دورنمات البحث عن حداثة مغايرة!
تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT
إيهاب الملاح
(1)
لا أذكر أول مرة استمعت فيها إلى اسمه! على الأرجح في واحد من برامج الإذاعة، وأنا صغير استمعت إلى "مسرحية" من مسرحياته شدتني وجذبتني لمتابعتها، وأثارت فضولي، ولا أذكر الآن اسمها ولا مخرجها! وإن كان اسم الكاتب السويسري الأشهر فردريش دورنمات في حدود تعرفي المبكر عليه، مقرونا باسم أنيس منصور الذي كان يشاع أنه أول من ترجم أعماله إلى العربية عن الألمانية!!
لكن بداية التعرف المنظم الممتع على نصوص دورنمات خاصة في جانبها الحداثي المبهر (قصة ورواية بالأخص) فكانت من خلال ترجمات سمير جريس الرائقة الرصينة، وقد ترجم له نصوصًا مهمة جدا منها روايته المذهلة «الوعد» التي افتتنت بها وأعجبت بها أيما إعجاب، وقرأتها مرارا وأعدت قراءتها، ولا أنزعج من ذلك أبدًا! نص مذهل لا تتركه إلا وعقلك يكاد ينشطر من صعوبة الأسئلة الوجودية التي يطرحها، وتسلسل الطريقة التي يطرحها بها!
يحيرك ويذهب بك ويجيء إلى أبعد مدى على طريقة كتاب الرواية البوليسية، وإثارة أجاثا كريستي، لكنه لا يكتفي بهذه الإثارة وهذا التشويق! إنه يطوف بك في رحاب الأسئلة الصعبة؛ الأسئلة التي ليس لها نموذج إجابة، فكل منا يمكن أن يجيب بطريقة مختلفة تماما عن غيره!
فإذا كانت قضية العدالة "العمياء" وسيادة القانون وتطبيقه، والبحث عن الحقيقة "أية حقيقة نعني؟!" هي شغله الشاغل ومدار بحثه وكتابته، فإنه أيضًا يطرح أسئلة حول دور "الصدفة" في حياة الإنسان والعبث والعدم والمصير! هنا بالضبط تكمن حداثة الرجل المختلفة والفريدة عن غيره من كتاب الرواية والقصة والمسرح في أوروبا كلها، فضلا على إعادة تأمله وتقديره ومعالجته لدور الصدفة في الكتابة الأدبية!
(2)
مع كل عمل جديد تقرأه للكاتب السويسري الكبير فريدريش دورنمات (1921-1990) تجده يثير التأمل والدهشة، ويجمع بين متعة الفكر والفن.
أبرع من لعب بالصدفة ووظفها في نصوصه جميعا كأبرع وأبدع ما يكون؛ طارحا سؤاله المتجدد:
الصدفة هل هي محض "صدفة" أم أنها تمثل قانونا بذاتها؟ المفاهيم الكبرى والقيم الأساسية من عدل وخير وجمال إلخ، هل هي معطيات جاهزة ويكفي البحث عنها والعثور عليها؟ أم أنها محض اختلاقات البشر للتخفيف من العبث والوهم وسيادة "الصدفة"؟
لا يعرض دورنمات كل هذه الأسئلة الملغزة وما تحمله وراءها من حيرة وقلق وتوتر وشعور عارم بالتمزق بين الواقع والمثال، وبين الفكرة وتجسداتها، أقول لا يعرضها بخشونة وفظاظة مثلما يحب البعض أو بغموض وإلغاز متعمد مثلما يولع البعض، لكنه يراوح بين بساطة السرد وجمال العبارة وذكاء الحوار، وبين الحبكة الدقيقة المتقنة "وأحيانا المعقدة" دون فذلكة ولا تكلف.. راسما خطا أو مسارا يمكن وصفه بالحداثة المغايرة!
كان دورنمات موهوبا، وكاتبا كبيرا لا أشك في ذلك، وأنا أعتبر أن قراءة دورنمات بترجمة سمير جريس شيء، وقراءته في غير ذلك شيء آخر، مع كل التقدير والتوقير والاحترام لكل جهد سعى إلى نقله وترجمته إلى العربية، لكن جهد سمير جريس تجاوز نقل العبارة بأمانة ويسر إلى الإحساس بوطأة الأسئلة التي يطرحها.
(3)
حينما صدرت الترجمة العربية لأشهر روايات دورنمات بعنوان «القاضي وجلاده» بتوقيع سمير جريس (عن دار الكتب خان)؛ أذهلني كيفية ترويض الكاتب لنوع الرواية البوليسية، وسخريته من النوع نفسه، والانطلاق إلى مناقشة أسئلة أهم عن القانون، وتحقيق العدالة، وعن تعقّد العلاقات البشرية، وصعوبة فهمها أو التنبؤ بها، وعن اللون الرمادي الذي يسود العالم، بعيدًا عن تبسيط الأبيض والأسود في الروايات البوليسية.
ولكن الرواية نفسها مشوقة، وحافلة بالتفاصيل المتقنة، وفيها كل عناصر بناء أيّ رواية بوليسية، حيث الجريمة والتحقيقات، ورحلة جمع الأدلة، وتتبع المشتبه بهم، والعقبات التي تمنع الوصول إلى الجاني، ومفاجأة اكتشاف القاتل الفعلي، بل ومعرفته ومواجهته. كل ذلك موجود في «القاضي وجلاّده»، ومع ذلك فلا تشعر أبدًا بالراحة التي تحققها الروايات البوليسية، بل على العكس، ستشعر حتمًا بالقلق، وستبدأ الأسئلة مع كلمة النهاية، بينما تمنحك الروايات البوليسية كل الإجابات، وتغلق كل الأقواس، فتنام قرير العين، لأن عيون العدالة الساهرة، كشفت الجريمة، واقتصت من الجناة.
التهمت الرواية بكاملها في ليلة واحدة (تقع في 240 صفحة من القطع المتوسط). كانت المرة الثانية التي أقرأ فيها نصا روائيا كاملا لدورنمات؛ "دورنمات" الذي أعرفه هو المسرحي العملاق صاحب الشهرة الوافرة في الثقافة المصرية المعاصرة؛ خاصة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ وواحد ممن حازوا نصيب الأسد في الترجمة والتمثيل على خشبة المسرح المصري؛ تأثيره أيضًا من الضخامة والعمق ما لا يختلف على ذلك اثنان.
لكن هذه الرواية أدب مختلف، وكتابة ليس هناك أسهل من قراءتها بهذا الفضول والشغف، ولكن ما أصعب حياكتها إذا جاز التعبير بهذه الدقة والاقتدار والحرفية والتمكن! إنها تنتمي إلى تلك الفئة من الأعمال التي بفضل براعة كتّابها ورهافة ما تطرحه من أسئلة إنسانية وأخلاقية تبدو كالكائن الحي؛ كتلة من الأعصاب المرهفة والحساسة، تنطق وتصرخ وتؤلم وتؤثر في قارئها لدرجة الرعب!
(4)
في روايته الأخرى البديعة (الوعد) قرر دورنمات أن يعطي درسا لكتاب الرواية البوليسية في هذه الرواية، وفي نفس الوقت بدا وكأنه يرسل تنبيها لتزايد الجرائم الجنسية ضد الأطفال، لكن لست أدري إن كان يفعل ذلك حقا أم إنه يفعل شيئا آخر..
يضع دورنمات القصة في قالب واقعي ونوع الجريمة من الجرائم المنتشرة والتي تتزايد سنة بعد الأخرى. دورنمات يجعل القاتل "غامضا" وكل الرموز التي أفرزتها الأحداث التي تؤدي للقاتل هي رموز غريبة جدا مما يجعل الحكاية مثيرة، يركز دورنمات على رجال الشرطة وكيف يصل الأمر بأحدهم للهوس بالقضية للدرجة التي يدمر حياته وحياة آخرين للوصول لحل القضية والمفارقة إنه لا يصل أبدا!
في هذه الرواية الصغيرة دروس مهمة؛ فالإنسان عليه أن يتوقع ما لا يمكن توقعه؛ وحين نفرز خياراتنا ونعول على أمر ما لا يشترط أن تكون خياراتنا صحيحة، وقد تجند العالم كله لأجل فكرتك لكنها تظل فكرة قد لا تكون قابلة للتصديق أو للتحقق.. الحقيقة هناك تصاعد سريع في نهاية الأحداث الكاتب استطاع أن يجعل القارئ يشعر بذلك التوتر "التوتر" الذي يأتي قبل كشف الحقيقة لكن يبدو أن دورنمات ينتقد التفكير المنطقي الذي يلجأ إليه رجال الشرطة في عمليات التحقيق؛ لأنه ليس بالضرورة يكون الحل خاصة وأن المجرمين لا يلجأون لأي منطق في تنفيذ جرائمهم. تبدو هذه الرواية قريبة من مسرح "العبث"، وقريبة جدا من أعمال "بيكيت"، وكأن غودو كان هنا ولم يأتِ بالطبع.. رواية جميلة فعلا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الروایة
إقرأ أيضاً:
اختتام فعاليات مؤتمر الرواية الأردنية الحادي عشر ” دورة الروائي يحيى القيسي ” في مكتبة جامعة اليرموك
#سواليف
محمد الأصغر محاسنة / اربد
اختتمت مساء أمس الخميس في مكتبة #جامعة_اليرموك أعمال مؤتمر ” #الرواية_الأردنية مطلع القرن الجديد ” دورة الروائي الأردني #يحيى_القيسي في دورته الحادية عشر وبمشاركة كوكبة من النقاد والاكاديميين على مدار يومين .
وأكد مدير ثقافة اربد الدكتور سلطان الزغول أن عقد مثل هذه المؤتمرات التي تنظمها مديرية ثقافة اربد تهدف إلى تعميق النقاش حول واقع الرواية الأردنية واختيار شخصية روائية سنويا لدور الرواية الأردنية المهم على الساحة الثقافية العربية.
وكان ملتقى الرواية الاردنية الحادي عشر قد بدأ أعماله صباح يوم الأربعاء ٥ /١١/ ٢٠٢٥ بحضور كبير ولافت من المهتمين بالشأن الثقافي . وتم خلال فعاليات الختام في اليوم الثاني للمؤتمر جلستين رئسها الشاعر الروائي سمير القضاة بعنوان ” التجريب في الرواية الأردنية بعد عام 2000″ شارك فيها كل من ” الدكتورة سحر جادالله بتقديم ورقة بعنوان” تجليات التجريب في رواية هنا الوردة لأمجد ناصر” وقدم الدكتور ليث الرواجفة ورقة بعنوان ” التجريب في رواية “أرض اليمبوس” للراحل الروائي إلياس فركوح .
الجلسة الرابعة التي ترأسها الناقد فخري صالح حملت عنوان “التحولات في التجربة الروائية “الاتصال والانفصال” شارك بها الدكتور عمر العامري بورقة بعنوان “ملامح التجديد الفني في تجربة جمال ناجي الروائية”. وقدم الدكتور علاء الدين غرايبة ورقة ناقشت تجربة هزاع البراري الروائية, وجاءت بعنوان “ملاحقة المصائر والانكسارات . كما قدم الدكتور هشام مقدادي رؤيته للتحول الروائي في تجربة هاشم غرايبة من الشهبندر إلى البحار. واختتمت نور بني عطا الجلسة بورقة عنوانها “تحولات البنية في التجربة الروائية الأردنية مطلع الألفية الثالثة: قراءة في تجربة إبراهيم نصرالله”. وفي نهاية أعمال المؤتمر شكر مدير ثقافة اربد الدكتور سلطان الزغول المشاركين والحضور ومكتبة جامعة اليرموك بمديرها الدكتور محمد شخاترة، ورابطة الكتاب الأردنيين فرع اربد واللجان التنظيمية والاعلامية على الجهود التي بذلوها خلال فترة المؤتمر.