الجزيرة:
2025-11-12@12:52:36 GMT

مقاومة نساء العراق ومعركة لا تنتهي

تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT

مقاومة نساء العراق ومعركة لا تنتهي

عندما يذكر العراق في الوجدان العربي، يذكر بوصفه قلب التاريخ الذي لم يتوقف عن الخفقان، وأرض الحضارة التي علمت الإنسان أولى أبجديات الكتابة والقانون.

لكن هذا القلب، منذ مطلع القرن الـ21، صار ساحة تتقاطع فيها الخطوط الأميركية والإيرانية، وصار شعبه بين مطرقة الاحتلال وسندان الهيمنة. وفي هذا المشهد المضطرب، كانت المرأة العراقية- الماجدة كما يسميها أبناؤها- المرآة الأكثر صدقا لما جرى؛ لأنها كانت شاهدة ومقهورة ومقاومة في آن واحد.

أولا: قبل العاصفة

قبل الاحتلال الأميركي في عام 2003، كانت المرأة العراقية قد قطعت شوطا كبيرا في التعليم والعمل والمشاركة العامة. من مدارس بغداد إلى جامعات الموصل والبصرة، كانت أسماء النساء تملأ السجلات الأكاديمية والمهنية.

ورغم قسوة الحصار في تسعينيات القرن الماضي، فإن الأسرة العراقية حافظت على صلابتها، وكانت المرأة عمودها الصامد. لم تكن تلك مرحلة مثالية، لكنها كانت مرحلة امتلك فيها المجتمع العراقي توازنه الداخلي، رغم أزماته.

غير أن ما كان يتربص بالعراق لم يكن مجرد غزو عسكري، بل إعادة رسم لخرائط النفوذ في المشرق العربي. كانت واشنطن ترى في العراق ساحة لتثبيت مشروعها في "الشرق الأوسط الجديد"، فيما كانت طهران تراه فرصة ذهبية لمد نفوذها إلى عمق الوطن العربي، عبر جسر طائفي وسياسي وأمني متشابك. وفي المنتصف، وقفت الماجدة العراقية، تواجه سقوط الدولة، وانهيار المؤسسات، وتفتت الهوية الوطنية.

ثانيا: الاحتلال الأميركي- الوجه الأول للمأساة

حين دخلت الدبابات الأميركية بغداد في ربيع 2003، كانت الشعارات المعلَنة عن "الحرية" و"تحرير المرأة" جزءا من سردية الاحتلال. غير أن الواقع حمل وجها آخر. ففي غياب الدولة، انفلتت قوى العنف من عقالها، وتفككت مؤسسات الرعاية والتعليم والصحة، وتحول الأمن الشخصي إلى ترف بعيد المنال.

تعرضت النساء في المدن الكبرى إلى انتهاكات متعددة: من جرائم الخطف والاغتصاب إلى البطالة القسرية. كثير من النساء العاملات فقدن وظائفهن مع حل الوزارات والمؤسسات. المدارس توقفت، والمستشفيات انهارت، والشارع صار فضاء ملوثا بالخوف. إن الاحتلال حين ينهك دولة ما، فإن أول ما يسقط هو الحماية القانونية والاجتماعية للمرأة.

إعلان

لكن الصورة لم تكن كلها عجزا. فقد ظهرت من قلب الفوضى نساء حملن راية المساعدة الإنسانية والتعليم التطوعي، أنشأن منظمات محلية لحماية الأرامل والأيتام، ووقفن في وجه الطائفية، مؤمنات بأن العراق أكبر من انقساماته. كانت تلك بذور مقاومة مدنية، غير مسلحة، لكنها لا تقل شجاعة عن أي مقاومة أخرى.

المرأة العراقية اليوم، رغم كل الجراح، تكتب فصلا جديدا من المقاومة: لا في ساحات القتال، بل في الجامعات والمدارس والمجتمع المدني. هي تصوغ ببطء وعناد معنى جديدا للعراق، عراق يتجاوز الانقسام والاحتلال معا

ثالثا: النفوذ الإيراني – الوجه الثاني للمأساة

إذا كان الاحتلال الأميركي قد دمر الدولة، فإن النفوذ الإيراني سعى إلى السيطرة على ما تبقى من روحها. فمع انسحاب القوات الأميركية تدريجيا، بدأت طهران تملأ الفراغ عبر الأحزاب والمليشيات والاقتصاد. صار القرار السياسي في بغداد مرتهنا لمعادلات الخارج، وصار المجتمع يعيش ازدواجية الولاء والهوية.

المرأة العراقية وجدت نفسها مرة أخرى في قلب الصراع، ولكنه هذه المرة صراع صامت بين مشروعين لا يريان فيها إلا وسيلة رمزية: واشنطن أرادت أن تقدمها نموذجا لـ"المرأة الحرة في عراق ديمقراطي"، وطهران أرادت أن تجعلها رمزا لـ"المرأة المحافظة في عراق الولي الفقيه". أما هي، فكانت تبحث عن إنسانيتها الضائعة بين شعارات متناقضة.
تراجع حضور النساء في المؤسسات الرسمية، وارتفعت معدلات الترمل والفقر، وانتشرت ظاهرة تزويج القاصرات في بعض المناطق تحت ضغط الحاجة، أو الأعراف المستحدثة.

وفي الوقت ذاته، كانت هناك نساء يواصلن التعليم والعمل السياسي والثقافي رغم كل القيود. المشهد العراقي في تلك السنوات لم يكن أبيض أو أسود، بل خليطا من المآسي والمقاومات الصامتة.

رابعا: الذاكرة والمقاومة

الماجدة العراقية لم تكن يوما هامشا في التاريخ. من ثورة العشرين إلى انتفاضات الجنوب والشمال، كانت المرأة حاضرة في الصفوف الخلفية تنظيما، وفي الصفوف الأمامية صبرا وتحملا. لكن بعد 2003، واجهت اختبارا من نوع جديد: كيف تحافظ على معنى الوطن حين يتحول الوطن إلى ساحة صراع؟

في بغداد والنجف والموصل، ظهرت أصوات نسوية مستقلة ترفض الوصاية الأميركية والإيرانية على السواء. أصوات دعت إلى استعادة الدولة الوطنية على أسس المواطنة، لا المذهب ولا الطائفة.

في تلك الأصوات، وُلدت فكرة جديدة عن "الماجدة"، ليست تلك التي تعرف بشرف العائلة أو الحجاب أو التقاليد، بل تلك التي تعرف بوعيها وكرامتها وقدرتها على الوقوف بعد الانهيار.

هذه التحولات لم تكن سهلة، فقد دفع المجتمع أثمانا باهظةً. آلافَ الأرامل والمفقودين، أجيالا نشأت في ظل الحرب والعنف والفساد، وأسَرا هجرت من مدنها بسبب النزاعات الطائفية. ومع ذلك، ظلت المرأة العراقية حافظة لذاكرة الوطن، تنقل الحكاية جيلا بعد جيل.

خامسا: ما بعد تنظيم الدولة- جرح فوق جرح

حين اجتاح تنظيم الدولة مساحات واسعة من العراق عام 2014، اكتملت دائرة المأساة. كان التنظيم وجها ثالثا للاحتلال، هذه المرة بلسان الدين وراية "الخلافة".

النساء في الموصل والأنبار وسنجار عانين أقسى صور العبودية الحديثة: السبي، الزواج القسري، والتهجير. ومع تحرير المدن، بدأت مرحلة جديدة من الألم: ألم إعادة البناء، لا في الحجر فقط، بل في النفوس أيضا.

إعلان

كثير من النساء خرجن من تجربة الأسر يحملن صدمات لا تمحوها السنوات. ومع ذلك، برزت مبادرات من نساء عراقيات لإعادة الحياة إلى المدن، لتعليم الأطفال، وللتوعية ضد التطرف. في تلك الجهود الصغيرة تكمن مقاومة صامتة لا تتصدر العناوين لكنها تحفظ جوهر العراق.

سادسا: التحدي الراهن- استعادة الدولة والهوية

اليوم، وبعد أكثر من عقدين على الغزو الأميركي، يقف العراق أمام سؤال مركزي: هل يستطيع أن يستعيد دولته المستقلة عن واشنطن وطهران معا؟ الجواب لا يكمن في السياسة فقط، بل في المجتمع ذاته، وفي موقع المرأة داخله.

الماجدة العراقية هي مقياس عافية الوطن. حين تكرم، حين تتعلم، حين تعمل بحرية وأمان، فذلك يعني أن العراق يتعافى. وحين تهمش وتغيب، فذلك دليل أن الاحتلال- بأشكاله المختلفة- ما زال قائما.
القوى الإقليمية والدولية تدرك أن السيطرة على العراق تمر عبر نسيجه الاجتماعي، لا عبر قواعد عسكرية فقط.

لذلك فإن الحرب على المرأة، أو باسمها، ليست عرضا جانبيا، بل جزءا من إستراتيجية الهيمنة. مواجهة ذلك تبدأ ببناء وعي وطني لا يقاس بالولاء لهذه الجهة أو تلك، بل بالولاء للعراق نفسه، ولحق الإنسان فيه أن يعيش مكرما.

خاتمة – ما بين الرماد والضوء

إن قصة الماجدة العراقية  ليست مجرد فصل من كتاب المأساة العربية، بل مرآة لتاريخ المنطقة كله. هي قصة أمة تبحث عن استقلالها بين قوى عظمى تتصارع فوق أرضها. لكن ما يميز هذه القصة هو ذلك الخيط الرفيع من الصمود الذي لم ينقطع.

المرأة العراقية اليوم، رغم كل الجراح، تكتب فصلا جديدا من المقاومة: لا في ساحات القتال، بل في الجامعات والمدارس والمجتمع المدني. هي تصوغ ببطء وعناد معنى جديدا للعراق، عراق يتجاوز الانقسام والاحتلال معا.

وحين يأتي اليوم الذي تعود فيه الدولة إلى سيادتها، سيكتشف العالم أن الماجدة العراقية كانت طوال هذه العقود حارسة الذاكرة، وسند الأرض، وبذرة الأمل التي لم تمت. فالعراق، كما التاريخ علمنا، قد يسقط ألف مرة، لكنه لا يموت.

في لحظات التاريخ الكبرى، لا تقاس الأمم بما تملك من سلاح، بل بما يبقى فيها من روح. والعراق، رغم كل ما جرى له، ما زال يمتلك تلك الروح القديمة التي لا تشترى ولا تستورد.

حين نتأمل وجه الماجدة العراقية اليوم، نرى فيه خلاصة قرن من التجارب: وجها أنهكته الحروب لكنه لم يفقد ملامح الكبرياء. خلف كل ندبة في الذاكرة، هناك درس، وخلف كل فقد هناك وعي جديد يتشكل.

ربما أخطأ من ظن أن أميركا أو إيران سيصنعان عراقا تابعا، لأن العراق ليس أرضا فقط، بل فكرة. وفكرة العراق أعمق من أن تختزلها الطوائف أو تبتلعها القوى الإقليمية.

وفي لحظة ما، حين تهدأ المدافع وتخفت الأضواء، سيبقى صوت الماجدة العراقية هو الشاهد الأخير. صوت هادئ لكنه ثابت، يقول للعالم إن الحرية لا تمنح، بل تستعاد. وإن الكرامة، حين تسحق، تنبت من جديد في صمت البيوت، وفي دفاتر المدارس، وفي صدور الأمهات اللواتي لا يعرفن اليأس.
ذلك هو العراق الحقيقي: وطن يجرح لكنه ينهض وينتصر، لأن في نسائه ذاكرة لا تنكسر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات المرأة العراقیة کانت المرأة رغم کل لم تکن

إقرأ أيضاً:

نائب:خونة العراق وراء انعدام السيادة العراقية

آخر تحديث: 11 نونبر 2025 - 3:03 م بغداد/ شبكة أخبار العراق- حذر النائب محمد البلداوي، الثلاثاء، من أن التردد الحكومي في التعامل مع التحركات العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية بدأ ينعكس سلباً على صورة الدولة وهيبتها، فيما دعا إلى تبني موقف سيادي واضح لا يقبل التأويل.وقال البلداوي في تصريح  صحفي، إن “وجود قوات أجنبية على أراضينا من دون اتفاقات واضحة وعلنية يضع أكثر من علامة استفهام حول طبيعة التعاطي الرسمي مع هذا الملف”، مبيناً أن “تبرير أنقرة لتوغلاتها تحت ذريعة ملاحقة جماعات مسلحة لم يعد مبرراً مشروعاً، خاصة في ظل تحول هذا الوجود إلى قواعد دائمة على الأرض”.وأضاف، أن “التعامل مع الملف التركي لا يمكن أن يبقى ضمن إطار بيانات الإدانة، بل يتطلب أدوات ضغط مؤثرة تعيد التوازن للعلاقة بين البلدين”، لافتاً إلى أن “العراق يمتلك مفاتيح استراتيجية، سواء في مسارات الاقتصاد، أو الأمن، أو ملفات الموارد المشتركة، القادرة على تعديل بوصلة التعاطي إذا ما استُخدمت بجدية”.وأشار البلداوي إلى أن “أي تساهل إضافي في هذا الملف سيجعل العراق أمام أمر واقع جديد يصعب تغييره لاحقاً”، داعياً إلى “إقرار خطوات محددة زمنياً، سياسيةً أو دبلوماسية أو سيادية، تضع حداً لحالة التمدد غير المنضبط على الحدود”.ويثير ملف الوجود العسكري التركي في الشمال نقاشات متجددة على المستويين الرسمي والشعبي، في وقت تتصاعد فيه المطالب بإعادة ضبط العلاقات وفق مبدأ السيادة الكاملة وحماية الأمن الوطني العراقي أولاً.

مقالات مشابهة

  • اللبنانية الأولى زارت مشروع نساء الشمس التابع لجمعية سطوح بيروت واكدت أهمية تمكين المرأة
  • السفير الروسي:الانتخابات العراقية “مرتبة بشكل جيد”
  • اللبنانية الأولى من مشروع نساء الشمس: لتمكين المرأة واستدامة المبادرات الاجتماعية
  • نائب:خونة العراق وراء انعدام السيادة العراقية
  • "القومي للمرأة" يؤكد تضامنه مع نساء فلسطين في مواجهة الحصار والعدوان
  • الشؤون الاجتماعية بجامعة الدول تناقش تدغيات الحصار الإسرائيلي على نساء غزة
  • الانتخابات العراقية.. وعود متكررة وتراجع في نسب المشاركة
  • المرأة العراقية تختبر حدود السلطة الذكورية في سباق الديمقراطية
  • انتهاء عمليات التصويت الخاص في الانتخابات العراقية