تونس: بين إعادة التدريب الديمقراطي وترتيبات الآخرين
تاريخ النشر: 17th, November 2025 GMT
تشهد تونس هذه الأيام حراكا يزدحم فيه السياسي والاجتماعي والحقوقي، وتختلط فيه الهواجس بالآمال والحماسة باليأس، وتتناسل فيه أسئلة حول طبيعة ما يحدث ومآلاته، وحول إن كانت الأحداث ذاتية أم إنها بتأثيرات خارجية، أم إنها مزيج بين تفاعلات الداخل وتأثيرات الخارج؟
الاحتجاجات على ما أقدم عليه قيس سعيد منذ 25 تموز/ يوليو 2021 لم تتوقف، ولم تخفت أصوات الداعين إلى إسقاط الانقلاب وإلى استعادة المسار الديمقراطي، وفي ذات الوقت لم تتوقف منظومة قيس سعيد على سَوق المعارضين إلى السجون وعلى استصدار أحكام قضائية لا يرى رجال القانون تناسبا بينها وبين ملفات الموقوفين، حيث لم تتأكد تهم الفساد ولا تهم التآمر.
ما ميّز المشهد هذه الأيام هي وقائع جديدة نوعية، دفعت ببعض المحللين إلى توقع قرب نهاية مرحلة قيس سعيد والدخول إلى مرحلة جديدة؛ قد تكون استعادة للمسار الديمقراطي وقد تكون مجرد تخفيف من سطوة سلطة الغلَبة التي يمثلها قيس سعيد منذ أكثر من أربعة أعوام.
تحركات أهالي قابس كانت مفاجئة لكل التونسيين، من حيث عدد المتظاهرين ومن حيث التضامن المواطني ومن حيث التنظم والهدوء والسلمية، وأيضا من حيث العزم على تحقيق المطلب الرئيس وهو "تفكيك الوحدات" فيالمجمع الكيميائي الذي أضر بصحة الأهالي إلى حدّ تهديد حياتهم وتلويث بيئتهم.
ورغم أن اتفاقا حاصل مع الدولة منذ 2017، فإن التفكيك لم يحصل حتى الآن، وهو ما يعطي الأهالي مشروعية كاملة في تحركاتهم، وما يجعل ممثلي الدولة في وضعية "المطلوب"، فلا يملكون أن يتهموا الأهالي بافتعال قضية أو بتنفيذ مقدمات مؤامرة داخلية أو خارجية.
تحركات أهالي قابس أربكت السلطة كثيرا، فالسلطة غير قادرة منطقيا وقانونيا على إنكار مشروعية مطالب الأهالي، وهي في ذات الوقت غير قادرة على الاستجابة العاجلة لمطالب هي مستعجلة فعلا، لذلك كان الخطاب الرسمي غير مقنع وغير منسجم لا مع نفسه ولا مع طبيعة الواقع ومنطق الأشياء، بل إن عدة تصريحات ووعود بإجراءات قادمة، كانت محل تندّر جمهور واسع من نشطاء الفضاء الاجتماعي والمواقع الافتراضية، ولم تكن مطمئنة لأهالي قابس فظلت احتجاجاتهم مستمرة وقوية.
الحكم بالإعدام على شاب بسبب تدوينة كان صادما لجُلّ التونسيين، واستثار حقوقيين وقانونيين ومثقفين وطيفا واسعا من عموم الناس للتعاطف مع الشاب، ولطرح أسئلة حول العدالة وأيضا حول أحكام بعشرات السنين ضد عدد من المتهمين، دون دليل، بتهمة "التآمر" وبالفساد، وطُرحت أسئلة حول إن كانت تلك الأحكام مبالغة في استرضاء "صاحب المسار" بتطويع القانون للتنكيل بمعارضيه، أم إن كانت ثمة نية لترذيل الأداء وتعظيم المظالم لتكون "الفرحة" أعظم حين يحدث انتقال لأي سبب وبأي طريقة.
معركة الجوع التي يخوضها عدد من المساجين هذه الأيام حرّكت الساحة السياسية والجسم الحقوقي، وأنتجت حركة تضامنية واسعة مع المساجين المضربين، وهو ما دفع إدارة السجون إلى إصدار بيان للتوضيح وللتكذيب، وأيضا لمتابعة عدد من المحامين قضائيا بسبب حديثهم عن انتهاكات لحقوق السجناء وممارسة العنف ضد جوهر بن مبارك الذي يخوض إضرابا قاسيا عن الطعام.
وفي الوقت الذي كان فيه السياسيون ينتظرون تهدئة للأوضاع وربما تخفيفا من قبضة السلطة تمهيدا لحوار سياسي واجتماعي يساهم في توضيح الرؤية وفي رسم ملامح حلول للأزمة التي لا ينكرها أحد، فإن الخطاب الرسمي لم يعترف لا بوجود أخطاء ولا بتقصير، ولم يدعُ إلى حوار وطني شامل، يشارك فيه السياسيون والنقابيون والإعلاميون وعلماء التربية وعلماء الاجتماع، لا فقط لمعالجة أزمة الداخل، وإنما وأساسا لتحصين السيادة الوطنية من أي اختراق خارجي، سواء كان اختراقا ناعما أو كان اختراقا فجّا كما هو حاصل في أكثر من بلد ضمن سياسة فرض ترتيبات لا علاقة لها بمصالح الشعوب وبسيادة أوطانها.
بعض المتابعين يجدون صعوبة في تحصيل "توقّع" منطقي لما قد يكون من تحولات في المستقبل، صعوبة سببها تضارب عدة معطيات، فمن ناحية يتابعون "هجوما" في البرلمان على لسان عدد من النواب ضد أداء السلطة الحالية، ولا يستثني بعضهم قيس سعيد من الهجوم، وفي المقابل يتابعون اطمئنانا كاملا لدى وزيرة العدل التي تفاعلت بكل برود بل وباستهزاء مع ما تسميه المعارضة بـ"الحركة السجنية"، بل وتحدثت ضمن ميزانية وزارة العدل للسنة القادمة عن بناء سجون جديدة.
ارتفاع صوت عدد من النواب هل هو حالة "قفز من السفينة قبل الغرق" كما يقول بعض المتابعين؟ هل هو عملية استباق لنهاية محتومة؟ هل صدرت إشارات من جهة ما لخلخلة سلطة قيس سعيد؟ أم هو مجرد عملية تقمّص دور المعارضة داخل الموالاة للتنفيس عن كثير ممن ساءهم ما انتهى إليه المسار؟
وفي مقابل ذلك، ثمة من بين النواب من تكلم عن إعدامات وعن سجن مدى الحياة لمن يتعرض بسوء لرئيس الجمهورية.
لا وجود في السياسة لما هو تلقائي، إنما هي عملية تحريك دائم لـ"عناصر" رقعة الشطرنج، وهي عمليات إلهاء وإرجاء وإيهام، أي عمليات تدويخ سياسي يشرف عليها عادة متخصصون في علم الاجتماع السياسي وعلم النفس السياسي؛ يشتغلون على توجيه الجماهير من خلال صناعة الأوهام وتنشيط النوازع الانتظارية وتبريد عزائم الفعل وتخدير ملكات التفكير وتبديد استعدادات الفهم.
الضجيج السياسي لا يرسم طريقا ولا يوفر خلاصا ولا يحمي سيادة، والرموز الاصطناعية لن تقدر على أن تكون علامةً تاريخية تدل على حُلم كبير وترمز إلى إرادة شعبية "قاهرة"، فنيران الهشيم هي الأسرع التهابا وهي الأعجل خمودا.
وليس أخطر على القضايا الكبرى وعلى المعارك الحقيقية من الانتهازيين ومن الأدعياء، أولئك الذين يتزاحمون على المقاعد الأمامية حين يتوهمون أن وليمة توشك أن تتنزّل عليهم من عوالم لا تحتكم إلى أسباب ولا تنتج عن مقدمات.
العجز المؤقت عن توفير شروط استعادة مسار التدرّب الديمقراطي، لا يمكن أن يُبرّر لأي كان استعجال "انتقال" مُسقط سيكون سببا في إذلال دائم، دون أن نغفل قيمة أخلاقية عالية في كل خصام، مفادها أن الأقدر بين طرفي الخصام هو الأكبر مسؤولية في إيجاد الحلول وتحقيق التسويات، ومن أبطأه الصّلف عن التواضع للمصلحة عاجله القَدَرُ بسوء مآل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تونس الاحتجاجات قيس سعيد انتهاكات تونس احتجاج انتهاكات قيس سعيد قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة أفكار سياسة اقتصاد سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قیس سعید من حیث عدد من
إقرأ أيضاً:
حزب الشعب الديمقراطي: الرئيس السيسي وضع يده على مواضع الخلل واستجاب لاستغاثات المرشحين
أكد خالد فؤاد، رئيس حزب الشعب الديمقراطي، أن بيان الرئيس عبد الفتاح السيسي جاء بمثابة «مشرط الجراح» الذي وضع يده على كل ما أُثير خلال الفترة الماضية من شكاوى واستغاثات بعض المرشحين، سواء المتعلقة بقطع لافتات دعائية أو مشكلات إدارية وغيرها، موضحا أن الرئيس استجاب لجميع المواطنين والمرشحين الذين يسعون لمستقبل أفضل لمصر، موجهاً رسالة واضحة تعيد الطمأنينة للجميع.
وأضاف «فؤاد»، خلال مداخلة هاتفية عبر فضائية «إكسترا نيوز»، أن الرئيس لم يُصدر تعليمات للهيئة الوطنية للانتخابات، وإنما قدّم رؤية تستند إلى الدستور والقانون، باعتباره حكمًا بين السلطات ورئيسًا للسلطة التنفيذية، موضحا أن تكليفاته جاءت لتضع النقاط فوق الحروف مع منح الهيئة كامل الصلاحيات لاتخاذ ما تراه من إجراءات، مما يمثل ضمانة كبيرة للمرشحين في المحافظات الثلاث عشرة التي ستشهد الانتخابات خلال الأيام المقبلة.
وأضاف رئيس حزب الشعب الديمقراطي، أن هذا التوجّه ستكون له آثار سياسية مهمة، أبرزها زيادة كثافة التصويت من جانب المواطنين وتعزيز حماس المرشحين لبذل جهد أكبر للوصول إلى الناخبين، كما سيترك أثرًا اقتصاديًا إيجابيًا يتمثل في تعزيز ثقة العالم في الدولة المصرية وفي التشريعات الصادرة عن مجلس النواب والبرلمان بغرفتيه.