السيادة الصحية في العالم العربي
تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT
الطب المُعاصر دخل مرحلة جديدة تعيد تشكيل جوهره ذاته بفعل الذكاء الاصطناعي. فالمستقبل الصحي للبشرية يُصاغ اليوم في فضاء جديد، حيث تتحول الخوارزميات والبيانات الضخمة إلى ركائز المعرفة الطبية، ويصبح الجسد الإنساني موضوعًا للتحليل الرقمي. هذه النقلة لا تعني فقط تحسين التشخيص أو تسريع العلاج، بل تمثل انتقالًا من طب يقوم على الخبرة الفردية إلى طب تقوده منظومات معرفية عابرة للحدود.
التحولات العالمية
تشير الدراسات إلى أن حجم سوق الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية عالميًا بلغ نحو 26.5 مليار دولار في 2024، ومن المتوقع أن يقفز إلى أكثر من 187 مليار دولار بحلول 2030. هذه الأرقام تؤكد حقيقة أن الطب يدخل مرحلة جديدة تُدار فيها المعرفة بالبيانات الضخمة والخوارزميات.
هذا التحول يتجاوز البعد الاقتصادي ليكشف عن طبيعته السياسية العميقة. فالمعرفة الطبية لم تعد نتاجًا للمؤسسات الصحية الوطنية أو للكفاءات المهنية وحدها، بل أصبحت خاضعة لهيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى التي تحتكر الخوارزميات وتسيطر على قواعد البيانات. وبذلك، لم يعد القرار الطبي قرارًا محليًا يُتخذ داخل جدران المستشفى، بل أصبح امتدادًا لمنظومات عابرة للقارات تتحكم في تدفق المعلومات، وتعيد رسم موازين القوة بين المركز والأطراف. هذه المعطيات تنوه إلى أن الذكاء الاصطناعي في القطاعي الطبي أصبح أداة لإعادة هندسة موازين القوة، إما باتجاه تكريس تبعية جديدة عبر تحكم الخارج بالمعرفة والبيانات، أو بتحويله إلى مشروع سيادي يرسّخ المعرفة الصحية بوصفها ركنًا من أركان الأمن القومي ومستقبل الدولة.
العالم العربي وفرصة تجاوز العجز
في العالم العربي، حيث تصف التقارير الدولية الأنظمة الصحية بأنها مثقلة بنقص الكوادر وضيق الموارد، يطلّ الذكاء الاصطناعي كإمكانية استثنائية لتجاوز إرثٍ طويل من الاختناقات الهيكلية. ففي الأرياف والمناطق البعيدة عن مراكز العمران، يمكن للتشخيص عن بُعد أن يعوّض غياب الطبيب، وتتيح خوارزميات تحليل الصور الطبية رصد الأورام والأمراض المزمنة في مراحلها المبكرة، بعدما كان اكتشافها متأخرًا يضاعف الكلفة ويضعف فرص النجاة.
أما في مجال الطب الدقيق، فإن تحليل الجينوم يتيح للمرة الأولى تصميم علاجات تستجيب للبنية الوراثية الخاصة بكل فرد، بما يعنيه ذلك من تحسين فعالية العلاج وخفض كلفته على المدى الطويل. هذا المسار الذي تتسابق فيه المراكز البحثية العالمية يمثل تحوّل في بنية الممارسة الطبية ذاتها، حيث ينتقل الطب من نماذج علاج جماعية إلى مقاربات فردية دقيقة. غير أن هذه الإمكانات، إذا بقيت مستوردة ومفصولة عن استراتيجيات وطنية قادرة على توطين المعرفة وإنتاجها، فإنها ستعيد إنتاج دائرة التبعية ذاتها التي كبّلت المنطقة لعقود. المطلوب هو أن تتحول هذه التقنيات إلى مشروع سيادي، يجعل من المعرفة الطبية جزءًا من رأس المال العلمي للدولة، لا مجرد أداة مستعارة من الخارج.
الأرقام الإقليمية: بين الطموح والتبعية
الأرقام المعلنة حول سوق الذكاء الاصطناعي الصحي في المنطقة – من ارتفاعه من 435 مليون دولار عام 2024 إلى أكثر من 8.4 مليارات دولار بحلول 2033 - لا تمثل مجرد نمو استثماري، بل تكشف إيقاعًا متسارعًا لانخراط المنطقة في سباق عالمي يتجاوز قدراتها الإنتاجية الذاتية. كما أن النمو الذي قد يبدو واعدًا في مظهره يخفي في جوهره ضعفًا هيكليًا في البنية المعرفية المحلية، حيث إن معظم الخوارزميات والأدوات الطبية المستخدمة لا تزال تُستورد جاهزة من الخارج.
ولا تكمن المعضلة في الاستيراد ذاته، فهو جزء طبيعي من حركة الاقتصاد العالمي، بل في غياب القدرة على إعادة تكييف هذه التقنيات وتطويرها داخل بيئات بحثية محلية. فعندما تصبح الأنظمة الصحية مرتهنة لأدوات خارجية لا تتحكم في تصميمها ولا في مسارات تطويرها، تتحول السيادة الصحية إلى ورقة ضغط بيد الشركات الدولية، لتأخذ التبعية شكلًا جديدًا أكثر عمقًا وخفاءً.
التحديات الهيكلية
تواجه المنطقة العربية ثلاث عقبات بنيوية تعيق اندماجها الفاعل في الثورة الطبية الرقمية. أولها هشاشة البنية التحتية الرقمية، حيث لا تزال شبكات الإنترنت عالية السرعة غير متاحة على نحو متكافئ، كما وتفتقر المستشفيات في كثير من الدول إلى أنظمة معلوماتية قادرة على إدارة البيانات الضخمة بكفاءة.
ثانيها الفراغ التشريعي الذي يفتقد إلى قوانين واضحة تضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في الطب، وتوازن بين حماية المريض وتشجيع الابتكار، وهو فراغ يفتح المجال أمام الشركات العابرة للقوميات لتفرض أجنداتها بعيدًا عن أي مساءلة محلية.
أما العقبة الثالثة فهي ضعف الكفاءات المحلية القادرة على استيعاب هذه التحولات وتطويرها، وليُبقي المنطقة في موقع المتلقّي للتكنولوجيا، وسوق لتقنيات الآخرين بدل أن تكون ساحة ابتكار وإنتاج.
التوصيات
التعامل مع التحولات البنيوية في القطاع الطبي لا ينبغي أن يُختزل في تحسين إدارة القطاع الصحي، بل يستلزم رؤية تتجاوز حدود الخدمات الطبية إلى مشروع وطني يعيد وصل الدولة بالتكنولوجيا كقوة دافعة للتنمية وترسيخ الأمن الوطني، وبإنتاج اقتصاد رقمي قائم على المعرفة.
أولًا، على الدول العربية أن تصوغ استراتيجيات وطنية للصحة الرقمية، لا تقتصر على إدخال أدوات ذكية إلى المستشفيات، بل تمتد إلى بناء منظومات متكاملة تربط بين الصحة والتعليم والبحث العلمي والصناعة. هذه الاستراتيجيات يجب أن تكون طويلة المدى، تتجاوز الاعتبارات المالية العاجلة لتضع الصحة الرقمية كجزء من البنية التحتية السيادية.
ثانيًا، هناك حاجة إلى تشريعات متقدمة تنظم الذكاء الاصطناعي في الطب. التشريع هنا ليس إجراءً قانونيًا بقدر ما هو إطار يحدد حدود السيادة. يجب أن تُصاغ قوانين لحماية البيانات الصحية بوصفها ثروة وطنية، وأن تُحدد بوضوح المسؤولية القانونية للطبيب والمؤسسة والمطور، وأن تُلزم الشركات العالمية بالشفافية عند استخدام الخوارزميات في تشخيص وعلاج المواطنين.
ثالثًا، الاستثمار في رأس المال البشري ضرورة لا تقبل التأجيل. يجب أن تتحول الجامعات إلى منصات لإنتاج المعرفة في الذكاء الاصطناعي الطبي، وأن يُدمج هذا المجال في مناهج الطب والهندسة، وأن تُنشأ برامج تدريب مستمرة تتيح للأطباء التفاعل مع التقنيات الجديدة بثقة. المعرفة البشرية هي الحاجز الوحيد الذي يمنع انزلاقنا إلى التبعية الكاملة.
رابعًا، إن إنشاء منصات عربية مشتركة للبيانات الصحية لا يُمثّل مجرد ربط إلكتروني أو تبادل للملفات، بل يُشكّل مشروعًا سياديًا في جوهره، يضع المعرفة الطبية ضمن إطار العمل الجماعي العربي. فهذه المنصات قادرة على تجاوز التجزئة الحالية للجهود البحثية، وتأسيس فضاء علمي مشترك يسمح بالتبادل المعرفي وصياغة خوارزميات تنطلق من الواقع السكاني والبيئي للمنطقة.
خامسًا، إشراك القطاع الخاص يجب أن يكون من خلال حوافز استراتيجية، تدفعه إلى الاستثمار في الصناعات الصحية الرقمية، لا في الاستيراد فقط. بناء صناعة محلية للأجهزة الطبية الذكية والبرمجيات الصحية يمكن أن يقلل التبعية، ويفتح فرصًا جديدة لاقتصاد المعرفة في المنطقة.
أفق السيادة الصحية الجديدة
إن النظر إلى الذكاء الاصطناعي في الطب كأداة تقنية هو تبسيط خطير، لأنه يحجب أبعاده العميقة بوصفه فضاءً جديدًا لإنتاج المعرفة وتوزيع السلطة. وإذا ما استمر التعامل معه من منظور استهلاكي ضيق، فإن المنطقة ستجد نفسها خلال سنوات أمام تبعية أشد قسوة من تبعيات الماضي، تبعية لا تُقاس بالسلع أو الموارد، بل بالتحكم في الخوارزميات والبيانات التي ستصوغ القرارات الطبية. في المقابل، فإن إدراك الذكاء الاصطناعي كمدخل لإعادة بناء موقعنا في الاقتصاد العالمي للمعرفة يحوّله من تهديد محتمل إلى فرصة حضارية لإعادة رسم علاقة الدول بمستقبلها.
الذكاء الاصطناعي في القطاع الطبي ليس بشأن قطاعي محصور بوزارات الصحة، بل قضية وطنية استراتيجية. الدول التي ستتعامل مع هذه التقنيات باعتبارها وسيلة لخفض التكاليف أو تحسين الخدمات العلاجية، ستبقى أسيرة التبعية، مهما بدا أنها تحقق من وفورات مالية أو سرعة في الخدمات. بينما الدول التي ستتعامل معها كفرصة لإعادة بناء منظوماتها الصحية، من خلال الاستثمار الجاد في البحث والتطوير، وتأسيس قواعد بيانات وطنية، والتعاون الإقليمي في بناء منصات مشتركة، فهي التي ستملك السيادة الصحية بمفهومها الحقيقي.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي الخوارزميات الذکاء الاصطناعی فی السیادة الصحیة المعرفة الطبیة یجب أن
إقرأ أيضاً:
ترامب يقلل من مخاوف فقاعة الذكاء الاصطناعي
أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمعة أنه لا يشعر بالقلق من احتمال وجود فقاعة في الأسواق المالية تحيط بشركات الذكاء الاصطناعي.
وقال رداً على سؤال لوكالة فرانس برس حول هذا الموضوع خلال استقباله رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في البيت الأبيض، "أنا أحب الذكاء الاصطناعي وأعتقد أنه سيكون مفيداً جداً".
وأضاف "نحن متقدمون على الصين ومتقدمون على العالم في مجال الذكاء الاصطناعي"، ما يشير إلى المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية التي تغذي طفرة الاستثمارات في هذا القطاع.
وتأتي تصريحات ترامب في الوقت الذي أظهرت فيه بورصة نيويورك علامات ضعف في الأيام الأخيرة، حيث تفاعلت بحذر مع ارتفاع تقييمات شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي العملاقة.
ويشعر الخبراء بالقلق من ارتفاع بعض القيم السوقية لشركات عملاقة بشكل كبير وسريع، في ظل مخاوف متزايدة بشأن قدرنها على تحمل التكاليف الباهظة لسباق الذكاء الاصطناعي.
وتجلى هذا التوتر الخميس في ظل تصريحات مربكة لشركة "أوبن آيه آي" حول طلب محتمل للحصول على دعم حكومي، قبل أن يتم التراجع عنها لاحقا.