د. عبد المنعم سعيد يكتب: الإصلاح هو الحل؟!.. التجربة الغربية فى نهاية القرن الـ18 تلقى لنا دروسًا تفيد فى القرن الـ21
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
تاريخيًا إن استخدام الإخوان المسلمون لشعار «الإسلام» هو الحل ظهر بقوة فى ساحة السياسة والإعلام السياسى داخل الدول العربية والإسلامية وجرى بقوة اعتبارا من السبعينيات فى القرن الماضى. ومن الجائز أن للشعار جذوره القديمة السابقة على ذلك.
ولكن هزيمة يونيو ١٩٦٧ من إسرائيل، مع تواضع الناتج الاقتصادى والاجتماعى لثورات الخمسينيات العربية أعطى فرصة غير قليلة لظهور هذا الشعار كما لو كان يحبذ حلولًا لأزمات مستعصية قائمة فى الوقت الذى كانت فيه الجماعة قد وضعت القواعد الفكرية ليس للحل وإنما لإجهاض كل الحلول العربية من خلال توجهات عنيفة وإرهابية.
وتاريخيًا أيضًا فإن الإصلاح كان هو الحل فى مواجهة العصور الوسطى الأوروبية التى عششت فيها ظلمات الكنيسة والاحتراب المذهبى. ظهور مارتن لوثر وجون كالفين خلال القرن السادس عشر مثل هزة كبيرة للمؤسسة الدينية الأكبر فى أوروبا، وإنما فتح الأبواب بعد ذلك لنمو أفكار أخرى تخص العلم والمجتمع.
كان الإصلاح الدينى مواكبا لبدايات ظهور «العقل» كعنصر حاكم فى التطور البشرى، ومن بعده تراكمت الاكتشافات العلمية الأولى التى حددت مكانة الأرض بين الكواكب، والبشر بين المخلوقات ولم يكن لكل ذلك أن يؤدى إلى تغييرات كبيرة من خلال ثورات كبرى إلا من افتتاحية تقدم ترجمة جديدة لعلاقة الإنسان بخالقه.
وفى الحقيقة فإن الخروج من العصور الوسطى كان صعبًا وفيه اختلطت كلمتى «الثورة» والإصلاح» متناقضتين بحكم ما هو معروف عن الأولى من مترادفات «شعبية» و«راديكالية» و«جذرية» وأحيانا «عنيفة» تسيل فيها الدماء وأحيانا بغزارة؛ والثانية «نخبوية» و«تدريجية» لا تعترف لا بحرق المراحل، ولا بالسير فى قفزات كبيرة.
ولكن التجربة التاريخية كثيرًا ما ترشد إلى أن العلاقة بين المفهومين قائمة فى أن كلاهما معنى بالتغيير، ورفض الأمر الواقع القائم على الجمود أو الذى تعدته حكمة الزمن. التجربة الغربية فى نهاية القرن الثامن عشر تلقى لنا بكثير من الدروس التى تفيد فى القرن الواحد والعشرين.
فى نهاية القرن الأول كانت الثورة الأمريكية قد نشبت وانتهت إلى الإطاحة بالمستعمر البريطانى بعد حرب دامية وقيام الولايات المتحدة الأمريكية؛ وكذلك نشبت الثورة الفرنسية التى كانت أكثر راديكالية وأطاحت بالملكية وتلتها الحروب النابليونية التى نشرت الثورة والحرب والعنف فى القارة الأوروبية.
وسواء كان الأمر واقعًا فى شمال أمريكا أم أوروبا فإنه رغم الرغبة العارمة فى التغيير الكبير، فقد كان هناك قلقًا عميقًا من النتائج التى أدى إليها، وما تركه من ارتجاج فى المجتمعات، وضغوط على العلاقات السياسية بين الدول.
فى الولايات المتحدة ورغم المكانة التى شغلها «جون آدامز"– الرئيس الثانى للولايات المتحدة– وبعد أن فشل فى رفع «العبودية» من الدستور الأمريكى، فإنه لم يجد غضاضة فى إصدار قانون «الغربة والفتنة» الذى يمنع الثوار الفرنسيين من دخول أمريكا، ويعتقل من والاهم بالفكر أو بالفعل. وفى أوروبا وبعد هزيمة «نابليون» فى ١٨١٥، اجتمعت أربعة من القوى المحافظة فى أوروبا – بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا– وانضمت لهم فرنسا فيما بعد لكى يضعوا نظاما أوروبيا – وعالميا فى الواقع– استمر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى (هنرى كيسنجر خلد هذا التجمع فى كتاب شهير تحت عنوان «استرداد العالم أو A World Restored».
الفكرة الأساسية التى اتفقت عليها الأطراف الخمسة لم تكن فقط معادية ومعارضة للثورة، وإنما كانت فى جوهرها تقوم على حتمية الإصلاح. كان الإصلاح حتميا وجذريا أيضا لأنه لم يكن ممكنا أن يبقى الحال على ما هو عليه ولا تقوم بسببه ثورات وحروب.
ومع الاعتراف بأن المشابهات التاريخية قد تكون مضللة أحيانا؛ فإنها تعطينا رؤى كثيرة تساعد على فهم ما يجرى فى الحاضر. لحظة الثورات فى المنطقة العربية جاءت مع ما سمى «الربيع العربى» الذى حقق الكثير من الفوران والفوضى، وعددا من الحروب الأهلية، وولد دولة إرهابية للخلافة الإسلامية مع موجات دامية من الإرهاب والتعصب والتطرف.
ودون الدخول فى كثير من التفاصيل فإن عام ٢٠١٥ شهد الكثير من التطورات التاريخية فى المنطقة لا يزال بعضها عاكسا لانهيارات ما بعد الثورات؛ ولكن بعضها الآخر ولد موجات من الإصلاح القائم على مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المقدسة، والهوية التاريخية لمواطنين متساوين فى الحقوق، ومشروع وطنى غلاب للتنمية والتقدم الاقتصادى والاجتماعى.
ورغم أن التاريخ لا يشهد على أمثلة متطابقة أو متماثلة، فإنه يدلنا على اتجاه وتوجهات يمكن الاستفادة منها فى إضاءة الطرق التاريخية. العالم العربى مر بكثير من هذه اللحظات الفارقة بعد استقلال الدول العربية، وفورات الثورات والانقلابات العربية، وكثيرا ما كان جوهر الموجات الجديدة هو ما سمى «القومية العربية» و«الأمة العربية» ذات الرسالة «الخالدة».
ما حدث فعليا خلال العقود التى تلت أن فرقة الدول العربية وتأخرها عن ركب التقدم العالمى باتت هى ملامح التاريخ العربى فى هذه المرحلة. أسباب ذلك ليس موضع الاهتمام الآن، ولكن ما يهمنا هو أن رد فعل ما سمى الربيع العربى كان ممثلا فى ثلاث تصورات مطروحة: الأولى جاءت من «شباب الثورة» وهؤلاء كان تصورهم استمرار الفوضى إلى أقصى مدى ممكن.
والثانية جاءت من الإخوان المسلمين الذين ذهبوا إلى خلق طبعة عربية من النظام الإيراني؛ والثالثة ترتبت على هذه الأخيرة وبشفرة كان إلهامها قادما من أفغانستان وانتهت إلى إنشاء ما سمى «دولة الخلافة الإسلامية» على الحدود بين سوريا والعراق. الرابعة هى التى تهمنا لأنه اعتبارا من ٢٠١٥ وضع عدد من الدول العربية «الإصلاح الشامل والمستدام» باعتباره منهجا للعمل والحياة والتطور والتقدم.
فى ١١ أكتوبر ٢٠٢٢؛ نشرت مقالًا فى صحيفة «المصرى اليوم» تحت عنوان «قوانين الإصلاح العربي"؛ مشيرًا فيها إلى مكوناته الأولى المتداخلة مع ما هو معروف بالدولة القومية أو Nation State وهى التى كانت مستقرة فى التقاليد العربية القديمة تحت اسم «الدولة الوطنية» تمييزًا لها دولة قومية موحدة سوف تولد يوما ما.
لم يكن الإصلاح ممكنا دونما العبور الكامل إلى الدولة القومية بهويتها الخاصة وإقليمها المحدد بصفة «الوطن»، والتى لا يزيغ بصرها تحت بيارق دينية وإنما تشترك جميع طوائفها فى مشروع وطنى واحد. ولما كان قيام الدولة القومية هى النقطة الأولى فى مسيرة الحداثة والتغيير والتقدم، فإن دولا عربية عدة دخلت فى شفرات عدة أو رؤى ممتدة من ٢٠١٥ إلى ٢٠٣٠ والتى أخذت شكل مشروعات للبنية الأساسية وغيرها واسعة النطاق. والآن بعد الدخول فى العام الثامن من هذه المسيرة فإن الدول التى شاركت فيها دون موعد أو اتفاق بدأت تشكل ثلاثة أنواع من العلاقات الدولية: أولها تجاه بعضها البعض من خلال التشاور والتعاون فى أمور بعينها؛ وثانيها التعامل المشترك مع القوى الدولية العظمى وتجسد ذلك فى «القمة العربية الأمريكية» فى جدة؛ و«القمة العربية الصينية» فى الرياض؛ والعمل المشترك فى قمة المناخ «كوب ٢٧» فى شرم الشيخ؛ وكأس العالم لكرة القدم فى قطر.
حدث ذلك كله بينما «الشفرة الإصلاحية» لا تزال فى بدايتها، وترجمتها إلى واقع أكثر غنى فى علاقات الدول الإصلاحية ببعضها البعض، وبينها وبين دول وأقاليم العالم الأخرى يحتاج إلى الكثير من التفكير فى مدى التقدم الذى حدث، ونوعيات العقبات التى تقف فى طريق الإسراع به والمشاركة فى السباق العالمى، والتعامل لا يخل من مفاجآت «الجائحة» و«الحرب الأوكرانية» وكلاهما وضع ضغوطا كبيرة على إمكانيات الإصلاح العربى.
قياس عمق الإصلاح فى العالم العربى لا يزال مبكرا، ولكن الثابت هو أن هناك تراجعا كبيرا جرى ساعة هزيمة الإخوان المسلمون فى مصر فقد ظهر أن موجة «الإسلام هو الحل» قد وصلت إلى شواطئها وانحسرت ربما لكى تأخذ أشكالا جديدة، أو أن التاريخ العربى قد وصل أخيرًا إلى الحل الإصلاحى الذى عنده يقوم تاريخ جديد.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الإخوان المسلمون الإسلام الإعلام السياسي الدول العربیة هو الحل
إقرأ أيضاً:
« اتحاد المصارف العربية»: الشراكة الأوروبية ضرورة حتمية في ظل التحديات الحالية
أكد رئيس مجلس إدارة اتحاد المصارف العربية محمد الإتربي، أن الشراكة العربية الأوروبية أصبحت ليست مجرد خيار استراتيجي، ولكنها ضرورة حتمية في ظل التحديات الحالية التي يمر بها العالم.
وقال الأتربي، في تصريح خاص لمراسلة وكالة أنباء الشرق الأوسط بباريس اليوم الجمعة، إن القمة المصرفية العربية الدولية تتناول هذا العام موضوع "الصمود الاقتصادي في ظل التغيرات الجيوسياسية"، وذلك في ظل ما يشهده العالم من تحديات وتقلبات والتي لها أثر بالغ على الدول العربية.
وأضاف "لذلك، فإن الشراكة العربية الأوروبية ليست مجرد خيار استراتيجي، ولكنها ضرورة حتمية أمام تحديات الحاضر وطموحات المستقبل"، مشيرا إلى أن التبادل بين الدول العربية والاوروبية تجاوز 24 مليار دولار خلال عام 2024.
وشدد على ضرورة ترسيخ هذه الشراكة قائلا "لابد أن نعزز هذه الشراكة ليس من الناحية الاقتصادية فقط، ولكن من الناحية الاجتماعية والثقافية، وأيضا في مجال التنمية المستدامة، هام جدا موضوع التمويل الاخضر، هام جدا موضوع التحول الرقمي والطاقة المتجددة".
كما أشار الأتربي إلى الجلسة المخصصة في القمة والتي ترتكز حول "إنعاش وإعادة هيكلة القطاعات المصرفية في الدول العربية المتضررة من الأزمات"، وقال "هناك عدة أزمات في السودان وفي اليمن ونتمنى أن تعود سوريا لوضعها الطبيعي.. فهي أزمات تؤثر على المنطقة العربية بأكملها، لذا عندما نخصص جلسة لبحث وضع هذه الدول التي تعاني من أزمات، فلابد أن يكون هناك دعم من أوروبا ودعم من الدول العربية التي لديها امكانيات مثل دول الخليج".
وأعرب عن أمله في أن تخرج القمة بتوصيات تُنفذ على أرض الواقع، مشيرا إلى نجاحها مع حضور هذا العدد الكبير من الشخصيات المصرفية المتخصصة والمتحدثين على أعلى مستوى، وهو "ما يؤكد أهمية الشراكة بين الدول الأوروبية والدول العربية من أجل التنمية المستدامة والمشاريع الحيوية والتحول الرقمي.. وهي شراكة مهمة للطرفين".
وفي كلمة له خلال افتتاح "القمة المصرفية االعربية الدولية لعام 2025"، قال الإتربي "نتطلع من هذه القمة إلى زيادة الثقة المتبادلة بين الدول العربية ودول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا، وتعزيز التعاون في كافة المجالات سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، حضارية أو ثقافية، تكنولوجية أو علمية، وبالأخص تجارية، بما يؤدي إلى دعم الصمود الإقتصادي في ظل التحديات التي تمر بها المنطقة والعالم، لا سيما في القطاع المصرفي العربي الذي يظل العامل الرئيسي للتمويل".
وقال إن انعقاد هذه القمة اليوم في باريس وبرعاية الرئيس الفرنسي، يجسد عمق العلاقات بين المنطقتين، ويؤكد مجددا أن الشراكة العربية الأوروبية ليست مجرد خيار استراتيجي، بل هي ضرورة تفرضها التحديات الحالية.
وأضاف أن العلاقات الاقتصادية بين العالم العربي وأوروبا قد شكلت على مدى عقود طويلة ركيزة أساسية للاستقرار والنمو، "ولكننا اليوم أمام منعطف جديد يتطلب منا جميعا تعزيز هذه العلاقات ودعم الصمود الاقتصادي في ظل التطورات الجيوسياسية إقليميا ودوليا على أسس أكثر مرونة وإبتكارا وشمولية".
وانطلقت اليوم القمة المصرفية العربية الدولية لعام 2025 في باريس، برعاية الرئيس الفرنسي وبمشاركة شخصيات مصرفية ومالية متخصصة يمثلون العديد من الدول الأوروبية والعربية من بينها مصر.
وينظم اتحاد المصارف العربية فعاليات القمة، بالتعاون مع الفيدرالية المصرفية الأوروبية، والفيدرالية المصرفية الفرنسية، واتحاد المصارف الفرانكفونية، والغرفة التجارية العربية الفرنسية، والاتحاد المصرفي الدولي وذلك بحضور عدد كبير من السفراء العرب المعتمدين في فرنسا، من بينهم السفير علاء يوسف سفير مصر بباريس، بالإضافة إلى قيادات من المؤسسات المالية والمصرفية والدبلوماسية العربية والأوروبية.
وتنعقد القمة هذا العام تحت عنوان "الصمود الاقتصادي في ظل التغيرات الجيوسياسية"، وتهدف إلى تعزيز حوار تعاوني بين الجهات المعنية من أوروبا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأفريقيا حول التحديات الاقتصادية والمصرفية المشتركة، واستكشاف فرص تسريع النمو الاقتصادي من خلال تعزيز الاستثمار والتجارة والابتكار التكنولوجي، ومناقشة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تواجه أوروبا، مع التركيز على أثر حالة عدم اليقين العالمية على الأنظمة المالية في المنطقة، والتعاون المصرفي والمالي العربي الأوروبي.