التعددية القطبية: كيف تديرها الولايات المتحدة؟
تاريخ النشر: 11th, November 2025 GMT
ذهب إلى غير رجعة عهد الهيمنة الأمريكية أحادي القطبية؛ فقد غيرت الاتجاهات الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية طويلة الأمد ملامح السياسة العالمية، وباتت الولايات المتحدة تحتاج اليوم إلى استراتيجية لإدارة هذا العالم الناشئ بما يحافظ على بعض مزاياها الأحادية القطبية على الأقل دون أن ترهق قدرتها. غير أن الاستراتيجية التي ينبغي لواشنطن اتباعها تعتمد إلى حد كبير على تصورها لطبيعة العالم الذي يلوح في الأفق.
تعاملت إدارة بايدن مع عالم ثنائي القطبية تخوض فيه الولايات المتحدة والصين منافسة حادة. ونتيجة ذلك؛ سعت إلى بناء استراتيجية تقوم على حرب باردة جديدة، وعملت على إقامة تحالفات أمريكية منفصلة وإعادة تقديم خصوم واشنطن على أنهم «محور استبدادي». لكن لم يتشكل محور ديمقراطي متماسك، كما تمردت الدول على سياسة ديمقراطية موحدة؛ فالهند -على سبيل المثال- لا تزال عضوًا نشطًا في مجموعة البريكس التي أسستها مع البرازيل وروسيا والصين عام 2009، كما برزت توترات بين الولايات المتحدة وهولندا بشأن تصدير الأخيرة لتكنولوجيا تصنيع الرقائق الحيوية إلى الصين.
يعود ذلك إلى خطأ في فهم إدارة بايدن لطبيعة الثنائية القطبية. فمع تزايد الترابط الاقتصادي، وصعود قوى إقليمية ذات قدرات عسكرية، مثل تركيا والهند وكوريا الجنوبية، وانحسار تركز القوة الاقتصادية والتكنولوجية في أيدي الولايات المتحدة والصين؛ يبدو من الأرجح أن يتشكل عالم متعدد الأقطاب مجزأ ومعقد بعد مرحلة الأحادية القطبية.
وعلى خلاف الشائع؛ فإن التعددية القطبية ليست حكمًا بالإعدام على الولايات المتحدة. ففي عصر تتراجع فيه القوة الأمريكية نسبيًا؛ من مصلحة واشنطن السماح لدول أخرى قادرة بتقاسم جزء من أعباء القيادة العالمية. وإذا قبلت الولايات المتحدة هذه الحقيقة فستكون قادرة على تبني استراتيجية أكثر مرونة تتيح لها العمل بكفاءة وفعالية أكبر في عالم سريع التغير.
يبدو أن إدارة ترامب أكثر تقبلاً لفكرة التعددية القطبية مقارنة بإدارة بايدن. فبدلاً من محاولة فرض ثنائية مصطنعة بين «نحن» و«هم» اتخذت خطوات مبكرة إيجابية نحو تبني استراتيجية أكثر تعددية عندما دفعت حلفاءها في آسيا وأوروبا لتحمل جزء أكبر من أعباء الدفاع، وهو ما يعتبر تحولًا مهمًا عن نهج السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية.
لكن إدارة ترامب لا تزال تضيع فرصة تسخير التعددية القطبية لخدمة المصالح الأمريكية بتدميرها النظام الاقتصادي الدولي، وعزلها الدول الأخرى بأحاديتها العدوانية.
لا يزال الباحثون يختلفون بشدة حول ما إذا كانت لحظة القطب الواحد تفسح المجال لعالم ثنائي القطبية، أو متعدد الأقطاب، أو حتى غير قطبي. ويتلخص الجواب في القوة: ما الدول التي تملكها، وكيف تمارسها، وكيف ينظر الآخرون إليها. غير أن مفهوم القوة شديد الغموض؛ إذ يتكون من مزيج من الثروة، والقدرة العسكرية، وحجم السكان، وموارد الطبيعة، والإرادة السياسية. وتؤدي التعريفات المختلفة للقوة إلى استخلاص نتائج متباينة تمامًا بشأن شكل النظام العالمي الناشئ.
فإذا اقتصرت القوة -على سبيل المثال- على القدرات العسكرية وحدها يصبح تصور نظام ثنائي القطبية معقولاً يضع الصين والولايات المتحدة في مواجهة مباشرة. أما إذا أضفنا المؤشرات الاقتصادية فتدخل شرق آسيا وأوروبا ودول الخليج إلى المشهد بما يوحي بعالم متعدد الأقطاب بوضوح. وإذا ثبت أن الصين تُضخم بياناتها الاقتصادية، وأنها أقرب إلى الفوضى الداخلية مما توحي به استعراضاتها العسكرية؛ فإن احتمال عودة الأحادية القطبية يظل قائمًا.
إذا جاء تعريف القوة بشكل أوسع يبدو من المنطقي أن العالم يتجه نحو ما يسميه الباحثون «تعددية الأقطاب غير المتوازنة». ففي مثل هذا النظام توجد بضع قوى عظمى ـ الولايات المتحدة والصين في هذه الحالة ـ وعدد أكبر من القوى من الصف الثاني، مثل أستراليا وفرنسا وألمانيا والهند واليابان وروسيا وغيرها. وهذه القوى أضعف من القوى العظمى، لكنها قادرة مع ذلك على التأثير في الديناميكيات الإقليمية.
بدأت قوى الصف الثاني بالفعل في التنافس على مواقعها داخل هذا النظام الناشئ. فعلى سبيل المثال؛ فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القادة الأوروبيين عام 2023 عندما أعلن ضرورة سعي أوروبا لتكون «قطبًا ثالثًا» في النظام العالمي الجديد. وفي الوقت نفسه؛ صرح فرناندو حداد وزير المالية البرازيلي بأن ساو باولو لن تنحاز إلى بكين أو واشنطن؛ لأنها «أكبر من أن تختار شركاء».
توصلت إدارة بايدن إلى أن عددًا كبيرًا من الدول لم يعد مستعدًا لتبني هذه الرؤية المتشائمة للعالم. فأقرب حلفاء واشنطن يرحبون بالتجارة والاستثمار مع الصين حتى إن كانوا لا يشاركونها نموذج الحكم أو الأيديولوجيا. ودول مثل الهند حريصة على شراء الأسلحة الأمريكية والانخراط في تعاون عسكري، لكنها في الوقت نفسه تشارك في التدريبات مع الصين، وتشتري الهيدروكربونات من روسيا. وبعبارة أخرى؛ تتصرف القوى المتوسطة على نحو يدل على أنها تتوقع عالمًا متعدد الأقطاب في المستقبل القريب.
وراء هذا الجدل الغامض حول القطبية والنظام العالمي الجديد يكمن افتراض غالبًا ما يكون غير معلن، لكنه بالغ الخطورة: إن عالمًا متعدد الأقطاب سيكون أسوأ للولايات المتحدة من عالم ثنائي القطب. الاعتقاد السائد هو أن التعددية القطبية ستزيد من احتمال عدم الاستقرار في العالم، وترهق التحالفات، وتعرض واشنطن للخطر.
لكن الانحياز للأحداث الحديثة يلعب دورًا هنا. ولأن الحرب الباردة انتهت بسلام بينما لم تنته فترة ما بين الحربين اللتين سبقتا؛ غالبًا ما يُربط النظام ثنائي القطب بالاستقرار في حين يُربط النظام متعدد الأقطاب بالخطر. وفكرة أن الولايات المتحدة ستكون أفضل حالًا في عالم ثنائي القطب بدلًا من عالم متعدد الأقطاب هي في أحسن الأحوال مجرد نظرية.
عمليًا؛ لكل من النظامين العالميين مزايا وعيوب. فالنظام متعدد الأقطاب -على سبيل المثال- قد يزيد من مخاطر معينة مثل احتمال نشوب صراعات محدودة بين الدول الصغيرة بينما قد يزيد النظام ثنائي القطب من مخاطر أخرى بما في ذلك سباقات التسلح التي قد تتصاعد إلى حرب بين القوى العظمى. وبالمثل؛ يقدم كلا النظامين مزايا. ففي ظل أحادية أو ثنائية القطب قد تتمكن القوة العظمى من منع الصراعات عبر زيادة نفوذها على الدول التابعة، أما في ظل التعددية القطبية فيصبح الانتفاع المجاني وإلقاء المسؤولية على الآخرين في التزامات الأمن الجماعي أكثر صعوبة ما يقلل تكاليف الدفاع ومخاطر الردع المتقدم للقوة العظمى.
هذا النقاش ليس أكاديميًا بحتًا؛ فالاستقطاب وصف لتوزيع القوة في النظام الدولي، وليس أمرًا تختاره الدول. ومع ذلك؛ يمكن للإدارات أن تميل في استراتيجيتها إلى الجوانب ثنائية أو متعددة الأقطاب للنظام. حاولت إدارة بايدن التأكيد على ثنائية القطبية عبر تعزيز المنافسة الأمريكية الصينية، والترويج لاستراتيجيات «على نطاق الحلفاء»، وإنشاء تحالف غربي جديد ضد «محور الاضطرابات». حددت هذه الاستراتيجيات كتلة موحدة من المعارضين في الصين وإيران وروسيا ودول أخرى، ثم سعت لتشكيل تحالف «عالم حر» جديد لمواجهتهم. لكن هذا النهج فشل؛ لأنه لم يتطابق مع الواقع؛ فالدول الأخرى لا تزال متشككة في عالم منقسم وترفض الانحياز لأي طرف.
بدلًا من تقسيم العالم إلى نصفين بشكل مصطنع؛ ينبغي للولايات المتحدة تبني التعددية القطبية وصياغة استراتيجيتها بناءً عليها. ستكون الفوائد كبيرة؛ فمن خلال الاستفادة من خصائص التعددية القطبية في النظام الدولي -مثل التجارة المفتوحة والتعاون- يمكن لواشنطن الاحتفاظ بالعديد من المزايا الاقتصادية والسياسية التي استمتعت بها على مدى السبعين عامًا الماضية.
للتنافس بنجاح في عالم متعدد الأقطاب ستحتاج الولايات المتحدة إلى تعديل استراتيجيتها. وقد اتخذت إدارة ترامب بعض الخطوات الأولية في هذا الصدد. شجعت على سبيل المثال حلفاءها -لا سيما في أوروبا- على تقاسم عبء الدفاع الجماعي بشكل أكبر، وتحويل قوتهم الاقتصادية الكامنة إلى قدرات عسكرية أقوى. كما تراجعت الإدارة عن تمويل المزيد من شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا ناقلةً هذه المسؤولية فعليًا إلى الدول الأوروبية. ونتيجة لذلك؛ يمكن لواشنطن تقليص وضعها العسكري العالمي الحالي، وتركيز مواردها على المناطق الأكثر حاجة، مثل المحيطين الهندي والهادئ والفناء الخلفي للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية.
تسعى الإدارة الأمريكية أيضًا إلى الحفاظ على مرونة شراكاتها الثنائية ومتعددة الأطراف. فبدلًا من بناء هياكل تحالفية رسمية ومغلقة كما كان الحال خلال الحرب الباردة، تحتاج الولايات المتحدة إلى إقامة شراكات مرنة ومحددة القضايا مع مجموعة متنوعة من الدول. وقد أبدى الرئيس ترامب استعدادًا لانتقاد حلفائه مؤكدًا على مصالح الولايات المتحدة على حساب القيم المشتركة، كما تعامل مع خصوم مثل إيران وروسيا، في حين أن الإدارات السابقة كانت ربما تتردد في ذلك خوفًا من ردود الفعل السياسية. ورغم أن هذه المحادثات لم تسفر إلا عن نتائج محدودة؛ فإن هذا الانفتاح الدبلوماسي، ورفض النظرة العالمية المتشددة يمثلان المرونة المطلوبة في عالم متعدد الأقطاب.
في عالم متعدد الأقطاب ينبغي لواشنطن الحفاظ على الانفتاح الاقتصادي العالمي من خلال مقاومة أساليب الحكم الاقتصادي القسرية، وتعزيز مرونة الأسواق العالمية وتنوعها. لكن ترامب اعتمد بشكل كبير على الإكراه الاقتصادي والسياسي مستخدمًا التعريفات الجمركية والعقوبات وأشكالًا أخرى من النفوذ الأمريكي لانتزاع تنازلات من الدول الصديقة وغير الصديقة على حد سواء.
سمحت اللحظة الأحادية القطبية بعد الحرب الباردة للولايات المتحدة ببناء ترسانة كبيرة من الأدوات القسرية لتعزيز النفوذ، وأظهر ترامب استعداده لاستخدام هذه الأدوات حتى لأبسط الأسباب. وكما قال مايكل فورمان رئيس مجلس العلاقات الخارجية مؤخرًا في مجلة الشؤون الخارجية: «إذا استمرت واشنطن في مسارها الحالي ـ الذي تحدده الأحادية والمعاملات التجارية ـ فستكون العواقب وخيمة».
تتمثل المشكلة الأخيرة في نهج إدارة ترامب في تدمير أدوات القوة الناعمة الأمريكية عمدًا، والعداء العلني للأطراف التي تشكل شبكة أمان في مواجهة أسوأ عواقب عالم فوضوي. لا شك أن مؤسسات المساعدات والدبلوماسية الأمريكية بحاجة إلى إصلاح، وينطبق الأمر نفسه على الأمم المتحدة وغيرها من المحافل متعددة الأطراف. لكن الولايات المتحدة التي لا تستطيع الانخراط دبلوماسيًا تصبح أقل قدرة وتنافسية. والعالم الذي تنعدم فيه الخدمات الأساسية المنقذة للحياة، مثل الإغاثة من الكوارث والمساعدات الإنسانية هو عالم يعاني فيه الجميع من أوضاع أسوأ.
يبقي هذا النهج المربك الولايات المتحدة في حالة من عدم اليقين؛ فهي غير قادرة جزئيًا على إدارة دفة عالم متعدد الأقطاب، لكنها في الوقت نفسه تخاطر بالعزلة، والأهم من ذلك أنها تقوض النظام الاقتصادي العالمي المفتوح الذي خدم واشنطن لفترة طويلة. وحتى مع اتخاذ إدارة ترامب بعض الخطوات الإيجابية لإعادة التوازن إلى التزاماتها الأمنية؛ فإنها تضعف مكانة الولايات المتحدة الاقتصادية والدبلوماسية. من فرض التعريفات الجمركية والعقوبات القاسية إلى شن ضربات عسكرية عشوائية في إيران وقبالة سواحل فنزويلا، تعاملت الإدارة مع الأصدقاء والأعداء بعدوانية تخدم مصالحها الذاتية مع أن النجاح في إدارة عالم متعدد الأقطاب يتطلب شراكات عالمية قوية ومتينة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عالم متعدد الأقطاب للولایات المتحدة التعددیة القطبیة الولایات المتحدة الأحادیة القطبیة على سبیل المثال إدارة بایدن إدارة ترامب فی عالم عالم ا
إقرأ أيضاً:
روسيا: لم نتلق حتى الآن تفسيرًا من الولايات المتحدة بخصوص التجارب النووية
صرح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، قائلًا إن روسيا لم تتلق ردا من الولايات المتحدة بخصوص التجارب النووية.
وقال بيسكوف للصحفيين، ردا على سؤال حول إمكانية الحصول على تفسير من الولايات المتحدة بشأن التجارب النووية: "حتى الآن لم نتلق أي تفسير من نظرائنا الأمريكيين بشأن هذه المسألة"، بحسب ما ذكرته وكالة سبوتنيك الروسية للأنباء.
وأضاف بيسكوف أن "الولايات المتحدة لم تطلب إجراء محادثة هاتفية بين الرئيسين الروسي والأمريكي، ولكن يمكن ترتيبها بسرعة عند الضرورة".
وأوضح أنه "إذا لزم الأمر، من الممكن تنظيم مثل هذه المحادثات بأسرع وقت ممكن".