حيكون في مولات في فلسطين المحررة؟ ما هو تصور الغرب للسلام وكيف نقاومه؟
تاريخ النشر: 11th, November 2025 GMT
قبل عامٍ ونيف، كان هناك وقف إطلاق نار مؤقت؛ أتاح لحظة سكونٍ لتَخيُّل مستقبل غزة. في نقاش مع صديقةٍ معمارية، أكدت لي أن المعماريين الشباب في غزة يحلمون بمدينة متقدمة، فيها مولات وحدائق وغيرها. ومن منا لا يحلم أن تصبح غزة أكثر المدن تقدما وازدهارا؟ لكن يشوب هذا التخيُّل معضلة جوهرية: لكي تزدهر غزة، لا بد أن تفتح ذراعيها للسوق العالمي والشركات العالمية، ضمن قواعد اللعبة الوحشية: "راكم الأرباح، استغل كل ضعيف، الأسبق أشطر، والطمع فضيلة"، ولا بد أن تقترض المليارات من البنوك الدولية فتقبل بسلطة الدائن على المدين.
قبل عدة أسابيع، أعلن ترامب عن خطته لغزة (احتلال أمريكي لغزة). بقيادة توني بلير، فانعقد لساني؛ هل ما سمعته حقيقي أم كابوس رديء؟ هل أصبحت القيادة الأمريكية مبتذلة كابتذال شركة هوليوود التي عجزت عن اختلاق أفكار جديدة، فعكفت على إعادة تدوير الأفلام القديمة؟ وفي هذا السياق، أعادت السلطة الأمريكية تدوير خطة احتلال العراق، وفي انشغالها في هذا التدوير، غفلت عن تغيير مجرم الحرب الذي أدار العملية السابقة، فعينته مجددا.
توالت التصريحات بعد الإعلان عن خطة ترامب الجهنمية، وتوالت التحليلات: ما الذي تريده أمريكا حقا؟ ما يغيب عن الكثير من التحليلات هو الجانب التاريخي والفهم الاقتصادي. فأغلب تيارات الفكر الفلسطيني ودوائر المجتمع المدني ما تزال تنكر الطابع الاقتصادي الجذري الملازم لأي صراع تحرري، كما يذكرنا جورج حبش ومهدي عامل.
خطة ترامب، التي تُعرض على الفلسطينيين إكراها، هي خطة مبتذلة تاريخيا. إن الرؤية الصهيونية-الأمريكية للمستقبل الفلسطيني "المقبول" هي الإخضاع بالدولار، بالتعاون مع النخب الاقتصادية الفلسطينية
إن خطة ترامب، التي تُعرض على الفلسطينيين إكراها، هي خطة مبتذلة تاريخيا. إن الرؤية الصهيونية-الأمريكية للمستقبل الفلسطيني "المقبول" هي الإخضاع بالدولار، بالتعاون مع النخب الاقتصادية الفلسطينية. إنه مقترح لبيع غزة، واستبدال الإكراه بـطائرات إف35 بالإكراه بالدَّين. إنه تحول تدريجي من الإكراه المادي إلى الإكراه الاقتصادي. مستقبل خانق حذر منه كل من درس تاريخ ما بعد الاستعمار. وفي هذا السياق، مشكلتي مع القانون الدولي تبدأ بتهميشه لمفهوم الإكراه، وذلك لأن إدراك ألاعيب الإكراه في العلاقات الدولية من شأنه أن يزعزع مصالح السوق الرأسمالي الذي يقدس تراكم الأرباح والاستغلال. فنحن في عصر طغت فيه الهيمنة والقهر، فحكم النذل أصبح قاعدة غير مكتوبة في ديانة السوق العالمي الذي يطال سوطه أي معترض (كما حصل في ليبيا، بوركينا فاسو، إيران..)، فها نحن أمام خطة ستطبق رغما عن أنف الفلسطينيين المهددين بـالعودة إلى الإبادة على وتيرة عالية.
إن إعادة الإعمار تعد من أخطر مراحل النزاع المسلح، وذلك لأنها الفصل الأول من القصة القادمة، وتتكاثر فيها فرص إعادة تشكيل الصراع. تتهافت الشركات على مشاريع إعادة الإعمار، فهي فرصة لتفصيل القواعد على هوى الشركات، فيقترح ترامب لجنة إدارية من رجال الأعمال، وتمويلا خليجيا وعالميا، مع قوات مسلحة تدار بموافقة صهيونية-أمريكية، ومناهج داعية لـ"السلام" بمنأى عن العدل. إن حلم ترامب هو إخضاع الشعب الفلسطيني بقوة الدولار، وهل ننسى أنه كان صاحب خطة سابقة تُعْرَضُ على الفلسطينيين: "مليارات الدولارات عشان نعيش في شتات"؟
كيف لنا أن نتخيل المستقبل على هذا الحال؟ ستنقلنا هذه الخطة من الإبادة على وتيرة عالية إلى إبادة على وتيرة منخفضة. وتساهم الخيارات المطروحة من قبل رأس المال في تمزيق نسيج المقاومة، فيتكاثر قائلو: "اسكت عن هذا الكلام واقبل قسمتك ونصيبك". ستُبنى منازل بعيدا عن البحر بأسعار متاحة لكنها مرهقة، وستكون متاحة لفترة صغيرة ومحدودة. من يحصل على هذه المنازل سيغرق في ديون تخضعه لأي شروط عمل تُعْرَضُ عليه، ستجوب في شوارع غزة مليشيات مدججة بأحدث تكنولوجيا المراقبة، فيحافظ العدو على حقل تجارب لتكنولوجيا الترهيب والتحكم. وبالتالي، أي محاولة للاعتراض أو الهروب من هذه السوداوية سيكون مصيرها الحتمي إما القتل أو السجن.
لكي نستطيع تقييم هذا الحل، لا بد أن نتخيل مستقبل العدل الذي نحلم فيه، ما هي تفاصيله وسبله. ففي طريق التحرير، لا بد أن نحافظ على بوصلة موحدة حول ماهية التحرير. عند دراسة تاريخ الاستعمار وتاريخ النضال الفلسطيني، نجد أن التحرير لا بد أن يرتكز على تفكيك النظام السياسي والقانوني والاقتصادي لما يعرف بـدولتي فلسطين وإسرائيل. يقتضي العدل الذي ضحّى من أجله الملايين أن يقترن التحرير بتغييرات عديدة، منها:
1- قانون هجرة يضمن حق العودة، ويُلغي قانون العودة اليهودي.
2- دفع تعويضات للشعب الفلسطيني، ورفض أي محاولة لاستبدال التعويضات بالديون أو التبرعات.
3- إعادة توزيع الأراضي بعدل.
4- العمل على تقوية العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة لدرء الاعتمادية على الدول الغربية.
5- محاسبة كافة مرتكبي الجرائم، بم فيهم الفلسطينيين المتعاونين مع الاستعمار.. إلخ.
بالرغم من اتفاق هذا التخيل المستقبلي مع أسس الحق والعدل، إلا أنه تخيل شبه مستحيل دون حصول تغيير جذري في البنية الجيوسياسية العالمية. فطالما أمريكا واقفة على رجليها، فسيكون مصير كل محاولات التحرير التشويه أو شلالات الدم. لكن ولحسن حظنا، لا بد لليل أن ينجلي. عيب المستعمر ورجل الأعمال هو جهلهما بالروح البشرية، ودوافع المقاومة العالمية. فهم كذبوا كذبة أننا إرهابيين لا نقاتل إلا لغاية القتل، وصدقوها. إن الإبادة أيقظت الملايين حول العالم، وأصبح الحق واضحا كالبدر. لن ينسى الطفل في غزة جوعه، ولا من قُتِل من عائلته، مهما حاول المستعمر، ولن تنسى أجساد المقاومين والمتظاهرين آلام التنكيل والضرب. هناك حكمة تاريخية لا بد لنا من أن نحملها على أكتافنا بفخر، فمن قلب البطش تتوحد الأصوات وتتضح البصيرة. وفلسطين الآن أصبحت رمزا للعدل على المستوى الدولي، وينظر العالم نحو الصوت الفلسطيني كنواة في هذا الصراع الأكبر.
قبل عدة سنوات، عثرت على أعمال المفكر علي قادري الذي يؤكد قانونا اقتصاديا واضحا؛ يقتضي توسع السوق العالمي استدامة الحروب، وفي ظل ضعف القوة الإنتاجية للدول الغربية، اتجهت هذه الدول إلى التعسكر. لا سبيل للتحرير في ظل حكم السوق العالمي والهيمنة الصهيونية-الأمريكية، فإن كان الأمر كذلك، فإن فلسطين في مقدمة صراع عالمي أكبر من مساحتها الجغرافية وتاريخها.
التحرير الحقيقي قد يرتبط بمراجعة جذرية للنموذج الاقتصادي السائد، ليس بالضرورة بشكل يفرض انعدام المساواة أو الخدمات الأساسية، ولكن بشكل يُسَلِّمُ بحتمية إعادة تشكيل البنية الاقتصادية على أسس مستدامة وعادلة
من هذا المنظور، يبدو الصراع من أجل الحق في السودان والكونغو أقرب إلى الشارع الفلسطيني من أي وقت مضى. فهذه الحروب هي نتاج صراع حول الموارد والمصالح الاقتصادية التي تقودها الشركات العالمية، مما يعني أن التحرير الحقيقي قد يرتبط بمراجعة جذرية للنموذج الاقتصادي السائد، ليس بالضرورة بشكل يفرض انعدام المساواة أو الخدمات الأساسية، ولكن بشكل يُسَلِّمُ بحتمية إعادة تشكيل البنية الاقتصادية على أسس مستدامة وعادلة.
وفي هذا المقام، يغدو الفكر الليبرالي الذي يفترض انعزال السؤال الاقتصادي عن السؤال السياسي هو فكر تشويهي، ويغدو التفسير الديني الذي يمتنع عن مساءلة أسس الإكراه واللامساواة الاقتصادية بعيدا عن مواطن الروح وعدالة التحرير. الحلم بالتحرير هو حلم كبير، ومن يحلم به عليه أن يتوسع في مفهومه للعدل بما يتوافق مع رسالة العدل، وأن يستنبط العلم من تاريخ حركات التحرير، والفكر الاقتصادي التحرري. فكما أثبت الدهر، حلفاء فلسطين ليسوا من اشتركوا مع الفلسطينيين في اللغة أو الدين، لكن من ناضلوا ضد الظلم والاستبداد باسم الحق أينما كانوا. ولو أن التحرير يرتبط ارتباطا وثيقا بقتل معاهدة سايكس بيكو والعمل نحو وحدة جغرافية تكدر على الطبقات المستفردة بالحكم، ولا أرى فعلا أكثر قدسية ومروءة من مقاومة الهيمنة السياسية والاقتصادية.
لقد دخل الاتحاد الأمريكي الصهيوني مرحلة الشيخوخة، وأصبح المستقبل يحمل احتماليات أكبر لكل من العدل والعنف. لا يوجد طريق واحد، لكن الوجهة واحدة إن حلمنا بها بأسلوب يضم جراج الشعوب المقهورة الى جراحنا، واتحاد صوتنا قد يساعد في كسر شوكة الهيمنة والقهر. بالتالي، لن يكون في فلسطين المحررة مولات في الأمد القريب، بل لا بد من العودة إلى الوراء على أسس تشاركية وعادلة قبل التوسع. فلسطين المحررة تتطلب بيوتا من الطين وفلاحين والكثير من الدجاج، تتطلب ألواحا شمسية، ومطابخ تشاركية تُغني الفلسطينيين عن الاتكالية وتسلب من العدو سبيل الإكراه بالدولار، وإن تفضيل المولات على السيادة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في أحلامنا سيشوه وجهتنا ويرمي بظلال الغمام في طريقنا. هي بالرغم من كل شيء أحلام، ولكن كتب علينا أن نستقي الأمل من جدول لا نرى نبعه، وأن نمشي على طريق التحرير مهما كان شائكا وبعيد المنال. نحن أمام طريقين: إما أن نتوسع في أحلامنا أو نبيع أحلام أبنائنا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة الفلسطينيين ترامب خطة الإعمار فلسطين غزة إعمار خطة ترامب مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السوق العالمی لا بد أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
حكومة الاحتلال: ننسق مع ترامب بشأن المرحلة الثانية من اتفاق شرم الشيخ للسلام
أعلنت المتحدثة باسم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، شوش بيدروسيان، أن «بنيامين نتنياهو» ناقش مع مبعوث الرئيس الأمريكي «جاريد كوشنر» المرحلة الثانية من اتفاق شرم الشيخ للسلام ووقف الحرب على قطاع غزة، حسبما أفادت قناة القاهرة الإخبارية في خبر عاجل منذ قليل.
وأضاف، أن نتنياهو وكوشنر تباحثا حول نزع سلاح حركة حماس، وتشكيل قوة الاستقرار الدولية، وكيفية ضمان عدم مشاركة حماس في إدارة القطاع.
وتابعت، شوش بيدروسيان، أن جيش الاحتلال استعاد جثمان الضابط الإسرائيلي «هدار جولدن» أمس الأحد، مشيرة إلى أنه لا يزال لدى حركة حماس 4 جثامين «تجب إعادتهم بأسرع ما يمكن».
وتأتي الزيارة في وقت تضغط فيه إدارة ترامب على إسرائيل لحل أزمة مقاتلي حماس العالقين في أنفاق مدينة رفح جنوبي قطاع غزة ضمن منطقة "الخط الأصفر" التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي.
خطة ترامب لغزة: تسليم أسلحة عناصر الأنفاق مقابل العفو وإجلائهم
ترامب: اتفاق غزة في وضع جيد.. وسأجبر حماس على نزع السلاح
مصدر مسؤول: استمرار سريان وقف إطلاق النار في غزة والالتزام بخطة ترامب