لجريدة عمان:
2025-11-11@17:54:33 GMT

أنا أتذمر إذًا أنا جيد

تاريخ النشر: 11th, November 2025 GMT

الجميع يتذمر، ولكأن شعار المرحلة الراهنة بات التذمر الشامل المتواصل. ولو حصل أن تمكنتَ نظريا من فتح مائة مجموعة تواصل فستجد نسبة كبيرة منها -إن لم يكن كلها -مليئة بتيار زاخر من الاستياء والغضب على أي شيء وكل شيء؛ فما الذي يحدونا جميعا إلى أن ننحى هذا المنحى وننحدر هذا الدرب؟ هل ما يحيط بنا ويشملنا مليء فعلا بكل هذه السلبية المخزية والمقيتة بحيث لا يكون بد للعين إلا أن تعلق في كل ما هو قبيح وسيئ وفاسد ومنحط، ولا يكون للقلب من محيص ألا أن يقع في القلق والولولة والشكاية؟ ثمة ما هو جميل ونبيل في التذمر لا يمكن إنكاره البتة؛ فهو بداية البحث عن مسببات المشكلات والوصول إلى حلول لها، وإحلال التغيير من ثَمّ في الواقع المعاش.

إن رجلا- أو امرأة طبعا في هذا السياق- لا يتذمر ربما يكون فاقدا للاهتمام ببني جلدته ومن يعيش حوله وينتمي إلى ما ينتمي إليه، وفقدان الاهتمام بالشأن العام- ناهيك بالخاص- هو أبعد ما يكون عن دعوى هذا المقال.

بيد أنه من الجميل أيضا أن يتذكر المرء أن هناك أسبابا أخرى للتذمر علينا أن ندركها؛ حتى لا نقع فريسة لما يمكن تسميته تذمرا مذموما. ولا يسعني هنا إلا أن أتذكر موظفا كان يعمل في مكان ما صادفَ أن كنتُ أقابله دوريا، ولم يكن يني يتذمر على كل شيء.

ولأنني كنت أعمل في طبيعة أخرى من الأعمال لا تتقاطع معه كثيرا؛ فقد شدني الفضول -وربما الشفقة عليه- أن أتابع مع من حوله من زملائه ورؤسائه حيثيات هذا التذمر الطافح؛ لأعرف فحسب أن ذلك الموظف من أسوأ الموظفين أداء لأعماله. فتذمره -بالتالي- ما كان إلا بسبب تقصيره في عمله شر تقصير؛ فكأنما حل التذمر محل العمل، وبات من ثمَّ تبريرا للتقصير. حسنًا؛ علينا طبعا ألا ننساق في التعميم المخل؛ فليس كل موظف شبيها بموظفنا هذا؛ فأنْ شدني الفضول لمعرفة منشأ تذمره إنما هو (هذا الشد) بحد ذاته دلالة على أن الإخلال بالعمل ليس ديدن الموظفين الآخرين الذين حصل أن صادفتهم وتقاطعت معهم، بيد أن فعل التذمر - شئنا أم أبينا، والحق يجب أن يقال- قد يكون سببه التقصير في أداء العمل.

ومن الطريف أن التقصير في العمل الخيِّر، أو العمل المناط على الكاهل كما هو حال موظفنا ذاك ليس وحده مما يمكن أن يؤدي إلى التذمر المذموم؛ فالتقصير في العمل السيئ يصيب هو الآخر المرء بذات المصيبة. فثمة من سرق قليلا، فلما أن رأى من سرق أكثر منه بات التذمر والتحسر والشكوى ديدنه ودليله، فلكأن لسان حال المرء لا يجد بدا أن يقول له -حينما يكون في مواجهته-: صحيح أنك لم تسرق الملايين، لكن ذاك ليس لنقاء سريرتك وظهيرتك، وإنما لأنه لم يكن بوسعك سرقتها ليس إلا، ولو كان بإمكانك فعلها لفعلتها.

ومرة أخرى سيأتي من يقول هنا: إن من سرق غير من فكّر في السرقة، ولا تراني أعارض هذا القول أبدا؛ فعمل السارق شر من نيته، وإنما أعارض أن يمر تذمره على الآخرين مرور الكرام، بل أن يجد من يصفق له هذا التذمر المذموم.

ولعل مما يطيب ذكره هنا أن التذمر قد يكون من باب إلقاء المسؤولية على الآخرين: «فلا يجب أن تلوموني أنا، بل لوموا الأوضاع، وما كان لي أن أكون بهذا السوء لو أن الأوضاع كانت أفضل، فإنما أنا ابن هذا الوضع، وكما تكونون يوظّف لكم». ولا يفوتنا أن نلاحظ أن هذا النوع من التذمر لا يختص به الموظفون فحسب، بل يمتد ليشمل رؤساءهم كذلك.

فلو أنه قيض لأحدنا أن يدخل مع مسؤول ويسأله عن حل لمشكلة ما فهناك احتمال وارد جدا أن يباشر المسؤول هو الآخر بالتذمر، وهو بهذا إنما يلقي بالمسؤولية على من فوقه أو من تحته، وهو بعمله هذا يتنصل من المسؤولية عن إيجاد حلول للمشكلة المطروحة للنقاش.

أمّا لو قُيض لنفس هذا الأحد أن يلتقي بمسؤول سابق فقد يلاقي عجبا؛ فلكأن الوضع ساء جدا بعد أن ولّى عهده وتولّى تاليه، ولن يداخله الشك (أي المسؤول السابق) أن المشكلة – ولو بنسبة بسيطة منها- ربما تكون بدأت في عهده، كلا؛ فإنما سببها تاليه وليس أحدا سواه. الجميع مرؤوسين ورؤساء عن حق أو باطل، عن علم أو جهل يوجهون سبابتهم بالتالي إلى مكان آخر غير مكانهم أو شخص آخر عير شخصهم إلى الأعلى والأسفل والسابق واللاحق والجالس والقائم: المهم أن سبب المشكلة بقضها وقضيضها ملقى على عاتق شخص آخر غير المتذمر ذاته، وليكن هذا الآخر أيا كان، حتى لو كان القدر نفسه وطبيعة البشر أنفسهم والزمن ذاته.

مجددا لا ينبغي أن نلوم التذمر كله؛ فبعضه لا شك محمود، إلا أن الحمد هذا أبعد ما يكون عمّن يتذمر لمجرد أن يتذمر من غير أن يكون له في الأمر ناقة ولا جمل؛ فهذا النوع من المتذمرين حينما وجد الآخرين يتذمرون لم يجد بدا إلا أن يندس في الموجة ذاتها خوفا من العزلة الاجتماعية، وخوفا من أن يوصم بانعدام الحساسية أو أن تلقى عليه - لا سمح الله- تهمة المجاملة والممالأة.

وهؤلاء هم من يزخّم حجم التذمر ليصل إلى مداه الواسع، وهم من يجعلونك تظن أن لا شيء جيدا أبدا في هذه الحياة، وأن على المرء أن يبدأ في ندب حظه وانتظار مصيره القاتم القادم لا محالة.

وإن كان هؤلاء يتذمرون ليكونوا مع الجماعة، فلا شك أن آخرين يتذمرون ليهدئوا من القلق العارم الذي ينتابهم؛ ففعل التذمر ذاته قد يكون تنفيسا لما يعتمل في دواخلهم. فلأنه لا يمكنهم أن يقوموا بفعل التغيير، بل لا تساعدهم مهاراتهم ولا مواقعهم في فهم أصول المشكلات ولا في الوصول إلى حلول لها؛ فلا أقل بعدُ من أن ينفّسوا عن أنفسهم بالكلام؛ فعلّ الكلام أن يكون حيلة العاجز.

نعود مجددا للتذكير أن التذمر ليس بلا أهمية، فلا يطلب منك هنا ألا تشتكي وتتذمر، فكما قلنا سالفا: التذمر دليل على أن ثمة مشكلة وأنه ينبغي أن يوجد حل لهذه المشكلة. بيد أن التذمر الشامل الدائم الملقى شرقا وغربا يوقع الجميع في حالة عامة من اليأس والقنوط، ويغشّي رؤية ما هو جميل وخيّر، بل يقلل من الوصول إلى حلول للمشكلات الحياتية العالقة، ويدفع الناس إلى الغضب المدمر الذي لا يبقي ولا يذر.

كما أن هذا التذمر الشامل يخفّض من أهميته ذاتها، فلا يعود ثمة ما يمكن أن يقال إزاءه إلا أنه حالة عامة لا يمكن أن فهمها إلا بأنها عدوى أصابت الجميع؛ وبالتالي لا يمكن أن تؤدي في حد ذاتها إلى حلول حقيقية.

لكنْ في النهاية ينبغي القول أيضا: إنه من حق الجميع أن يتذمر، وإن كان التذمر هذا سيجعلك أسعد بطريقة ما أو يخفّف من قلقك ومشكلاتك الداخلية أو يجعلك أقل عرضة للعزلة الاجتماعية فلا شك أنه متروك لتقديرك أن تستمر في دربه إلى آخره، وتنغمس في لجته حتى قاعها. أحذر فحسب أن يجرك هذا التذمر لتضخيم المشكلات أو اختلاقها أو البعد بنظرك عما هو مهم وحقيقي، وفي كل الأحوال من الجيد أن يكون لك عدة من المنطق البسيط في نقد سيل التذمر الذي يلقيه عليك من أمامك؛ فلا داعي لتصديق كل ما يقوله.

ويطيب لي في النهاية أن أذكر حكاية ذكرها حكيم هندي معاصر في أحد مرئياته الفكاهية، وإنما ذات الدلالة؛ إذ قال: إن البائعين في الأكشاك على الرصيف-في الهند طبعا- وهم يصنعون لك الشاي يتذمرون من الحكومة والناس والعالم، ومع أنهم يصنعون الشاي لمئات الناس يوميا وعلى مدى سنوات أزلية، إلا أنهم لا يتوقفون قليلا ليحكموا صنعتهم الخاصة، ويعدّوا لزبائنهم شايا جيدا! لقد حجبهم تذمرهم من رؤية ما يجب فعله في نطاق صلاحيتهم، فازدادوا تعسا وبخسا.

ولكن علينا -مع هذا- أن نلفت انتباه هذا الحكيم المتحذلق أنهم بتذمرهم لعلّهم ينفسون عن أنفسهم قلقها وضيقها، ولكن لعله (الحكيم) إن لم يصب الحق كله قد أصاب بعضه!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى حلول لا یمکن ما یکون یمکن أن إلا أن

إقرأ أيضاً:

رونالدو: أصبحت واحدًا من الشعب السعودي.. ومونديال 2026 قد يكون الأخير لي

تحدث نجم كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو عن مشواه في دوري روشن السعودي للمحترفين وكواليس انتقاله إلى المملكة العربية، مشيرًا إلى أن السنوات الماضية أثبتت صحة قراره بعد التطور الذي شهده الدوري السعودي الفترة الماضية.

وقال رونالدو خلال مقابلة مصوّرة في الرياض:"انتقلت إلى السعودية لأنني آمنت بالمشروع، فالشعب والدوري السعودي يمتلكان إمكانات هائلة في الحاضر والمستقبل، وقد تطور الدوري كثيراً خلال السنوات الأخيرة، وأنا فخور بأن أكون جزءاً من هذا التحول".

وكشف رونالدو أن نهائيات كأس العالم 2026 ستكون الأخيرة له بنسبة كبيرة، منهيًا بذلك حقبته التاريخية، بعدما توج بلقب أفضل لاعب في العالم 5 مرات.

وسيخوض مهاجم النصر السعودي الذي شرح أنه يتقدّم بالعمر ويرغب بالاعتزال قريبا، المونديال الذي تستضيف الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك نسخته الثالثة والعشرين، للمرة السادسة في مسيرته.

كريستيانو رونالدوالدوري السعوديكأس العالمقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • رونالدو: أصبحت واحدًا من الشعب السعودي.. ومونديال 2026 قد يكون الأخير لي
  • الأنبا بافلي: النائب صوت المواطن وأتمنى أن يكون مجلس النواب الجديد في خدمة الناس
  • شهر على "اتفاق غزة".. ما أُنجز وما يجب أن يكون
  • شهر على "اتفاق غزة".. مستقبل ما تم إنجازه وما يجب أن يكون
  • الشيخ رزق: لن يكون لبنان بلد التطبيع والسلم مع العدو
  • عید الشهید
  • الالتهاب قد يكون سببا في سرطان الرئة
  • هل يكون بدلاء الأهلي والزمالك كلمة السر في نهائي كأس السوبر؟
  • إسرائيل: لن يكون هناك قوات تركية ضمن قوة الاستقرار الدولية في غزة