مع تطور الزمن، تبقى صورة «العُمدة» النمطية، متجذِّرِّة في الذاكرة الشعبية، على امتداد الريف المصري، كرمزٍ حيٍّ للسُّلطة، والهَيْبة، والوجاهة الاجتماعية، خصوصًا أن هذا المنصب «قديمًا»، كان ينحصر فقط في بعض العائلات.. يتوارثونه جيلًا بعد جيل.
خلال العقود الماضية، لم تتوانَ السينما والدراما المصرية، عن تناول شخصية «العمدة»، في عشرات الأعمال، بـ«الجلابية والعباية»، وإن كان الراحلان «صلاح منصور» في فيلم «الزوجة الثانية»، و«صلاح السعدني» في مسلسل «ليالي الحلمية»، أبرز الفنانين الذين قدموا تلك الشخصية.
الآن، تطور شكل «العمودية» التقليدية، بشكل لافت، ولم تعد ـ كما في السابق ـ رمزية الدلالة، من خلال ما تابعناه مؤخرًا من أحداث مشوِّقَة، في مسلسل «ليالي نيويورك»، مع «جناب العمدة» الشاب «زُهران محمود ممداني»!
إنه نموذج عصريٌّ لـ«العمودية»، حيث يمتلك القُدرة على مواجهة المشكلات المعقدة، والذكاء الاجتماعي في بناء العلاقات مع الناس، كما يختلف عن نظرائه من «العُمَد» التقليديين، بأسلوبه الفريد في استخدام التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة.
«جناب العمدة» الجديد لـ«نييويورك»، ليس فقط حاكمًا لأغنى وأهم مدينة أمريكية، بل أصبح رمزًا ناضجًا للتعددية الثقافية، في وقتٍ يُعاني فيه العالم، والولايات المتحدة خصوصًا، من تصاعد موجات العنصرية ضد المهاجرين.
نتصور أن فوز «العمدة زُهران»، لم يعد مجرد مسألة تخص نيويورك وحدها، أو حتى عموم الولايات المتحدة، إذ أصبح رمزًا للفُرص المُتاحة ـ في عالمٍ تتزايد فيه أبشع أنواع العنصرية والتمييز ـ خصوصًا أنه لا يمتلك «وراثة العمودية»، التي كان عليها سَلَفه ومنافسه الأبرز «أندرو كومو».
إذن، استطاع «عمدة نيويورك» الفوز في مدينة تضم أكبر جالية لليهود في العالم، خارج «إسرائيل»، والتغلب على أباطرة المال والأعمال، وحملات التشويه الممنهجة، التي يمولها «اللوبي الصهيوني»، بعد أن حظيَ بدعم واسع من «المُهَمَّشين» الذين يتوقون للعدالة الاجتماعية وتخفيف الفجوة الطبقية.
إن المتابع ـ على مدار أشهر ـ لأحداث مسلسل «ليالي نيويورك» المثيرة، يلحظ بوضوح، إصرار «العمدة زُهران» على تأكيد ارتباطه العميق بجذوره، ورفضه التبرؤ من أصوله العِرقية والدينية، رغم الضغوط الهائلة التي مارسها «دونالد ترامب» و«اللوبي الصهيوني»، بالمال والإعلام.
لقد اختار «زُهران ممداني» أن يُقَدِّم نفسه كنموذج عصري للمواطَنَة، متعددة الأبعاد، التي يمكن فيها أن تكون الهوية الثقافية والدينية جزءًا من قوة المجتمع وليست عبئًا، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في محيطه، من دون التخلي أو التبرؤ من هويته الأصلية.
أخيرًا.. يبقى فوز «العُمدة زُهران ممداني» درسًا مهمًا للتحولات الديموقراطية والمنافسة الحرة، وانتصارٌ للهوية والجذور، والقدرة على تحقيق الحلم، كما يوجه رسالة ملهِمَة بأن التنوع قوة، إضافة إلى قدرة الشباب الطموح على إحداث تغيير حقيقي لقلب نظام الحكم السياسي التقليدي.
فصل الخطاب:
يقول «جلال الدين الرومي»: «إذا كنت لا تعرف من أين أتيت، فكيف يمكنك أن تعرف إلى أين تذهب»؟
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: زهران ممداني عمدة نيويورك الجلابية الصعيدي التحول الديمقراطي التداول السلمي للسلطة محمود زاهر العنصرية والتمييز العدالة الاجتماعية التفاوت الطبقي ز هران
إقرأ أيضاً:
فوز شكَّل زلزالًا سياسيًا…!
لفت "زهران ممداني" العمدة المنتخب حديثا لمدينة نيويورك الأنظار في أكثر من جانب، فهو أصغر مَنْ يتولى هذا المنصب منذ عام 1892، إلى جانب أنه مسلم وأول عمدة يولد في أفريقيا. خاض "ممداني" البالغ من العمر34 عاما السباق الانتخابي العام الماضى دون أن يكون معروفا على نطاق واسع، وبإمكانات مادية محدودة، ومن دون أي دعم حزبى مؤسسى الأمر الذى يجعل فوزه على الحاكم السابق " أندرو كومو" ومرشح الحزب الجمهورى " كبرتس سليا" إنجازًا لافتًا. لكم الأهم من ذلك إنه يمثل نوع السياسيين الذين يسعى كثيرون في جناح الحزب الديمقراطي اليساري منذ سنوات إلى رؤيتهم.
إنه الشاب الذي يتمتع بالكاريزما، ويتقن استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بطلاقة تنتمي إلى جيله. كما أن خلفيته العرقية تعكس تنوع القاعدة الشعبية للحزب. لم يتجنب المعارك السياسية وعبر بفخر عن تبنيه المعارك السياسية مثل توفير رعاية الأطفال مجانًا، وتوسيع شبكة النقل العام، وتدخل الدولة في أنظمة السوق الحرة.
أظهر "ممداني" قدرة مركزة على معالجة القضايا الاقتصادية الجوهرية التي تشكل أولوية لدى الناخبين من الطبقة العاملة ممن ابتعد بعضهم مؤخرا عن الحزب الديمقراطى، لكنه في الوقت نفسه لم يتنكر للمبادئ الثقافية لليسار. غير أن منتقديه حذروا من أن مرشحا مثله لا يمكن أن يُنتخب في مساحات واسعة من الولايات المتحدة. فيما سارع الجمهوريون إلى تصويره بوصفه الوجه اليسارى المتطرف للحزب الديمقراطى. ومع ذلك فإن انتصار وهزيمة "كومو" الحاكم السابق للولاية وابن أحد حكامها أيضا أطاح بالمؤسسة الديمقراطية الراسخة التى يرى كثير من أنصار اليسار أنها فقدت الاتصال بواقع الحزب والبلاد.لهذا حظيت حملته بتغطية إعلامية واسعة ربما تفوق ما تستحقه انتخابات بلدية في أكبر مدن الولايات المتحدة. وهذا يعنى أن نجاحاته واخفاقاته بصفته العمدة الجديد ستكون تحت مجهر المتابعة الدقيقة.
سيواجه "ممداني" قيودا يتصدرها حدود سلطاته في تنفيذ السياسات الجديدة. وسيواجه قيودا ومنها ما أعلنته حاكمة نيويورك من أنها تعارض زيادة الضرائب اللازمة لتمويل برنامجه الطموح. وحتى مع توفير التمويل الكافي فلن يتمكن من تنفيذ البرامج بمفرده. وكان قد انتقد بشدة خلال حملته النخبة الاقتصادية ورجال الأعمال الذين يتخذون من المدينة مقرا لهم، وجعلوا من "مانهاتن" عاصمة المال في العالم، لكن من أجل الحكم بفاعلية سيضطر على الأرجح إلى التوصل إلى نوع من التفاهم مع هذه المصالح، وهى عملية بدأها بالفعل في الأسابيع الأخيرة.
وقد أدان "ممداني" سلوك إسرائيل خلال حرب غزة وتعهد باعتقال "نتنياهو" رئيس وزرائها بوصفه مجرم حرب فيما إذا وطئت قدماه مدينة نيويورك، وهو وعد قد يختبر في مرحلة ما من ولايته، وتعد هذه من قبيل المشكلات المؤجلة. أما الآن فعليه أن يبدأ في تعريف نفسه على الساحة العامة قبل أن يقوم خصومه بذلك. الجدير بالذكر أن شريحة واسعة من الأمريكيين لا تعرف عنه الكثير، رغم أن حملته استقطبت اهتماما وطنيا واسعا. ولقد أظهر استطلاع أجرته شبكة "سى بى إس" مؤخرا أن 46% من الأمريكيين لم يتابعوا انتخابات عمدة نيويورك عن قرب على الإطلاق، وهو ما يمثل لـ "ممداني" ولليسار الأمريكى فرصة وتحديا في آن واحد.وسيحاول المحافظون الموالون للرئيس الأمريكى ترامب على تصوير العمدة المنتخب على أنه خطر، وأن سياساته وأولوياته ستقود إلى تدمير أكبر مدن الولايات المتحدة، وتمثل خطرا إذا تبنتها البلاد بأكملها، وتسليط الضوء على أى مؤشر اقتصادي سلبى، أو أى ارتفاع في معدلات الجريمة.