تحت غطاء ما يُسمّى «وقف إطلاق النار»، تواصل إسرائيل حملتها الإرهابية عبر إعادة جثثٍ فلسطينية مشوهة، في مشهدٍ يفضح آلة القسوة التي تشكّل جوهر مشروعها الاستعماري. وفيما تلتقط غزة أنفاسها المثقلة لتواجه حجم الفقد والدمار والضياع، ينشغل الغرب الجماعي، بقيادة الولايات المتحدة، بمحاولة إنعاش إسرائيل.

فالدولة العبرية لا تزال تعيش على أجهزة الإنعاش السياسي والأخلاقي، وهي تواصل إبادة سكان غزة بأساليب مختلفة، وتستولي على المزيد من أراضي الضفة الغربية متحدّيةً كل القوانين والاتفاقيات الدولية، في غيابٍ تام للمساءلة أو العقاب.

إن ما يُسمّى «وقف إطلاق النار» ليس سوى ستارٍ يُخفي حجم الرعب الذي حدث، ولا يزال يحدث. وبينما يُصاب الإسرائيليون بالصدمة من تأخر تسليم جثث نحو اثني عشر قتيلاً بعد أن منعت حكومتهم دخول المعدات الثقيلة إلى غزة، يقيم الفلسطينيون جنازات جماعية لجثث مجهولة الهُوية أعادتها إسرائيل إليهم.

تلك الجثث، التي استُخدمت وسيلةً لبثّ المزيد من الرعب، تحمل علامات واضحة على التعذيب والإعدام الميداني، فهناك أصابع مقطوعة، وأعضاء منزوعة، وأيدٍ مقيدة خلف الظهر، فيما تواصل إسرائيل منع دخول أدوات تحليل الحمض النووي التي قد تساعد العائلات على التعرف إلى ذويهم المشوهين.

في عام 1950، استحضر الشاعر والسياسي إيميه سيزير، المنحدر من جزيرة مارتينيك الفرنسية الواقعة في البحر الكاريبي، في عمله الشهير «خطاب حول الاستعمار»، الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي أكد في حديثه عن «الميثاق الإنساني الشامل» أن العقل موجود بكامله في كل إنسان، في إشارة إلى أن البشر لا يمكن تقسيمهم أو تمييزهم على أساس العِرق أو الأصل.

لكن ما نراه اليوم في غزة هو محاولة فاضحة للعبث بجوهر الإنسان نفسه، لتفكيك عالميته من خلال الدعاية الجماعية وتشويه الوعي، بحيث يُصبح العقل البشري عاجزًا، في ظل هذا التلاعب، عن إدراك حجم الانحراف والظلم الذي يُقدَّم له باعتباره «واقعًا طبيعيًا».

إن عدم التوازن الفادح في القوة بين إسرائيل والفلسطينيين، والتفاوت المروع في ردودها على المقاومة الفلسطينية وعلى الوجود الفلسطيني نفسه، لم يكن يومًا مجرد وسيلة لإيقاع أكبر قدر من الرعب والدمار، بل أصبح أداة أساسية لتطبيع انتهاك كل القوانين والاتفاقيات الدولية المعروفة دون أي مساءلة. فالاستخدام المفرط للقوة يخدم نفسه بنفسه، إذ يُستخدم لتبرير القمع وتصوير «العدو» كإرهابي يجب القضاء عليه بكل وسيلة ممكنة»، رغم أن هذا «العدو» في غالبه مدني أعزل، وغالبًا ما يكون الأطفال هم الهدف الأوضح والأكثر تعمدًا.

أما المقاتلون الفلسطينيون الفعليون، الذين يقدَّر عددهم بنحو ثلاثين ألفًا من أفراد حرب العصابات المزودين بأسلحة خفيفة وصواريخ وقذائف محلية الصنع، فيواجهون قوة نووية تمتلك جيشًا نظاميًا قوامه مئات الآلاف، وسلاحا جوّيا وبحرية، ودعمًا غير محدود من الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما.

وبسبب هذا التفاوت غير المتكافئ، يصبح التباين بين الجانبين في معاملة الأسرى أكثر وضوحًا. ورغم ما أبداه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من استعلاء أخلاقي خلال خطابهما في البرلمان الإسرائيلي، الذي أُقيم فوق موقع قرية فلسطينية مهدّمة تُعرف بـ«خِرْبة الأمة» ـ أي على أنقاض قرية دُمّرت بعد النكبة ـ، فإن هذا المشهد يرمز إلى المفارقة القاسية بين من يفاخرون بالديمقراطية، وبين واقعٍ بُني على أنقاض شعبٍ أُزيلت قراه من الوجود.

ورغم القصف الإسرائيلي اللامحدود، والحصار الكامل المفروض على الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية، فقد ظهر هؤلاء الأسرى في حالة إنسانية معقولة بقدر ما تسمح به الظروف.

أما المدنيون الفلسطينيون الذين أُطلق سراحهم وعادوا إلى غزة أو الضفة، أو الذين دُفعوا إلى المنفى، كما جرت العادة في مثل هذه الصفقات، فقد خرجوا من أماكن لا يمكن وصفها إلا بالجحيم. وعندما سأل مراسل قناة الجزيرة طارق أبو عزوم أحد العائدين عن تجربته، أجابه بكلمة واحدة: «جحيم».

يروي العائدون أسماء من لم يخرجوا أحياء. من ماتوا تحت التعذيب أو تُركوا ليموتوا بلا علاج. يحكون كيف أخبرهم المحققون بأن زوجاتهم وأطفالهم وذويهم قُتلوا، ليكتشفوا بعد الإفراج أنهم أحياء، فيما يعلم آخرون أن عائلاتهم كلها قد أُبيدت، ولم يعد هناك ما يمكن العودة إليه.

وإذا كانت أسماء مثل تازمامارت وتدمر وأبو غريب قد ارتبطت في الذاكرة العربية والعالمية بالتعذيب والإخفاء القسري والاستبداد في المغرب وسوريا والعراق، فإن النظام السجني الإسرائيلي لم يُكشف بعدُ على نحو كامل. وعندما يُرفع الستار عن معتقلات مثل سدي تيمان وكتسعوت والمسكوبية، ستُضاف فصول جديدة من القسوة والتعذيب والحرب النفسية الممنهجة إلى سجل انحطاط البشرية.

صحيح أن الهدف المُعلن لعملية «طوفان الأقصى» كان مهاجمة القواعد العسكرية الإسرائيلية وأسر جنود لمبادلتهم لاحقًا، غير أن حجم الرد الإسرائيلي خلال العامين الماضيين من الإبادة المباشرة والمصوَّرة جعل ممارسات إسرائيل اليومية، من خطف مدنيين واحتجازهم بلا محاكمة لأجل صفقات محتملة، تبدو شبه غير مرئية، رغم أنها سياسة دائمة وممنهجة.

السيطرة الكاملة

يشكّل نظام السجون الإسرائيلي، بمحاكمه العسكرية، واحتجازه الإداري دون تهم، وغياب أي آلية للطعن، وشروطه التي تشمل التعذيب الجسدي والنفسي المنهجي، والاعتداءات الجنسية المنتظمة، وغياب الرعاية الصحية، وسوء التغذية، وانتهاكات القانون كافة، أحد الأعمدة المركزية في مشروع إسرائيل الاستعماري.

إنه جزء لا يتجزأ من منظومة السيطرة والإخضاع، يُكمّل سياسة مصادرة الأراضي والاستيطان التي تُفرض تحت شعار «خلق حقائق على الأرض». وقد تحوّل هذا النظام القانوني والاعتقالي إلى سلاح أساسي في حملات الإرهاب الممنهج ضد الحياة الفلسطينية ذاتها.

وكما نقلت الباحثة في جامعة هارفارد سارة روي عن رسالة وصلتها من صديق في غزة: «لو استطاعوا أن يسلبونا الهواء لفعلوا»، فالنظام الإسرائيلي يُدير قمعه بدقة محاسبٍ يراقب ميزان الموت. إذ يختطف الأطباء والممرضين ويمنع دخول الطواقم الطبية الدولية، ويحظر إدخال الأدوية والمعدات الطبية، لتتضاعف أعداد الفلسطينيين العاجزين أو الذين يموتون ببطء.

ومنذ فرض الحصار على غزة عام 2007، تقوم إسرائيل بقياس السعرات الحرارية التي يتناولها السكان، محددةً الحد الأدنى الذي يمنع المجاعة لكنه يُبقيهم على حافة الهلاك، بحيث تكون المجاعة جاهزة إنْ شاءت السلطة تنفيذها. كل تفاصيل الحياة الفلسطينية تخضع لحسابات كهذه، تُدار بدقة آلةٍ تتحكم في الأنفاس والحركة.

التواطؤ العالمي

لم تكن آليات السيطرة الإسرائيلية لتعمل لولا مشاركة مئات الآلاف من الإسرائيليين من مختلف فئات المجتمع: جنود الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال، والأطباء والعاملون في الصحة، والأكاديميون، وموظفو الإعلام، وسائقو الجرافات الذين يهدمون الأحياء والمؤسسات والطرق والبنى التحتية في غزة والضفة.

وينسحب هذا التواطؤ على الشركاء الخارجيين، في مقدمتهم الولايات المتحدة، ثم بريطانيا وألمانيا ودول أخرى، الذين يمدّون آلة الإبادة الإسرائيلية بالأموال والسلاح والغطاء السياسي.

إن الزخم الذي شهدته الإضرابات العامة في إيطاليا، والاعتقالات الواسعة في بريطانيا تضامنًا مع حركة «العمل من أجل فلسطين»، والحملة الانتخابية المشحونة في نيويورك، ينبغي أن يُبنى عليه بمنهجية: لتشكيل تحالفات جديدة، وابتكار مؤسسات نضالية، والعمل فرادى وجماعات لمواجهة المؤسسات المتواطئة، وعرقلة الأعمال الاعتيادية، وملاحقة مجرمي الحرب بكل السبل القانونية الممكنة.

فالبديل عن ذلك واضح: عالمٌ تختبر فيه الحكومات حدود الإفلات من العقاب، تمهيدًا لانهيار كامل لأبسط الضمانات التي قد تحمي المواطنين في أي مكان.

إن عملية إنعاش المجتمع الإسرائيلي وإعادة تأهيله، بصفته رأس الحربة في المشروع الإمبراطوري الأمريكي، لن تجلب سوى مزيدٍ من الاختناق لنا جميعًا. لذلك، يجب أن يُفعل كل ما يمكن لإبقاء هواء الحرية متدفقًا في صدورنا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

البث الإسرائيلية: واشنطن تضغط على إسرائيل لبدء تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب

قالت هيئة البث الإسرائيلية، منذ قليل، بإن واشنطن تضغط على إسرائيل لبدء تنفيذ المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار، موضحة أن إسرائيل لا تستبعد أن تضغط واشنطن للسماح لعناصر حماس بمغادرة المنطقة عبر ممر آمن، موضحة أن مسئولون اقترحوا تعهدا لواشنطن بعدم استهداف عناصر حماس العالقين في الأنفاق مقابل استسلامهم، وفقًا للقاهرة الإخبارية.

مقالات مشابهة

  • شهادات صادمة.. اغتصاب وانتهاكات جنسية ممنهجة ضد المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية
  • من هو حاتم عزّام الذي عيّنته إسرائيل نائباً لرئيس مصلحة السجون؟
  • قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين في السجون “الإسرائيلية”
  • "مراقب الدولة" الإسرائيلي: هجوم 7 أكتوبر دمّر ركائز العقيدة الأمنية الإسرائيلية
  • فصائل المقاومة: الكنيست يشّرع لتحويل السجون الصهيونية إلى محارق نازية لإبادة الأسرى الفلسطينيين
  • من توت عنخ آمون إلى المتحف الكبير.. الدرس الذي لا يجب أن ننساه
  • الخطوة السرية التي تُحاك منذ أشهر: كيف تخطط تركيا لمعاقبة إسرائيل
  • أوهموه بمقتل أولاده.. معتقل سابق يروي معاناته في السجون الإسرائيلية
  • البث الإسرائيلية: واشنطن تضغط على إسرائيل لبدء تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب