يشهد الملف السوري منعطفا حاسما بعد تصويت الكونغرس الأمريكي على مشروع "قانون تفويض الدفاع الوطني" لعام 2026، الذي تضمن إلغاء "قانون قيصر" للمرة الأولى منذ دخوله حيز التنفيذ قبل أكثر من خمس سنوات. 

فقد شكل هذا القانون، منذ اعتماده في كانون الأول/ديسمبر 2019 بعيد تسريب صور التعذيب التي وثقها المصور المعروف بـ"قيصر"، أحد أعنف أدوات الضغط على سوريا، بعد أن طوق اقتصادها بسلسلة عقوبات معقدة عطلت قدرتها على الحركة وشلت إمكاناتها الإنتاجية، وارتدت على السوريين بأثمان اجتماعية وإنسانية قاسية.

 

واليوم يتخذ الإلغاء دلالات سياسية مضاعفة، ليس فقط لأنه يقترن بجهود إقليمية ودولية واسعة، بل لأنه يأتي في ولاية ترامب الثانية بقناعة مغايرة تماما لتلك التي وقع القانون على أساسها، وبهدف معلن هو إتاحة الفرصة أمام سوريا للانتقال من إرث الحرب إلى مسار إعادة البناء، خاصة بعد سقوط نظام الأسد ودخول الثوار إلى دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2024.

الإلغاء لم يأت بصفته تشريعا مستقلا، بل جرى تضمينه داخل حزمة تشريعية كبرى هي "قانون تفويض الدفاع الوطني"، وهي حزمة تعد من القوانين الملزمة التي يحرص الكونغرس على تمريرها لربطها بتمويل وزارة الدفاع. 

ولهذا، اكتسب بند الإلغاء قوة دفع واسعة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء. كما جاء تزامنا مع جهود عربية قادتها السعودية وتركيا وقطر ومع ضغط من الجالية السورية في الولايات المتحدة، والتوجه السياسي الصريح من الرئيس ترامب نحو رفع القيود كاملة ودون شروط، بهدف فتح الباب أمام الشركات الأمريكية والدولية للاستثمار في سوريا بلا خوف من عودة العقوبات.

عرض هذا المنشور على Instagram ‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎Arabi21 - عربي21‎‏ (@‏‎arabi21news‎‏)‎‏
رفع العقوبات الثانوية
ولا تكمن الأهمية الاستثنائية للإلغاء فقط في إنهاء العقوبات الأولية، بل في رفع طيف العقوبات الثانوية التي كانت تطال أي جهة تتعامل مع دمشق أو مع حلفائها، خصوصا روسيا وإيران. 

كانت هذه العقوبات السبب الرئيسي في شلل قطاعات واسعة من الاقتصاد السوري ومنع أي تمويل خارجي لمشاريع إعادة الإعمار، وفي إبقاء سوريا خارج النظام المالي العالمي. 

ومع الإلغاء، يصبح المجال مفتوحا لعودة التدفقات المالية، وإطلاق مشاريع إعادة البناء، وتأهيل البنية التحتية، وتمكين القطاع الإنتاجي من إعادة التشغيل، وهو ما سيترك أثرا مباشرا على حياة السوريين الذين يعيش أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر، بينما يعاني 12.9 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، وفق تقديرات أممية حديثة.

رغم أن الإلغاء جاء كاملا، إلا أن النص التشريعي احتفظ بطلبات غير ملزمة، تتعلق بتقارير دورية ترفع إلى الكونغرس، تتناول تقييم أداء الحكومة السورية في ملفات مثل مكافحة "تنظيم الدولة"، والامتناع عن أي نشاط عسكري ضد دول الجوار، واحترام حقوق الأقليات، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن المواقع العليا في مؤسسات الدولة، وتنفيذ اتفاق 10 آذار/مارس الماضي الموقع بين الرئيس أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، إلى جانب اتخاذ تدابير فعالة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتهريب المخدرات، وملاحقة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. 

وتظل هذه الطلبات ضمن إطار التوصيات، ولا تنطوي على أي شرط يعيد تفعيل العقوبات تلقائيا، إذ تقتصر صلاحية الرئيس على إعادة فرض عقوبات محدودة على أفراد بعينهم، وفي حال جاءت تقارير سلبية متتالية.

عرض هذا المنشور على Instagram ‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎Arabi21 - عربي21‎‏ (@‏‎arabi21news‎‏)‎‏



تفاعل شعبي واسع
وكان الاحتفال الشعبي في المدن السورية عند الإعلان عن تصويت الكونغرس تعبيرا عن حجم التطلع إلى كسر الطوق الذي خنق البلاد لسنوات طويلة. 

ودفعت الأزمة الاقتصادية التي ورثتها البلاد عن نظام الأسد البائد، وعمقتها العقوبات، ملايين السوريين إلى تخطي حدود البقاء المعيشي، ودفعت الشباب والنساء إلى أعلى معدلات بطالة منذ عقود.

وأجبرت أكثر من 7 ملايين شخص على النزوح داخل البلاد، بينهم 1.5 مليون يعيشون في مخيمات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. ولذلك يرى قطاع واسع من السوريين في رفع العقوبات بداية فرصة حقيقية لالتقاط الأنفاس، وليس مجرد خطوة سياسية عابرة.

وتصطدم ورش إعادة الإعمار المنتظرة بتحديات كبيرة لا يمكن تجاهلها. فالنهوض الاقتصادي يتطلب بيئة قانونية شفافة وقضاء مستقل يطمئن المستثمرين، ويحتاج إلى تخطيط اقتصادي سليم يوازن بين الاستقرار والانفتاح، وإلى إصلاح شامل في الإدارة المالية والقطاع المصرفي والنظام الضريبي والجمارك. 

وإلى جانب ذلك، يتطلب الأمر معالجة الترهل الكبير في الجهاز الإداري، الذي تراكم على مدى عقود طويلة، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتكون قادرة على إدارة عملية إعادة الإعمار. هذه المهمة تزداد صعوبة عندما نضع في الاعتبار تقديرات البنك الدولي، الذي يرى أن سوريا تحتاج إلى نحو 345 مليار دولار لإعادة البناء، منها 141 مليار دولار لإصلاح المؤسسات الحكومية وحدها.


تحديات سياسية وأمنية موازية

وتبرز تحديات سياسية وأمنية إضافية، يتصدرها استمرار وجود مناطق خارج سيطرة الدولة، مثل الجزيرة السورية والسويداء، ما يجعل إعادة الإعمار رهينة تفاهمات أوسع بين القوى المسيطرة على الأرض.

كما يشكل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وتوغلاتها عاملا إضافيا يعقد مشهد الاستقرار، ويضغط على قدرة سوريا على جذب الاستثمارات الأجنبية التي تحتاج إلى بيئة آمنة ومضمونة.

ورغم كل ما سبق من تحديات، فإن رفع "قانون قيصر" يظل أهم نافذة أمل تفتح أمام السوريين منذ سنوات طويلة. فهو يضع البلاد على عتبة العودة إلى النظام المالي العالمي، ويمنح الاقتصاد السوري فرصة لبدء التعافي، ويدفع بالمستثمرين إلى إعادة النظر في السوق السورية، ويعيد رسم العلاقات الإقليمية والدولية على أسس جديدة. 

وقد بدأت المؤشرات الأولى بالظهور حين أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في 10 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي تعليق العقوبات لمدة 180 يوما، تمهيدا للإلغاء الكامل.

لا يعني إنهاء القانون الذي كان أحد أعمدة العزلة الاقتصادية والسياسية المفروضة على سوريا، حل جميع المشاكل، لكنه يمثل نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة، تنتقل فيها البلاد من زمن العقوبات والشلل إلى زمن الفرص وإعادة البناء. 

ويبقى السؤال الأهم هو قدرة الحكومة السورية الجديدة على تحويل هذه الفرصة إلى واقع ملموس ينعكس على حياة السوريين، الذين طال انتظارهم لالتقاط أنفاسهم بعد سنوات من الحرب والدمار والجوع.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية الكونغرس قيصر سوريا عقوبات سوريا عقوبات الكونغرس قيصر المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إعادة الإعمار إعادة البناء

إقرأ أيضاً:

هل تنجح سوريا في تنفيذ اشتراطات إلغاء قانون قيصر؟

تنفس السوريون الصعداء بعد تصويت مجلس النواب الأميركي على إلغاء "قانون قيصر" ورفع العقوبات المفروضة على بلادهم، لكن الخطوات المنتظرة منهم تجعلهم أمام تحديات عديدة، كما أوضح محللون لبرنامج "ما وراء الخبر" ضمن حلقة (2025/12/11).

ورحبت سوريا على لسان وزير خارجيتها أسعد الشيباني بالخطوة الأميركية، حيث وصفها بـ"الإنجاز التاريخي والانتصار للحق، ولصمود الشعب السوري"، واعتبر أن إلغاء القانون يعكس إدراكا متزايدا لأهمية دعم سوريا في مرحلتها الحالية.

وينص مشروع القانون على أن إلغاء العقوبات يخضع لشروط معينة تتم مراجعتها كل فترة ومنها، أنه يجب على سوريا أن تحترم حقوق الأقليات، وأن تثبت أنها تتخذ خطوات ملموسة في مكافحة التنظيمات الإرهابية، وأن تمتنع عن العمل العسكري الأحادي الجانب ضد دول الجوار.

بيد أن الاشتراطات الأميركية لإلغاء "قانون قيصر" في نظر الكاتب والباحث السياسي حسن الدغيم، لا تتناقض مع المصلحة الوطنية السورية، باعتبار أن سوريا لها مثلا خبرة في مكافحة الإرهاب وترى أن التهديد الإرهابي يقوض أمنها واستقرارها، كما أن من مصلحتها جلب الاستثمارات ورؤوس الأموال.

وعن الخطوات التي يتعين على الحكومة اتخاذها، يعتقد الدغيم -في حديثه لبرنامج "ما وراء الخبر- أن الحكومة حققت إنجازات داخلية ونجاحات في تعاملها مع الخارج، مشيرا إلى أنه لا توجد معارضة، بل هي مجرد "أصوات ومطالبات"، وأن الخطوات التي تتخذها يجب أن تكون على أرضية صلبة، لأن وحدة البلد -حسبه- لا تزال مهددة.

أولى الخطوات

وفي المقابل، يعتقد مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة في واشنطن، محمد العبد الله، أن على الدولة السورية أن تقوم بخطوات أولى في سبيل تنفيذ اشتراطات إلغاء "قانون قيصر"، منها مساعدة المستثمرين للقدوم إلى سوريا عبر تقديم قوانين مساعدة للاستثمار مثل قوانين الشفافية المالية ومكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي من البنود الواردة في اشتراطات رفع "قانون قيصر".

إعلان

ومن الناحية السياسية، يتعين على الحكومة السورية -يضيف العبد الله- أن تعمل على تنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار بين الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية عبر تمثيل فعلي.

وبينما وصف رفع العقوبات عن سوريا بأنه ممتاز وسيريح الشعب والاقتصاد، انتقد العبد الله ما وصفها ببعض الإجراءات الحكومية مثل التعيينات الاقتصادية وتركيز السلطة بيد مجموعات ضيقة.

ويعتبر الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات الدكتور لقاء مكي أن الاشتراطات الأميركية لإلغاء "قانون قيصر" معظمها سياسية وليست تقنية اقتصادية، ولكنّ المهم فيها هو رفع العقوبات عن سوريا، ما سيؤدي إلى ضخ الأموال والاستثمارات في هذا البلد وخاصة من طرف دول الخليج، وستكون سوريا خلال الفترة المقبلة أكثر حرية على الصعيد الداخلي.

ويرى مكي أن النظام السوري سيكون حريصا على المضي قدما في تحقيق النتائج المنتظرة منه، لأنه على المستوى الداخلي يدرك أنه تحت المراقبة الشعبية.

ويذكر أنه بعد تصويت مجلس النواب الأميركي على إلغاء "قانون قيصر"، سيتم إرساله إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليه الأسبوع المقبل على أن يُرسل لاحقا إلى الرئيس دونالد ترامب لتوقيعه.

وفي 11 ديسمبر/كانون الأول 2019، أقر الكونغرس الأميركي "قانون قيصر" لمعاقبة أركان نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد على جرائم حرب ارتكبها بحق المدنيين في سوريا.

ومن شأن إلغاء القانون أن يمهد الطريق لعودة الاستثمارات والمساعدات الأجنبية لدعم الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع التي تأسست في مارس/آذار 2025.

مقالات مشابهة

  • هل تنجح سوريا في تنفيذ اشتراطات إلغاء قانون قيصر؟
  • ما تداعيات التصويت الأميركي على إلغاء قانون قيصر ورفع العقوبات عن سوريا؟
  • إلغاء قانون قيصر على سوريا.. خطوة مفصلية نحو التعافي الاقتصادي والإعمار
  • وزير الاقتصاد السوري: إلغاء قانون قيصر يزيل أكبر العوائق أمام اقتصادنا
  • إلغاء قانون قيصر.. توقيع ترامب ينهي سنوات من خنق الاقتصاد السوري ليبدأ التعافي
  • مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية لصالح إلغاء قانون قيصر ورفع العقوبات عن سوريا
  • الكونغرس يمهّد لإنهاء حقبة قانون قيصر… خطوة أمريكية جديدة نحو إعادة تشكيل العلاقة مع سوريا
  • مدير الشبكة السورية: عودة معظم اللاجئين بعد إعادة الإعمار ورفع قانون قيصر
  • الكونغرس الأمريكي يبدأ خطوات إلغاء العقوبات عن سوريا