كنا، ونحن صغار نتعثر على أعتاب المعرفة، نلتقط أسماء كالنجوم من صحف ومجلات ثقافية تصل إلى مدينتنا الريفية بمحافظة المنيا، كرسائل من عالم مواز، عالم أكثر رحابة وأشد وهجاً.

وكان من بين هذه الأسماء التي لم تنفصل في ذاكرتي عن صفة "المثقف الحقيقي"، اسم رفعت سلام كان يصل إلينا عبر مقالاته وترجماته كأنه صوت يأتي من عمق القاهرة، من ذلك القلب النابض الذي لم نره بعد، لكننا كنا نسمع دقاته في السطور التي تصلنا.

 

لقد عرفته باكراً جداً، وعرفته كما يعرف الشجر الأصيل: من جذوره الراسخة في تربة الفكر، ومن ساقه القوية التي لا تعرف الانحناء أمام رياح الموضة العابرة، ومن أوراقه التي لا تتساقط مع كل خريف، تكتسي بلون جديد من الصبر والحكمة.

كان رفعت سلام ظاهرة ثقافية فريدة في تماسكها وانعتاقها معاً لم يكن مجرد شاعر ينساب في دروب القصيدة، ولا مترجماً ينقل بين اللغات، ولا ناقداً يحلل النصوص. 

كان كل ذلك في كينونة واحدة متجانسة، مثل نهر كبير تتقاطع في مجراه روافد من المعرفة، كلها تصب في بحر الرؤية. كانت طاقته الإبداعية طاقة كونية، لا حد لها ولا سقف، لأنها لم تكن طاقة انفجار عشوائي، كانت طاقة نمو عضوي، تنضج ذاتها بنفسها، مع مرور الوقت وتراكم التجربة وهنا يكمن سر عظمته: فالاستمرارية عند المبدع الحقيقي ليست تكراراً، هي اكتشاف متجدد للذات والعالم.
شاعراً برؤية خاصة.

كان شاعراً بكل ما تحمله الكلمة من معنى لم يكن شاعراً يكتب الشعر فقط، كان شاعراً يرى بالشعر. كان ذا بصر حديدي يخترق سطح الكلمات ليصل إلى مضايق الشعر الخفية، تلك المناطق الوعرة التي تختبئ فيها أسرار الإبداع. وقد تجلت رؤيته الشعرية المتفردة في دواوينه التي شكلت علامات مضيئة في مسيرة الشعر العربي الحديث.

ديوان "إشراقات " كان بمثابة بيان شعري جديد، حيث مزج بين الصورة البصرية الحادة والإحساس الوجودي العميق. كان رفعت سلام في هذا الديوان يستكشف علاقة الذات بالكون، من خلال لغة شعرية مكثفة تخلق عالمها الخاص، بعيداً عن البلاغة التقليدية. ثم جاء "إنها تؤمي لي " ليوغل أكثر في تجربة الاغتراب الداخلي والبحث عن معنى في فوضى العالم. هنا، تحولت القصيدة إلى رحلة استكشافية داخل النفس البشرية بأوجاعها وأحلامها.

أما " هكذا قلت للهاوية "، فقد مثل نقلة نوعية في مشروعه الشعري، حيث تناول موضوع المقدس والمدنس في حياة الإنسان المعاصر، بنبرة تتراوح بين الجدية والسخرية العميقة. وكانت قصائده في هذا الديوان تشبه طقوساً يومية لإعادة اكتشاف العالم من جديد.

المترجم الذي صاغ جسراً بين الثقافات
لم يكن رفعت سلام مترجماً عادياً ينقل النصوص من لغة إلى أخرى، كان صانع جسور بين الثقافات. اختياراته للترجمة لم تكن عشوائية، كانت جزءاً من رؤيته الثقافية الشاملة. كان يختار النصوص التي تثير أسئلة وجودية وفنية تهم القارئ العربي، مع الحفاظ على روح النص الأصلي وأناقته اللغوية.

من أبرز إنجازاته في هذا المجال ترجمته لقصائد الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، التي مثلت تحدياً كبيراً بسبب خصوصية الصورة الشعرية لدى ريتسوس وارتباطها بالتاريخ اليوناني والتراجيديا الإنسانية. استطاع رفعت سلام أن ينقل هذا العالم الشعري المعقد إلى العربية بلغة شعرية مكافئة، تحافظ على غموض الصورة وعمق الدلالة.

كما كانت ترجمته لأعمال الشاعر الفرنسي بودلير علامة فارقة في تقديم تيار الحداثة الشعرية العالمية للقارئ العربي. لقد فهم رفعت سلام أن ترجمة بودلير تحتاج إلى أكثر من معرفة لغوية، تحتاج إلى فهم عميق لمشروعه الشعري الذي يجمع بين التاريخ والأسطورة واللغة. فجاءت الترجمة كعمل إبداعي مواز، يفتح آفاقاً جديدة للشعر العربي.

ولا يمكن إغفال ترجماته المهمة للأعمال الشعرية الكاملة ل (كفافيس، ورامبو)، حيث نقل ليس فقط النص، نقل روح الشعر وفلسفته. كانت ترجماته الشعرية تحمل إحساساً باللغة، وكأنه يكتب النص من جديد بلغة عربية حية تنبض على خشبة المسرح.

يرى ما وراء الكلمات
كان يرى السرد ليس كحكاية تحكى، كان يراه كنسيج من الدلالات والإشارات. وكان ينظر إلى السينما والفنون بعين الشاعر الذي يبحث عن الشعري فيها، عن ذلك الوميض الإنساني الذي يحول الصورة إلى فكرة، واللحن إلى سؤال. كان شعره ونقده وجهين لعملة واحدة: عملة الحساسية المفرطة تجاه الجمال، والوعي الحاد بمسؤولية المثقف.

ذات مرة، كنا في مهرجان الجواهري الأول الذي أقيم بمدينة أربيل بشمال العراق ، وهو أحد تلك اللقاءات الثقافية التي تشتبك فيها العقول كما تتشابك الأسياخ الحمراء في النار، وجدت نفسي في حوار معمق معه حول الشعراء في عصرنا. دار الحديث عن أصل الفعل الإبداعي: هل هو نبض فردي معزول، هل هو حصيلة تفاعل مع محيط اجتماعي وثقافي؟ وتحدثنا عن الحالة الثقافية بكل تشعباتها: حالة الفرد المبدع الذي يحمل عبء رؤيته في صحراء اللامبالاة، وحالة المؤسسة التي تترنح بين الرسمي والخاص، وحالة المجتمع الذي يتلقى الثقافة كسلعة استهلاكية في أفضل أحواله.

وفي خضم هذا النقاش، استقام أمامي رجل بحجم فكره. كان قارئاً شاسع المساحات، لا يقرأ النصوص فقط، يقرأ العالم من خلالها. كانت له رؤية واضحة، وموقف أخلاقي لا يتزحزح، وأدوات نقدية صقلها بنفسه حتى أصبحت بصمته الخاصة التي لا تخطئها العين. كان يمتلك ذلك النوع من الذكاء الذي لا يقتل الطفولة الداخلية للمبدع، يحاورها وينميها.

اليوم، وأنا أتأمل رحيل رفعت سلام الشاعر والمترجم، لا يسعني إلا أن أشعر بحزن عارم ، حزن لا علاقة لها بالألم العابر، حزن الافتقاد إلى نموذج إنساني نادر. لكنني سعيد بأنني عرفت رفعت سلام صديقاً وصحفياً ورفيقاً في رحلة التفكير. وأشعر باعتزاز عميق بتجربته الثقافية الهائلة، تلك المنحة السماوية التي تمنحنا، نحن الباقين في الساحة، الثقة والأمل.

فحينما يغيب مثل هذا العملاق بهدوء، لا يترك فراغاً خلفه، يترك إرثاً مضيئاً. إرثاً يثبت أن في مشهدنا المصري العميق، تحت ضجيج السطح وصراعاته، تبقى هناك بقية من نماذج فريدة. نماذج لا تصنعها الجامعات ولا الجوائز، يصنعها الإصرار على النقاء الفكري، والالتزام بالجمال، والإيمان بدور المثقف كحارس للضمير الجمعي. هذه النماذج هي التي تكتمل في انعتاقها، الإنسان لا يكتمل في القيود، يكتمل في انعتاقه من كل ما هو زائف وعابر. وهي التي تلهم بضوئها جيلاً كاملاً، لأن نور الحكمة الحقيقية لا ينطفئ بغياب حامله، يتحول إلى شمعة في يد كل من يبحث عن الحقيقة.

رحل رفعت سلام، بقي شاهداً. شاهداً على أن الثقافة يمكن أن تكون نقية وعميقة وجادة في زمن الاستهلاك. شاهداً على أن مصر، بترابها وتاريخها وناسها، لا تزال تنجب أولئك الذين يحملون مشاعل المعرفة، ليس ليظهروا أنفسهم، لينيروا الدرب للأجيال القادمة.

فسلام عليك أيها الصديق، وسلام على روحك التي صانت الجمال، وسلام على قلمك الذي كان دائماً نبضاً للحياة.

طباعة شارك محافظة المنيا رفعت سلام القاهرة

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: محافظة المنيا رفعت سلام القاهرة رفعت سلام

إقرأ أيضاً:

لأول مرة منذ عقود..علم الاحتلال الإسرائيلي يرتفع في سيناء المصرية

أفادت وسائل إعلام عبرية، برفع علم الاحتلال الإسرائيلي لأول مرة في قاعدة قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات بشبه جزيرة سيناء، خلال مراسم رسمية بمناسبة "يوم المحاربين القدامى". في خطوة وصفتها المصادر العبرية بـ"التاريخية"، وسط تساؤلات حول تأثيرها على التوازن الإقليمي.

وجاء الاحتفال ضمن التعاون الدولي داخل قاعدة قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات في شمال سيناء، بمشاركة جنود من الدول الأعضاء الذين ألقوا كلمات تكريمية وأحياوا ذكرى جنود الاحتلال الذين شاركوا في عمليات بالمنطقة.

ووصف الإعلام العبري رفع العلم بأنه "رمز للشراكة الدولية في حفظ السلام"، مؤكداً أن هذا الإجراء لم يحدث من قبل بهذا الشكل الرسمي بعد عقود من التوترات. وتعود قوة حفظ السلام في سيناء إلى اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، التي أنهت الصراع بين مصر والاحتلال الإسرائيلي بعد حروب 1948 و1956 و1967 و1973، وأدت إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي الكامل من سيناء عام 1982، مقابل التزام مصر بعدم نشر قوات عسكرية كبيرة في المنطقة.

وتضم قوات حفظ السلام نحو 1,200 فرد من 13 دولة، بينها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ودول أوروبية وأمريكا اللاتينية، وتشرف على تنفيذ البروتوكولات العسكرية المتعلقة بالحد من الانتشار العسكري في سيناء. ويُسمح برفع أعلام الدول غير المشاركة فقط في المناسبات الرسمية لتكريم الدول الأعضاء أو الشركاء، كما حدث في الاحتفال بيوم المحاربين القدامى الإسرائيلي.


© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

خليل اسامة

انضممت لأسرة البوابة عام 2023 حيث أعمل كمحرر مختص بتغطية الشؤون المحلية والإقليمية والدولية.

الأحدثترند لأول مرة منذ عقود..علم الاحتلال الإسرائيلي يرتفع في سيناء المصرية رئيس أركان الاحتلال يؤكد الاستعداد لحرب مفاجئة تحذير عاجل من "آبل" و"غوغل": اختراق إسرائيلي عالمي يهدد 150 دولة بينها السعودية ومصر أم تفجر عائلتها بقنبلة يدوية..خلاف عائلي ينتهي بمأساة مروعة في لبنان مصر: "فايروس ماربوغ" يثير الفزع ووزير الصحة يحسم الجدل Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • سيمون تتوَّجه برسالة سلام.. تكريم رفيع في مؤتمر «تقارب» تحت رعاية الدبلوماسية الدولية
  • اختيار شمال سيناء عاصمة للثقافة المصرية 2026
  • شمال سيناء عاصمة للثقافة المصرية 2026 والعريش تستضيف مؤتمر أدباء مصر
  • اختيار شمال سيناء عاصمة للثقافة المصرية 2026.. والعريش تستضيف مؤتمر أدباء مصر
  • لأول مرة منذ عقود..علم الاحتلال الإسرائيلي يرتفع في سيناء المصرية
  • برّاك في جلسة حوارية بمنتدى الدوحة: جميع سياسات الغرب في الشرق الأوسط كانت خاطئة منذ سايكس بيكو
  • الجمعية العامة للشركة المصرية القابضة للصوامع والتخزين تناقش الموقف التنفيذي واعتماد الميزانية
  • رئيس الوزراء اللبناني: حزب الله وافق على اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي يحصر السلاح بيد قوات الدولة
  • عاصفة هائلة تبتلع صحراء تانامي.. سماء أستراليا تتحول إلى كتلة من الغبار