لاشك أننا جميعا متفقون على أن البرلمان أو المجلس الوطني هو التعبير الأوضح عن الإرادة الوطنية المنظمة. فحين يغيب، يغيب صوت الشعب و تنكشف الدولة أمام احتمالات الوصاية، وتُفتح الأبواب أمام الإملاءات الخارجية التي تسعى لإعادة تشكيل القرار الوطني وفق مقاييسها الخاصة. في هذا المقال دعونا نفتح هذا الملف.

لقد كان قيام البرلمان الإنتقالي أحد أبرز استحقاقات الوثيقة الدستورية منذ نسختها الأولى في أغسطس 2019، غير أن السنوات انقضت والمجلس ظلّ وعدًا مؤجلاً.

حتى بعد تعديل الوثيقة في عام 2025، وتشكيل لجنة سياسية برئاسة الفريق أول شمس الدين كباشي وعضوية الفريق أول ياسر العطا وعبد الله يحيى، لم يرَ المشروع طريقه إلى الواقع.

اللجنة التي بدأت لقاءاتها مع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين تبخّرت فجأة، دون بيان ختامي أو توضيح لمسار أعمالها.

ومع أن الوثيقة المعدلة حدّدت بدقة تركيبة البرلمان وضمان تمثيل أطراف العملية السلمية والنساء، وحددت سقف العضوية بثلاثمائة عضو، إلا أن الواقع ظلّ أسير التوازنات، حيث استمر مجلس السيادة ومجلس الوزراء في ممارسة مهام السلطة التشريعية المؤقتة، بينما تُدار الدولة بالأغلبية البسيطة في غياب الرقابة والمساءلة. وهكذا أصبح غياب البرلمان مأزقًا مركبًا: مأزقًا في هندسة الحكم الداخلي، ومأزقًا في مواجهة الضغوط الخارجية التي وجدت في هذا الفراغ مدخلاً لفرض وصايتها الناعمة.

إن وجود برلمان فعّال لا يمثل مجرد واجب دستوري، بل ضمانة سياسية واستراتيجية لتحصين القرار الوطني. فكل خطوة متعلقة بالتفاوض أو بإنهاء الحرب، وكل قرار سيادي يمس مصير البلاد، يحتاج إلى مظلة شرعية جامعة تحمي صانعي القرار من الابتزاز الإقليمي والدولي.

لذلك بجب أن نعلم أن البرلمان ليس خصمًا على السلطة التنفيذية، بل درعها الدستوري ومأمنها، وهو الجدار الذي تتكئ عليه في وجه الضغوط والابتزاز الخارجي حين تكون الكلمة الأخيرة للوطن لا للوسيط.

التجارب المقارنة تمنح الدرس الأوضح: فبلدان مثل مصر بعد 2013 وإثيوبيا خلال أزمتها الداخلية والجزائر في فترات التحول، استطاعت أن تتحصن ضد الابتزاز الدولي عبر برلمانات مؤقتة أو معينة، منحت القيادة غطاءً شرعياً لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالحرب والسلام والسيادة.

حتى في فترات الاضطراب، أدركت تلك الدول أن وجود مؤسسة تشريعية ولو انتقالية تعبر عن رأي الشعب أفضل ألف مرة من فراغ دستوري يُستثمره الخارج في تمرير اطماعه من خلال اجهزة مهما علت كفاءتها ، فهي قاصرة من أن تتخذ قرارات مصيرية متعلقة بالأمن القومي مثلا.

ومن هنا تتصاعد الأسئلة في المشهد السوداني: لماذا تأخر قيام البرلمان في هذا التوقيت الحرج بالذات؟ وهل ثمة ضغوط خارجية أو حسابات داخلية تحول دون ميلاده؟ ولماذا تظل لجان الترتيب تُعلن ثم تختفي بلا أثر؟ أسئلة يطرحها الإعلام و النخب السياسية بقدر ما تهمس بها الجماهير، لأن الجميع يدرك أن غياب البرلمان يعني غياب اللسان الوطني الذي يُفترض أن ينطق باسم الشعب لا بالنيابة عنه.

في هذا السياق، يظهر الفرق بين من هم داخل السودان ومن هم خارجه: الشعب “الاسطنبولي ،والشعب القاهري” و الشعب داخل البلاد الذي يعيش الحرب بكل مرارتها ومخازيها ، ويريد وقفها لأنه بلغ حدّ المعاناة اليومية، بينما أولئك الذين يتحدثون باسمه من الفنادق والحانات أو غيرها من المنافي لا يشعرون بلظاها، ولا يهمهم طول أمدها، فمصالحهم منفصلة عن الواقع اليومي.

لذلك البرلمان هو الأداة الوحيدة لتنظيم هذا الصوت الداخلي، ورفع الحرج عن القيادة، بحيث لا يتم ابتزاز القيادة أو يُنسب قرار الحرب أو السلام إلى طرف بعينه، بل يصبح قرارًا جماعيًا شرعيًا يمثل كل السودانيين.

لقد أدّى تأخر قيام البرلمان إلى انكشاف الدولة أمام معادلات التدويل، حيث تُدار ملفات الحرب والسلام من خارج الأطر المؤسسية، وتُتداول القرارات الكبرى في ظل غياب جهة تُحاسِب وتُقوِّم وتُشرّع. وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة: أن الدولة التي تصمد ميدانيًا في وجه المليشيا ، قد تجد نفسها مكشوفة سياسيًا أمام طاولات التفاوض، لأن مؤسساتها لم تُستكمل بعد.
يكمن المأزق اليوم في الفراغ الناتج عن غياب السلطة التشريعية؛ فالسّيادة ليست شعارًا يُرفع، بل منظومة تُؤسَّس وتُصان. إنّ الوصاية تتسلل من هشاشة الداخل حين تغيب الشرعية الشعبية، لذلك فإن بناء البرلمان ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورةً استراتيجيةً ومصيريةً لاستعادة التوازن بين الدولة ومواطنيها، وبين الإرادة الوطنية وضغوط الوصاية الدولية.

بحسب #وجه_الحقيقة فإن قيام البرلمان اليوم لا يعني مجرد استكمال لبنية الحكم، بل يمثل تحولًا استراتيجيًا في دعم الصمود الوطني. وجوده سيعزز القرار الوطني، ويمنح التفاوض غطاءً مؤسسياً يضمن أن تُدار الحرب والسلم داخل العقل السوداني لا عبر الوكالات الدولية. كما أنه يتيح تحمل المسؤولية المشتركة في القرارات المصيرية، فيتحول القرار من عبء فردي إلى إرادة جماعية محصّنة بشرعية الدستور وارادة الشعب .
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 12 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: قیام البرلمان فی هذا

إقرأ أيضاً:

د. حسن محمد صالح يكتب: هدنة الميليشيا لا تعني الشعب السوداني في شيء

البعض يظن أن السودان حكومةً وشعبًا في ورطة لأن الميليشيا المتمردة أعلنت عن هدنة لمدة ثلاثة أشهر استجابةً لإعلان الرباعية الدولية، وعلى القوات المسلحة أن تفعل الشيء نفسه حتى لا تبدو القيادة العسكرية والسياسية رافضةً للسلام ومؤيدةً لاستمرار الحرب ولا تأبه للمدنيين الذين هم في أمسِّ الحاجة إلى المساعدات الإنسانية والغذائية وهم في الأساس مناطقُ سيطرةٍ ميليشيا آل دقلو الإرهابية.

إذا نظرنا للتاريخ القريب نجد أن القائد العام للقوات المسلحة رئيس المجلس السيادي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أعلن عن هدنة لمدة عشرة أيام استجابةً لطلب الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش لإدخال المساعدات إلى المدنيين المحاصرين بواسطة ميليشيا الدعم السريع في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وكان رد فعل الميليشيا الإرهابية هو رفض الهدنة وقالت بالحرف الواحد: إن الفاشر ليس بها مدنيون وأن المواد الغذائية سوف تذهب إلى جيش الفلول المحاصر داخل مدينة الفاشر. فهل صارت الفاشر بعد إسقاطها بواسطة ميليشيا الدعم السريع تعجُّ بالسكان من المدنيين وهم ما بين قتيل ونازحٍ مهجر؟ وقد وصلت ست شاحنات صباح السبت من الرهائن من الفاشر إلى نيالا لتقوم الميليشيا بإجبار ذويهم على دفع أموالٍ مقابل إطلاق سراحهم أو قتلهم جميعًا، وكأنهم سلعةٌ تُعرض أحيانًا وتُباد أحيانًا أخرى عندما لا تفي بغرض الميليشيا المجرمة.

الحكومة السودانية لم تهمل النواحي الإنسانية وتوصيل العون للمواطنين. أعلن السودان مرارًا عن فتح كافة الطرق والمعابر، ولم يتم وضع أية قيود على توصيل المواد الغذائية للمحتاجين والذين حسب إحصاءات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة بأنهم أكثر من أربعة وعشرين مليون مواطن داخل السودان وخارجه، وهؤلاء المواطنون يتواجدون في العاصمة الخرطوم والولاية الشمالية التي وصلت لها أعدادٌ من النازحين من مدينة الفاشر. وهناك أعدادٌ مهولة من النازحين في مدينة الأبيض شمال كردفان أتوا من النهود وبارا، ونازحون في شمال دارفور وصلوا مناطق طويلة والكومة. ما عدا جنوب كردفان، الطرق سالكةٌ لكل هذه المناطق برًا وجوًا وبحرًا، وهناك لاجئون في دول الجوار مصر وليبيا وتشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى. لا عائق حكومي يمنع توصيل المساعدات الإنسانية إليهم، ولكن في واقع الأمر فإن المساعدات التي تصل الناس في كل هذه المواقع (شحيحة) ولا تغطي حتى النذر اليسير من حاجة النازحين واللاجئين السودانيين. وعليه فإن الهدنة المعلنة من قبل ميليشيا آل دقلو الإرهابية ليست هدنة إنسانية لأن الإنسان هو آخر اهتمامات الميليشيا التي قتلت أكثر من ٤٥٠ مريضًا داخل المستشفى السعودي بالفاشر وقتلت النساء والأطفال والشيوخ وقامت بحرق جثث الضحايا حتى تخفي آثار الجريمة الإنسانية، ولا يعرف الناس المفقودين من ذويهم هل هم في عداد القتلى أو المحروقين! فهي إذن هدنة تخص الميليشيا ولا علاقة لها بالسلام، وعلى الرباعية أن لا تغترَّ بهذا الإعلان من الميليشيا المجرمة التي لا تسرف إلا في القتل والتنكيل بالآبرياء ولها في ذلك رموز مثل أبو لولو المجوسي وآلياتٍ وراياتٍ مرفوعة لقتل الأبرياء بكل جبنٍ وخسة.
الميليشيا المتمردة بإعلانها الهدنة تريد أن تقفز فوق خريطة الطريق والرؤية السودانية لوقف الحرب وتفرض على كل الأطراف بما في ذلك القوات المسلحة الاعتراف بحكومةٍ تأسيس التي أعلنت أن قواتها من المرتزقة (الكولومبيين وجنوب السودانيين والليبيين والتشاديين ومقاتلي أحزاب قحت ولجان المقاومة) هي التي أسقطت مدينة الفاشر. على الرباعية وأعوانها أن لا يتجاهلوا خريطة الطريق السودانية التي قدمها رئيس المجلس السيادي للأمين العام للأمم المتحدة قبل أكثر من عام، وأن لا تهلل مع عناصر قحت وصمود وتأسيس لإعلان الهدنة من قبل ميليشيا إرهابية لا تعرف غير القتل والتدمير والإبادة الجماعية والغدر.

خلاصة الأمر فإن إعلان الهدنة من قبل ميليشيا آل دقلو الإرهابية لا يعني الشعب السوداني وجيشه من قريب أو بعيد، وسوف تستمر عمليات التعبئة العامة والاستغفار للمواطنين للدفاع عن الأرض والعرض لتحرير كل المناطق التي دُنِّستْ بالتمرد، وليس من حق الميليشيا أن تعلن هدنة أو أن يحفل بأمرها من قبل المجتمع الدولي لكونها ميليشيا تمردت على الجيش والشعب وتم حلها من قبل القائد العام للقوات المسلحة، والمطلوب من الدول والحكومات مساعدة السودان في القضاء عليها وليس مساواتها مع الجيش الوطني المناط به تأمين البلاد والشعب من كل أنواع المخاطر الأمنية والإرهاب التي تُمارَس ضده من الميليشيا وداعميها من الدول الأعضاء في الرباعية نفسها مثل دولة الإمارات العربية المتحدة.

د. حسن محمد صالح

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إبراهيم النجار يكتب: في الذكري الـ 21 لرحيل عرفات.. الثورة مستمرة
  • برلماني: المصريين أثبتوا دعمهم لمسيرة الدولة التنموية والمرحلة المقبلة تتطلب التكاتف
  • نواب: المشاركة الجماهيرية الكبيرة تؤكد ثقة الشعب في مؤسسات الدولة..ويؤكدون: التفاعل الشعبي يعكس الروح الوطنية والمشاركة الفعالة في بناء البرلمان الجديد
  • NYT: أمريكا تعمل للحد من التأثير الإيراني في العراق.. وهذا بشأن الوصاية الشيعية؟
  • د. عبد الله علي إبراهيم: مع الحرب وضد الهدنة..!
  • إبراهيم حسن: غياب تريزيجيه عن معسكر منتخب مصر بسبب الإصابة
  • هذه أسباب غياب مأساة السودان عن الاهتمام الدولي والإعلامي
  • د. حسن محمد صالح يكتب: هدنة الميليشيا لا تعني الشعب السوداني في شيء
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح