مع استمرار انقطاع الاتصالات وصعوبة الوصول الإنساني، تبقى شهادات الناجين هي النافذة الوحيدة على حجم المأساة التي تعيشها دارفور، في حرب تزداد وحشية يوما بعد يوم.

مقالات مشابهة

  • فزع أممي إزاء فظائع الدعم السريع بالفاشر
  • بعد سيطرة الدعم السريع .. مأساة الأطفال بلا هوية في الفاشر
  • صور الأقمار الصناعية في مدينة الفاشر تكشف عن مقابر جماعية بعد سيطرة الدعم السريع
  • الدعم السريع يتقهقر في دارفور وسط معاناة إنسانية
  • شهادات مروّعة عن اغتصابات جماعية بعد سقوط الفاشر بيد الدعم السريع
  • شاهد بالفيديو.. بعد أيام من المسرحية التي قام بها إعلام الدعم السريع بإعتقاله.. سفاح الفاشر “أبو لولو” يظهر وهو يحتفل وسط جنود المليشيا بسقوط طائرة بغرب كردفان
  • جوع وعطش وأمراض.. مأساة النازحين تتفاقم في الدبة السودانية
  • الجيش السوداني يتعهد بتحرير دارفور وكردفان من سيطرة الدعم السريع
  • تداول فيديو لـزيارة حميدتي للفاشر بعد سيطرة الدعم السريع على المدينة.. هذه حقيقته