عندما تنهار مؤسسة أو يتراجع قائدها، تتوجه أصابع الاتهام إلى الخارج: البيروقراطية، وضعف الموارد، أو تراخي الفريق. غير أن الحقيقة غالبًا تختبئ في مكان أعمق بكثير؛ في داخل القائد نفسه. فهناك، في أعماق الوعي، تسكن معتقدات خفية تحرك قراراته وتوجّه سلوكه دون أن ينتبه. القيادة الحقيقية لا تبدأ من المكتب ولا من المنصب، بل من الداخل، من لحظة يواجه فيها ذلك المسؤول نفسه قبل أن يواجه الآخرين.
ليست المشكلة في المهارات ولا في الشهادات، بل في تلك الأفكار التي تشكّلت عبر السنين حتى غدت جزءًا من الهوية. المسؤول الذي يظن أن عليه أن يراقب كل تفاصيل قطاعه، يظن أنه حريص، بينما هو في الحقيقة يخنق فريقه. والذي يعتقد أنه وحده يملك الصواب، يغلق الباب أمام الإبداع ويصنع حوله جدارًا من العزلة. ومن يظن أن الخطأ عيبٌ لا يُغتفر، يعيش في خوف دائم يمنعه من التقدم. إنها أفكار صغيرة في ظاهرها، لكنها تتحول مع الوقت إلى سلاسل ثقيلة تُقيد المدير المسؤول من الداخل، حتى وهو يبدو قويًا أمام الآخرين.
تحت كل سلوك متكرر فكرة غير مرئية، وتحت كل قرار خاطئ خوفٌ لا يُقال. المسؤول الذي يريد كل شيء بسرعة يزرع في مؤسسته بذور التوتر، ومن لا يعرف كيف يرفض، يغرق في بحر من الالتزامات التي تسرق طاقته. أما من يقيس الجميع على نفسه، فلا يرى إلا نسخة باهتة من ذاته، فيقتل التنوّع الذي يولّد الإبداع. هذه المعتقدات لا تُرى بالعين، لكنها تُرسم في القرارات اليومية، في طريقة الحوار، في الصمت، في ملامح الوجه. إنها أشبه بظلٍ يتبعه أينما ذهب، مهما حاول تجاهله.
قرأت مؤخرًا مقالًا يؤيد هذا الكلام بعنوان”المعتقدات الخفية التي تُقيد القادة”، يوضح أن أكبر العوائق التي تواجه القائد ليست حوله؛ بل فيه، داخل تلك المعتقدات التي يظنها منطقية، بينما هي في الحقيقة قيود نفسية. سبعة منها تتكرر في أغلب قادة القطاعات: الرغبة في السيطرة، الحاجة إلى الكمال، الخوف من الخطأ، الإصرار على أن يكون دائم الصواب، أو الشعور بعدم الانتماء. والنتيجة واحدة: قائد ناجح في الظاهر، لكنه منهك في الداخل، يقاتل أشباحًا لا يراها.
القوة لا تكمن في الإنكار، بل في الوعي. أن يتوقف القائد لحظة ويسأل نفسه: لماذا أفعل ما أفعل؟ ما الذي يدفعني للسيطرة؟ ولماذا أرهق نفسي بالكمال؟ متى فقدت الثقة في أن الخطأ جزء من التعلم؟ تلك الأسئلة هي بداية التحرر، كما اشار اليها كاتب المقال. فحين يدرك ذلك المسؤول أن خوفه من الفشل هو ميراث قديم، يبدأ بالتحرك نحو قرار شجاع. وحين يكتشف أن حاجته إلى الكمال ليست سوى قناع يخفي خوفه من النقد، يصبح أكثر استعدادًا لفتح الباب أمام الآخرين للمشاركة، والفرق كبير بين القائد والمدير.
القيادة ليست أن تكون بلا أخطاء، بل أن تكون قادرًا على مراجعة نفسك بشجاعة. فحين يفهم القائد ذاته، يتحول من مدير إلى مُلهم؛ وقائد في ذات الوقت، لأن الناس يتعلمون من سلوك قائدهم أكثر مما يتعلمون من كلماته.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: بدر الشيباني التی ت
إقرأ أيضاً:
الوطن والمواطن.. علاقة وجود ومسؤولية (1- 2)
خالد بن سالم الغساني
اللبنة الأساسية في بناء الوطن، هي المواطن، إنه الروح التي تمنح الوطن هويته وحيويته، وبدونه يفقد الوطن معناه الحقيقي، إذ لا يمكن تخيل وطن حي نابض دون أبنائه الذين يشكلون نسيجه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فهل يوجد وطن حقيقي دون مواطن؟
الوطن من الناحية الجغرافية والسياسية يمكن أن يوجد كأرض وحدود وعلم ونشيد ونظام، لكن "الوطن الحقيقي" بمعناه الأعمق، مكان الانتماء والحنين والهوية، لا يقوم إلا بوجود مواطن يحيا فيه ويعطيه المعنى.
فالأوطان لا تُبنى إلا بجهود أبنائها، ولا يرتفع شأنها أو ينحط إلا بإرادتهم وعملهم.
إن رعاية المواطن، من خلال تلبية احتياجاته المعيشية، وضمان حريته وكرامته، وتوفير بيئة آمنة ومستقرة له، واجب وحق أصيل من حقوق المواطنة، إنه الأساس الذي يقوم عليه وجود الوطن وأمنه وازدهاره.
وبالتالي فإنَّ وعي المسؤول الحكومي، بأهمية دوره يشكل حجر الزاوية في تعزيز كرامة المواطن وحريته وعيشه الكريم. فالمسؤول الواعي يدرك ان خدمته الحقيقية للوطن لا تكمن في تحقيق إنجازات مادية فقط؛ بل في جعل المواطن محور عمله، والسعي الدؤوب لتلبية احتياجاته وتعزيز شعوره بالأمان والكرامة. هذا الوعي يدفع المسؤول لتبني سياسات ومبادرات تضمن توفير فرص عمل كريمة، وخدمات صحية وتعليمية عادلة، وحماية الحريات الأساسية. إن المسؤول الذي يضع المواطن في صلب اهتماماته يساهم في بناء مجتمع متماسك، حيث يشعر كل فرد بأن له قيمة ودور؛ مما يعزز الولاء والانتماء للوطن.
لكل ذلك وسواه مما يرفع من شأن الوطن ويحقق من سموه وعزته وامنه واستقراره، فإن على المسؤول الحكومي أن يتذكر دائمًا أنه كان مواطنًا بعيدًا عن سلطة القرار، قبل أن يتبوأ منصبه، وأن يضع نفسه في مكان المواطن الذي يواجه تحديات الحياة اليومية، ويأتي إليه طالبًا مساعدته، وليسترجع تلك اللحظات التي كان فيها يطالب بحقوقه، أمام المسؤول الذي سبقه، يسعى لفرصة عمل كريمة، أو يبحث عن أمان واستقرار. ان مقارنة وضعه الحالي بما كان عليه قبل تحمل المسؤولية تدفعه لفهم تطلعات المواطن ومعاناته بعمق، هذا التأمل يجعل المسؤول أكثر إحساسًا بأهمية دوره، فيسعى بجد لتحسين ظروف المواطنين، لأنه يعرف أن تلبية احتياجاتهم، واجب عليه القيام به، وهي تجسيد للعدالة والإنصاف اللذين كان ينشدهما يومًا ما.
كما أن التزام المسؤول الحكومي برفع شأن المواطن يعكس جوهر وجوده في منصبه، فالمسؤولية الحقة، لم تكن يومًا منصبًا أو سلطة؛ بل أمانة تتطلب العمل بصدق وإخلاص لخدمة الناس. هذا الالتزام يتجلى في الاستماع إلى هموم المواطنين، وتلمس حاجاتهم، وإشراكهم في صنع القرارات التي تمس حياتهم.
عندما يدرك المسؤول أن دوره يتمحور حول تمكين المواطن وصون كرامته، يصبح عمله خدمة وطنية حقيقية، تساهم في استقرار الوطن وازدهاره. وإهمال هذا الدور يؤدي إلى حدوث فجوة بين الحكومة والشعب، مما يهدد الثقة المتبادلة ويعيق التقدم.
إن الاهتمام بسبل معيشة المواطن، من توفير وظائف كريمة تضمن دخلًا مستقرًا، إلى تأمين احتياجاته الأساسية من غذاء ومأوى وخدمات صحية وتعليمية، هو حق ملزم على الوطن. فالمواطن المكتفي، الراضي والسعيد هو الذي يساهم في بناء مجتمع قوي، يبتكر ويبدع، ويدافع عن وطنه في الملمات، وإهمال هذه الاحتياجات يؤدي إلى تفكك اجتماعي، وتراجع في الإنتاجية، وفقدان الثقة بالمؤسسات، مما يهدد استقرار الوطن ذاته.
المواطن الذي يعيش في ظل الإهمال أو الظلم يفقد الحماس للمساهمة، والإحساس بالانتماء، ويصبح مصدرًا للاضطراب بدلًا من أن يكون عنصرًا فاعلًا في التنمية.
ولا يقتصر الاعتناء بالمواطن على تلبية احتياجاته المادية فحسب؛ بل يمتد إلى حفظ حريته وكرامته وشموخه.
الحرية في التعبير عن الرأي، والمشاركة في صنع القرارات، والعيش دون خوف، هي التي تبني مجتمعات متماسكة وواثقة.
الكرامة تتجلى في معاملة المواطن باحترام، وتقدير دوره كعنصر أساسي في المجتمع، بينما يشكل العيش الآمن والمستقر بيئة خصبة تمكّن المواطن من التركيز على الإبداع والإنتاج بدلًا من القلق اليومي. بدون قيم الحرية والكرامة والأمان، لا يمكن ان تقام للوطن قائمة تذكر، فالمواطن الذي يشعر بالإهانة أو التهميش يفقد انتماءه، ويصبح الوطن مجرد أرض خالية من الروح.
الوطن هو مواطنوه، إنهم جوهره وأساس وجوده، والدول التي أدركت هذه الحقيقة، واستثمرت في رعاية أبنائها، حققت تقدمًا اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا كبيرًا. أما تلك التي أهملت مواطنيها، نراها اليوم تواجه الفوضى والتفكك والتراجع.
إنَّ الاستثمار في المواطن، هو السبيل الوحيد لخلق وطن قوي ينمو ويزدهر؛ حيث يصبح كل فرد جزءًا من قصة نجاح جماعية، يساهم فيها بولاء وعطاء.
رابط مختصر