لجريدة عمان:
2025-05-15@19:08:52 GMT

في سبيل تفريق القطيع

تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT

3 أبريل 2021م.. غردت في تويتر قائلا: (لولا الانسياق الجماعي «القطيع»: لما قامت حضارات، ولما استقرت دول، ولما هيمنت معتقدات، ولما ربحت تجارات، ولما سادت فلسفات). وبخلاف تصور الكثيرين بأن ظاهرة القطيع هي غياب للعقل أو تصرف بلا وعي، فإنها تعني أن هناك عقلا يعمل هو عقل الجماعة، يظهر في تصرفات الأفراد خلال التحامهم بها.

. فما هذه الظاهرة؟ وما سببها؟

دراسات كثيرة.. حاولت الإجابة على هذا السؤال، أشهرها كتاب «سيكولوجية الجماهير» للفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م)، وقد أبان فيه أن سلوك الإنسان في القضية الواحدة مع الجماعة يختلف عن سلوكه فردًا، فلو حدثت حادثة في المجتمع فإن الفرد ينظر إليها نظرة مختلفة عن نظرته وهو عضو في جماعة، حيث سيكون غالبًا موقفه مندفعًا معها، تحترق كل الحجج التي كان يبديها منفردًا في لهيب حماسة هذه الجماعة، وإن انفصل عنها فقد يعود لرؤيته الفردية مرة أخرى. يرى لوبون وهو فيلسوف اجتماعي وعالم نفس بأن الإنسان في سياق الجماعة تحكمه سيكولوجية لا تنبع من التصورات العقلية الفردية، وإنما تعصف به عاطفة الجماعة، ففي الجماعة يعلو صفير العاطفة، وفي الانفراد يتردد صدى الحجة.

«القطيع».. مصطلح انتشر بين الناس، تشبيها بحالة الحيوانات التي تنساق وراء بعضها دون تفكير. إن الحيوان.. عبارة عن خارطة جينية تملي عليه سلوكه، وعبر الوارثة ينتقل هذا السلوك، فنراه متكررا في أجيال الحيوان. يجتمع ذكر الطير بأنثاه فيبنيان عشا، ثم يتزاوجان فيضعان بيضهما فيه، ويرعيانه حتى يفقس، ثم يجلبان الغذاء لصيصانهما، إلى أن تتمكن من الطيران، فتأخذ طريقها لتعيد ذات السلوك الذي سار عليه والداها؛ كبعض الأمراض التي يرثها الأبناء عن آبائهم. وقد تطوّر العلم والطب؛ فتمكن علماء الهندسة الوراثية من قراءة الخارطة الجينية، وبدأوا يقرأون سلوك الحيوان بفك الشيفرة الوراثية، كما عرفوا كذلك العديد من الأمراض، وهو ما يجعل طريق الطب مشرقًا أمام البشر.

الخارطة الجينية ذاتها.. التي رُسم بريشتها الحيوان كُتب بقلمها الإنسان، لأنه «حيوان ناطق» كما يقول الفلاسفة، وما يميزه في مسير حياته الطويل أنه أصبح يتمتع بالإدراك والوعي. وبالعقل.. أقتدر أن يبني حياته بأساليب من العمران لم تتمكن منها الحيوانات، ولا يزال العلماء والفلاسفة في نزاع عريض وجدل عميق في تحديد سبب هذا الوعي والقدرة على التعقل، والذي عندي.. أن سببه الروح؛ وهو «النفخة» التي غرسها الله في الإنسان، وقد تحدثت عنها في أكثر من موضع، [انظر مثلا: مقالي «الفراغ الروحي.. مراجعات في المفهوم»، جريدة «عمان»، 21/ 6/ 2021م]، ومما قلته فيه: (في الإنسان.. روح نفخه الله فيه، جعله متعلقًا بخالقه، وأوجد الوعي لديه بطبيعة وجوده في الحياة، كما أوجد فيه الضمير الأخلاقي).

القطيع.. غالبًا ما يتحدث عنه الناس بوصفه أمرًا سلبيًا، وهذا صحيح؛ عندما يتعلق الأمر بالتغيير الاجتماعي نحو الأفضل، فالمعارضة.. تشكل جدارًا صلبًا يقف حائلًا عن التغيير، وفي الوقت ذاته؛ قد يثور الناس لإحداث تحولات غير مدرِكة للمآل كما حدث في الربيع العربي. لكن علينا أن ننظر إلى هذه الظاهرة بأنها طبع في النفس، من خلال اشتغال الخارطة الجينية الحيوانية المشتركة. فالجينات البشرية.. تستنسخ نفسها، والتشابه ليس حاصلًا في تعاقب الأجيال وحده، وإنما كذلك في الأفراد، بمعنى؛ أن الفرد الذي يظهر لنا بأنه قادر على أن يتخذ موقفًا واعيًا وإن خالف الجماعة، فبوجوده فيها يندمج معها وتعمل لديه «جينات الجماعة»، وعلى هذا بُني الاجتماع البشري، فهو يقلد بعضه بعضًا.

إن الانتباه لظاهرة القطيع ليس حديثًا؛ نتاج علم النفس أو علم الاجتماع، بل هي معروفة منذ آماد غابرة، والناس الآن لا يكادون يخرجون عمّا عرفه السابقون، إلا بكثرة توصيف مظاهرها والحديث عنها. وما البيروقراطية إلا أثر من آثار هذه الظاهرة، وهي جِبلّة في الناس قبل أن تكون نظامًا حديثًا، ولنتصور مدى الفوضى التي تتحكم بالبشر لولا أنهم ينساقون إلى التقليد، وعلى ذلك؛ فلا غَرْوَ أن يتحكم «روح القطيع» في معظم البشر حتى تستقيم حياتهم.

و«جينات القطيع».. هي التي أورثتنا نحن البشر: الدين واللغة والآدب والأسطورة، وهذا ما يفسر بقاء هذه الأنظمة منذ الأزل، ولا زالت قادرة على رفد الاجتماع البشري بما يحتاجه من تغذية للنفس وإعمار للحياة.

ظاهرة القطيع مع أهميتها أدت إلى أمرين سلبيين:

- الصراع بين الجماعات البشرية.. فقد تحولت ظاهرة القطيع إلى معتقدات دينية، أو عصبية عنصرية، فكل جماعة تعتبر تقليدها الجماعي هو الحق، وفيه الخير للناس، وما عداه ضلال وخطر على البشر.

- بطء التطور في المجتمعات.. التي تهيمن عليها هذه الظاهرة، وبالتالي تجد نفسها في آخر قطار المدنية، مهما كانت حضارتها السابقة متقدمة.

ولأجل التخفيف من وطأة هذين الأمرين لا بد من «تفريق القطيع»، والمقصود به فسح المجال للإبداع الفردي أن يظهر، فإذا كان التقليد هو ما يتحكم في مفاصل الجماعة إلى درجة أن العقل الفردي يذوب فيها، فإن الإبداع هو أن يثبت هذا العقل قوته وحضوره أثناء التحام الجماعة بعقلها الجمعي، العقل الفردي المبدع.. هو وحده القادر على تفريق القطيع، فهو لا يستعمل العنف كما تفعل السياسة فتقمعه؛ حتى تحافظ على وضعها القائم، وإنما يفكك الأنظمة القديمة التي اصطفت جيناتها في الجماعة التي تثور حميتها لأجل ما اعتادت عليه، ثم يعمل على بناء نظام جديد يتجه بالمجتمع نحو الأمام.

وهذا ما نجده في حركة النبوات، حيث يأتي النبي بمنظومة دينية لنقض المنظومات القديمة، فالإسلام.. قوّض المنظومات الدينية القائمة في زمانه، التي باتت نظامًا جمعيًا عقائده فاترة؛ ينتصر لها الناس انسياقًا دون تفكير في مقاصد الدين. فجاء النبي محمد بالتوحيد؛ الحي في النفوس والمتفاعل مع الحياة، قبل أن يفقد كثيرًا من فاعليته على يد العقل الجمعي بمرور الزمن. فالأنبياء الكرام.. هم أحكم الناس الذين عملوا على تفريق القطيع لبناء نظام صالح لمجتمعاتهم.

وفي القرآن.. تمييز واضح بين الوعي الفردي والانسياق الجماعي، فالله.. يحمّل الفرد مسؤولية اتخاذ قراره: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة) [المدثر:38]، (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164]، وفي الدعوة للتفكر يقول الله: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [سبأ:46]، ويقول ذامًا الانسياق الجماعي: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت:63]، و(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف:23].

العلم.. بحركته المستمرة، سواءً في اكتشافاته أو اختراعاته أو مناهجه، عمل كذلك على تفريق القطيع، وهو يعمل ببطء لكن مفعوله قوي ودائم. والعلم.. ارتباطه وثيق بحركة الحياة وتحولاتها، فمدده لا ينقطع، يجدد مناهجه ومعارفه باستمرار، وهذا لا يعني أنه نفذ تمامًا من هيمنة ظاهرة القطيع، فكثيرًا ما تتشكل للمناهج قدسيتها التي تصبح من الصعب مخالفتها فضلًا عن التجديد فيها. والفلسفة.. كذلك لها قدرة نافذة في طرح الأفكار التي تؤدي إلى تغيير الناس لرؤيتهم في الحياة، وتتميز الفلسفة عن العلم بأنها تخوض معترك الجدل مع الناس في أفكارهم، منتصرة للرؤية الفردية.

عصرنا الرقمي.. الذي يبدو للوهلة الأولى أنه يُذكي من ظاهرة القطيع؛ هو في الواقع أحدّ مُدية لفري أديمها. وهذا الواقع سيترك فراغًا في الاجتماع البشري على مختلف الأصعدة، إن لم يتمكن الفلاسفة والمفكرون من تقديم رؤية جديدة للحياة يملؤونه بها، والخشية من أن يُملأ هذا الفراغ بالجريمة القاتلة للفرد والمدمرة للمجتمع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه الظاهرة

إقرأ أيضاً:

مفتي القاعدة السابق يروي قصة إعدام الجهاد شابين عملا جاسوسين

ووفقا لما قاله ولد الوالد في برنامج "مع تيسير"، فقد حظيت الجماعات الجهادية في السودان بمكانة ملحوظة وتركزت في العاصمة الخرطوم، مما جعلها صيدا ثمينا لأجهزة الاستخبارات التي كانت تعمل على تتبع أعضائها.

ولم يكن من الصعب الوصول إلى المجاهدين في السودان لأنهم كانوا يسكنون أحياء راقية ويتميزون ببشرتهم المختلفة عن بشرة السودانيين، فضلا عن أنهم كانوا يتحركون بأريحية ويعملون في العديد من الشركات المعروفة.

ولعبت السفارة المصرية في الخرطوم دور البطولة في تتبع هذه الجماعات وخصوصا التابعين لجماعة الجهاد المصرية التي قال ولد الوالد إنها كانت تعيش صداما كبيرا ومكشوفا مع حكومة بلدها في ذلك الوقت.

ونجحت السفارة -وفق المتحدث- في التواصل مع اثنين من أبناء المجاهدين، كان أحدهما ابن المسؤول الشرعي في جماعة الجهاد، والآخر كان ابن محاسب في شركة "وادي العقيق" المملوكة لمؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

وحسب المفتي السابق للقاعدة، فقد استدرجت السفارة هذين الولدين، وكانا في سن صغيرة جدا، لأحد البيوت التابعة للأمن المصري، وخدرتهما وصورتهما في أوضاع مخلة ثم هددتهما بنشر الفيديو ما لم يتعاونا معها.

تحصيل سيل من المعلومات

وعن طريق هذين الولدين، تعرفت السفارة على مقر قيادة جماعة الجهاد في الخرطوم والتي كانت تحت قيادة الدكتور أيمن الظواهري في ذلك الوقت، فاستأجرت السفارة البيت المقابل للمقر ونصبت كاميرا لتصوير كل من يدخل أو يخرج من وإلى هذا المقر، كما يقول ولد الوالد.

إعلان

ومن خلال هذه الصور، كانت تتعرف من الولدين على هؤية الشخصيات التي تتردد على المقر، وكل ما أمكن من تفاصيل عنهم خصوصا وأن والد أحدهما كان مسؤول الوثائق في الجماعة، ومن ثم فقد كان عنده الكثير من المعلومات الشخصية للمجاهدين.

ووصل الأمر إلى قيام هذين الولدين بسرقة بعض الوثائق وصور الجوازات المزورة للمجاهدين، كما تمكنت السفارة من التواصل مع مصور الجماعة وحصلت منه على الكثير من الصور التي تعرفت منها على شخصيات أصحابها.

وبناء على هذا الأمر، حصلت السفارة على كم كبير من المعلومات الخاصة بالمجاهدين وأولادهم ونسائهم، واعتقلت بعضهم، ووصل الأمر إلى تكليف أحد الولدين بوضع حقيبة مفخخة في مقر الجماعة.

كشف الشابين وإعدامهما

وفي هذه الفترة، كان الأمن السوداني يتابع حركة الدبلوماسيين المصريين بسبب الخلاف بين نظامي البلدين في ذلك الوقت، حتى تم رصد ابن المسؤول الشرعي بجماعة الجهاد أكثر من مرة وهو يركب أحد سيارات السفارة المصرية.

وسارع الأمن السوداني لإبلاغ الجماعة بهذا الأمر، فسارعت الأخيرة بالتحقيق مع الولدَين بسرعة واستخدمت ضدهما كل الوسائل الممكنة لمعرفة ما حدث بالضبط، وقد صدمت بحجم المعلومات التي قاما بتوصيلها للمصريين.

كما صُعقت الجماعة عندما عرفت أنهما على بعد خطوة واحدة من عملية تفجير مقر الجماعة لاغتيال قادة التنظيم كلهم في ضربة واحدة، مما دفعها لمحاكمة الولديْن، وصدر بحقهما حكم بالإعلام نفذته بشكل فوري.

وقال الوالد إن ذوي هذين الولدين والمسؤولين في تنظيم القاعدة صعقوا بمسألة إصدار الحكم وتنفيذه بهذه السرعة لدرجة أن أحد الولدين لم يكن يعرف بالأمر إلا عندما أبلغه والد الآخر بما جرى في حضور ولد الوالد.

سخط كبير

وأثارت هذه الخطوة سخطا كبيرا لدى عائلتي الولدين اللتين ذهبتا إلى أسامة بن لادن وأخبروه بقتل ولديْهما، فكلف ولد الوالد بمقابلة أيمن الظواهري وتحري حقيقة ما جرى منه.

إعلان

وعندما ذهب ولد الوالد للظواهري، كان رد الأخير أن الولديْن ليسا أطفالا وإنما شباب، وقد مارسا اللواط وتعاملا مع الأمن المصري وكانا على وشك إلحاق ضرر كبير بالتنظيم من خلال تفجير مقر قيادته، وأكد أنهما حوكما محاكمة عادلة.

لكن ابن لادن لم يقتنع بهذا الأمر، وأكد ضرورة ترضية ذوي الولدين حتى لا يحدث صدام مع الحكومة السودانية التي قامت جماعة الجهاد بعملها دون عملها، وقد كانت هذه الواقعة -وفق ولد الوالد- أحد أهم أسباب خروج الجماعات الجهادية من السودان.

والتقى والد أحد الولدين فكان رده أنه كان سيرضى بحكم الشرع لو أن ابنه حوكم محاكمة شرعية عادلة، مؤكدا أن ما جرى هو أنه سلم ابنه لمجموعة من القتلة نفدت فيه حكما غير عادل.

وبالفعل، كلَّف ابن لادن ولد الوالد بحل هذا الخلاف بطريقة شرعية، لكنه رفض وقرر الاستعانة بأحد قضاة السودان الشرعيين المشهود لهم بالعدل، غير أن جماعة الجهاد رفضت المثول أمام الرجل، وهرّبوا الرجل الذي أصدر حكم الإعدام على الولدين إلى الخارج.

وانتقد ولد الوالد هذه العملية، قائلا إن جماعة الجهاد كانت هي الخصم والحكم في هذه القضية وكلفت شخصا لا يملك القدر الكافي من العلم بالحكم في القضية وتجاهلت أنه نفسه كان من بين المستهدفين بالقتل بما يعني أنه طرف أصيل في المشكل.

ورغم تملص الجهاد من تسوية هذا الخلاف، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد خصوصا وأن الأمن السوداني هو من أبلغ الجماعة بأمر هذين الولدين، ولم يكن يتصور إقدام مجموعة من المطاردين بإعدام الناس نيابة عن الدولة.

13/5/2025

مقالات مشابهة

  • عون بحث مع السفير الزعبي دور الجماعة الكاريبية في دعم لبنان دولياً
  • الجماعة الإسلامية تدعم لائحة بلدية مستقلة في صيدا
  • ترامب: «غزة أرض للموت والدمار ونعمل بجد من أجلها»
  • علي صدر الدين البيانوني يروي شهادته.. من سجون الأسد إلى مفاوضات الطليعة
  • مهنيون يشيدون بالقرار الملكي بإسناد دعم تكوين القطيع الوطني إلى الداخلية
  • طارق حجي: ذُهلت عندما فاز مرسي في الانتخابات
  • هل صلاة الرجل بزوجته في البيت لها ثواب الجماعة؟ الإفتاء تجيب
  • مفتي القاعدة السابق يروي قصة إعدام الجهاد شابين عملا جاسوسين
  • الملك يوكل عملية دعم تكوين القطيع الوطني إلى السلطات المحلية
  • هل تأخير الصلاة بسبب ظروف العمل يستوجب كفارة؟.. دار الإفتاء توضح