يس أحمد باشا، وزير الأوقاف، كان واحد من الشخصيات اللي سطروا أسماءهم بوضوح في صفحات التاريخ المصري الحديث، خصوصا لما يتعلق الأمر بخدمة الدين والمجتمع في آن واحد. 

فترة توليه وزارة الأوقاف بين يناير 1950 ونوفمبر 1950 كانت محطة مهمة ومميزة في تاريخ الوزارة، لأنها لم تكن مجرد فترة وزارية عادية، بل كانت فترة وضعت فيها أسس قوية للبناء المؤسسي، وتصدت لمحاولات الانحراف العقدي، مع تركيز جاد على توسيع الخدمات المالية والاجتماعية للمواطنين، وضبط الخطاب الديني بما يحفظه من التشويه أو التحريف.

يس أحمد باشا لم يكن مجرد مسؤول سياسي، بل كان رجلا له رؤية واضحة في إدارة الشأن الديني والاجتماعي في مصر، كان من أعضاء مجلس النواب، وشارك في اتخاذ قرارات هامة مثل الموافقة على فصل مكرم عبيد في 1943، وهو موقف يعكس حدة وجرأة تفكيره السياسي، وفهمه العميق لطبيعة المسؤولية التي يحملها تجاه وطنه، عند توليه وزارة الأوقاف، لم يكن منصبه مجرد وظيفة، بل كان مهمة وطنية تتطلب حسا رفيعا بالمسؤولية تجاه الشعب والدين معا.

أحد أبرز إنجازاته كان في الجوانب التنظيمية والإدارية، أصدر قرارات مهمة لتطوير المعاهد الدينية، وضبط شروط القبول والبقاء للبنين والبنات، بما يعكس اهتمامه بالجودة التعليمية وتطوير الكوادر الدينية من الجيل الصاعد. 

كما لم ينسى الجوانب المالية والإدارية، فضم مفتشي الحسابات والمخازن إلى التفتيش المالي والإداري، ووضع آليات صارمة لتنظيم السنة المالية، ما أعطى لوزارة الأوقاف قدرة أكبر على التخطيط ومتابعة المشروعات بدقة واحترافية. 

ولم يقتصر دوره على الإدارة، بل كان لديه حس إنساني عميق، فقد أنشأ فروعا لمؤسسة القرض الحسن في المنصورة وقنا لدعم المواطنين، وأعاد تنظيم ملفات القراء والمستخدمين والمعاشات بما يضمن حقوق الجميع ويقضي على الفوضى البيروقراطية.

وبجانب الإدارة الصارمة، كان يس أحمد باشا رجل دعوة حقيقي، لم يكن دوره مقتصرا على تنظيم الأمور المالية والإدارية، بل امتد ليشمل حماية الخطاب الديني من التشويه، ومنع انتشار العقائد الباطلة أو الأفكار الزائفة التي قد تضر المجتمع والدين معا. 

أصدر قرارات صارمة لحماية المساجد من دعاة الضلال والمشعوذين، وكان يؤكد على ضرورة الإرشاد والنصح أولا، واستدعاء الشرطة عند الضرورة للحفاظ على قدسية المساجد. 

كما لم يغفل الجانب الاجتماعي والدعوي، فقد شكل لجنة لإعانات المساجد الأهلية، وأكد على الاحتفال بالهجرة النبوية وإحياء ليالي رمضان، ما يعكس اهتمامه بربط الدين بالحياة اليومية للمواطنين، وخلق جو روحاني ووطني يدعم اللحمة المجتمعية.

يس أحمد باشا كان نموذجا للقائد الذي يجمع بين الرؤية الوطنية والدينية، بين الحزم والإنسانية، وبين التنظيم والإبداع، فترة توليه الوزارة قد تكون قصيرة، لكنها كانت مليئة بالإنجازات التي تركت أثرا واضحا على المؤسسة الدينية في مصر، وأثبتت أن الإدارة الجادة، مع الوعي العميق بالدين والمسؤولية المجتمعية، يمكن أن تحقق تغييرا ملموسا وملحوظا.

يس أحمد باشا ليس مجرد اسم في كتب التاريخ، بل هو مثال حي على كيف يمكن للقيادة المسؤولة أن تصنع فرقا حقيقيا في حياة الناس، مسيرة قصيرة لكنها ملهمة، مليئة بالإصلاحات والإجراءات التي لم تكن مجرد قوانين على الورق، بل خطوات فعلية نحو بناء مصر أفضل، مصر تحمي دينها، وتخدم شعبها، وتوازن بين الحزم والرحمة، بين النظام والتفاعل الإنساني. 

والحديث عن يس أحمد باشا يجعلنا نرى كيف يمكن للفكر الوطني والديني أن يلتقيا في شخص واحد، ليترك بصمة لا تنسى في تاريخ وطنه.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: وزارة الأوقاف الإصلاح الديني المساجد الدعوة الاجتماعية بل کان

إقرأ أيضاً:

آخر وزير أوقاف ملكي.. محمد أحمد فرج السنهوري

عندما نتأمل في تاريخ وزارة الأوقاف المصرية، وننظر في خريطة وزرائها الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الدعوة والخدمة الدينية، يقف أمامنا اسم فضيلة الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري، شخصية مميزة رغم قصر فترة توليه المنصب. 

لقد كانت فترة توليه الوزارة قصيرة جدا، لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، من الثاني إلى الثاني والعشرين من يوليو سنة 1952.م، في وزارة حسين سري باشا الخامسة، لكنها تحمل رمزية كبيرة لأنها شهدت نهاية العهد الملكي وبزوغ فجر حركة 23 يوليو، ما يجعل الشيخ السنهوري آخر وزير للأوقاف في عهد الملكية، وآخر من تولى هذا المنصب قبل ثورة يوليو بيوم واحد فقط، وهو موقع استثنائي يجمع بين الوداع وبداية التغيير.

فضيلة الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري ولد في الرابع من يناير ١٨٩١م، في قرية المندوه بمركز دسوق محافظة كفر الشيخ، ونشأ في بيئة محافظة على القيم الدينية، فحفظ القرآن الكريم في كتاب قريته، ثم انتقل لاستكمال دراسته في الجامع الدسوقي، الذي كان آنذاك يمثل منارة تعليمية، ورافدا من روافد الأزهر الشريف، يوازي في دوره ما تقوم به المعاهد في أيامنا هذه، هذه البداية العميقة في فهم الدين والعلوم الشرعية، منحت الشيخ السنهوري قاعدة صلبة، لم تلن أمام أي تحديات أو تغييرات سياسية.

بعد ذلك التحق بالأزهر الشريف، حيث واصل رحلته في الدراسة والتخصص، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي وحصل على شهادة العالمية عام 1917.م، مما أهله للانضمام إلى سلك القضاء الشرعي، وصولا إلى منصب نائب رئيس المحكمة الشرعية العليا، قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى العمل بالمحاماة بعد عام 1952.م. 

هذه المسيرة المهنية الطويلة، التي امتزج فيها العلم الشرعي بالقانون والعمل المدني، تعكس شخصية الشيخ السنهوري التي جمعت بين العمق الفكري والروح العملية، بين الحكمة والخبرة، وهو ما جعله شخصية محترمة وموثوقة على المستويين الديني والقانوني.

لم يكن الشيخ السنهوري مجرد رجل قانون أو رجل دين، بل كان أيضا مفكرا ومصلحا، شارك في عدة لجان مهمة مثل لجنة تطوير الأزهر، وتطوير الجامعات، ودائرة المعارف العربية، واللجنة المسؤولة عن التراث، وهو ما يدل على رؤيته الشاملة لأهمية العلم والمعرفة في بناء المجتمع، وليس الاقتصار على الجانب الديني فقط. 

كما قام بالتدريس في مدارس القضاء الشرعي، وتخصص بالأزهر الشريف، ومعهد الدراسات العربية، والدراسات العليا بكلية الحقوق في جامعتي القاهرة والإسكندرية، مانحا طلابه خبرته الطويلة وعمق فهمه للدين والقانون، مما جعله قدوة ومثلا يحتذى به في نشر المعرفة والوعي.

لم تتوقف مساهماته عند حدود التعليم، بل امتدت إلى العمل المؤسسي، حيث كان عضوا فاعلا في مجمع البحوث الإسلامية حتى وفاته في 14 مارس عام 1977.م عن عمر يناهز 86 عاما، مؤكدا استمراره في خدمة الدين والمجتمع حتى آخر لحظة من حياته. 

من أهم قراراته خلال فترة توليه وزارة الأوقاف، إصدار قرار بتشكيل مجلس تأديب في 20 يوليو 1952.م، وهو قرار يعكس حرصه على الالتزام بالقيم والمبادئ، ومواجهة أي تجاوزات أو إخلال بالمسؤولية، حتى في فترة قصيرة جدا من قيادته للوزارة.

إن ذكر فضيلة الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري يذكرنا بأهمية العلم، والإخلاص، والروح الوطنية التي يجب أن تتحلى بها القيادة في أي زمن. 

فرغم قصر فترة توليه الوزارة، فإن أثره كان كبيرا، لأنه جاء في لحظة فارقة من تاريخ مصر، تلك اللحظة التي كانت على أعتاب ثورة، فكان آخر صمام للأمان الديني والقيمي في عهد الملكية، واحتضن مسئولية الوزارة في وقت عصيب بكل حكمة واقتدار. 

وهذا ما يجعل سيرته مثالا حيا على كيف يمكن للعلم والضمير والوطنية أن تتجسد في شخصية واحدة، شخصية استطاعت أن تجمع بين العقلانية والروح الوطنية، بين الدين والعمل المدني، بين الماضي الذي يودعنا ومستقبل يبنى على أسس متينة من المعرفة والضمير.

فضيلة الشيخ السنهوري، برغم قصر فترة توليه الوزارة، يظل رمزا للنزاهة، والعمل الدؤوب، والخدمة الصادقة للدين والوطن، وقيمه ومبادئه ما زالت تشع في نفوس كل من يتطلع إلى خدمة مجتمعه ووطنه بروح وطنية صادقة ودفء إنساني لا ينتهي.

مقالات مشابهة

  • أحمد مظلوم باشا.. رجل صنع تاريخ مصر الحديث
  • حافظ حسن باشا.. رمز الكفاءة الوطنية والإصلاح الحقيقي
  • آخر وزير أوقاف ملكي.. محمد أحمد فرج السنهوري
  • إسماعيل رمزي باشا.. عبقري الأوقاف والإصلاح المالي
  • أحمد علي باشا.. الوزير الذي صنع بصمة مصرية خالدة
  • أحمد مدحت يكن.. باشا يعرف كيف تبنى الأوطان
  • أحمد باشا حلمي .. صانع النهضة الذى لم ننصفه
  • ميدو: فيريرا يحاول تشويه صورة الزمالك.. وهذه أسباب رحيله الحقيقية
  • وكيل تعليم نجع حمادي يشدد على تطبيق لائحة الانضباط المدرسي بمنتهى الحزم