تاريخ من الانحياز.. لماذا تدعم ألمانيا إسرائيل وتخنق الفلسطينيين؟
تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT
في يوم الثلاثاء، 17 أكتوبر/تشرين الأول، حطَّت طائرة المستشار الألماني أولاف شولتز في تل أبيب، ليصبح ثاني الزعماء الأوروبين المتجهين إلى إسرائيل، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، بعد رئيس الوزراء الروماني. وكانت رسالته في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإسرائيلي نتنياهو حاسمة وواضحة: أمن إسرائيل "مصلحة وطنية عليا" لبرلين (1).
ما قاله شولتز ليس جديدا بحال، فهو تكرار باللفظ لما صرحت به المستشارة السابقة أنغيلا ميركل أمام الكنيست في زيارتها التضامنية لإسرائيل في مارس/آذار 2008، بأن بقاء إسرائيل "مصلحة وطنية عليا" لدولة ألمانيا (2). ورغم التشابه بين التصريحين، فإن الكثير قد تغير منذ أن تركت ميركل مقعد المستشار في ديسمبر/كانون الأول 2021.
تتحرك ألمانيا شولتز في واقع دولي مختلف قد يفرض عليها، من منظور ساستها، أن تنحاز بشكل كامل ضد أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة وتهجُر بالكامل سياساتها الخاصة بتجنب تسليح مناطق النزاعات، مع غض النظر عن تبعات ذلك على المدنيين. إن ألمانيا الجديدة على استعداد لتنحية الاعتبارات الإنسانية وإمداد إسرائيل مباشرة بالأسلحة والذخائر وجميع أشكال الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، لتحقق انتصارا سريعا حاسما يرمم تمثال الهيمنة الدولية الغربية الذي تآكل بفعل الغزو الروسي لأوكرانيا، ويجعل المقاومة الفلسطينية، بل وكل الفلسطينيين بالتبعية إذا لزم الأمر، عبرة ومثالا لأي قوة تجرؤ على تحدي الهيمنة الغربية في ساحات الصراع المختلفة حول العالم.
ألمانيا وإسرائيل.. تاريخ من الدعم العسكريتُعَدُّ العلاقات الألمانية الإسرائيلية ذات طبيعة خاصة لأسباب تاريخية يعلمها الجميع تتعلق بالحقبة النازية، لكنَّ الدعم الألماني المكثف لإسرائيل منذ نشأتها له دواعٍ براغماتية أيضا جاءت في لحظات تاريخية بالغة الحساسية لبرلين. فبعد انقشاع غبار الحرب العالمية الثانية، تنازعت قوى الحلفاء على ألمانيا المهزومة وقسّمتها إلى مناطق محتلة. ومع احتدام الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، انقسمت ألمانيا في عام 1949 رسميا إلى دولتين: ألمانيا الغربية (جمهورية ألمانيا الاتحادية رسميا) الموالية للولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا، التي تبنَّت النظام الرأسمالي واقتصاد السوق، وألمانيا الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) الموالية للسوفييت، بنظام شيوعي مركزي. وقد استمر هذا الانقسام طويلا، حتى سقوط الاتحاد السوفيتي ومعه جدار برلين الفاصل بين الدولتين عام 1990 (3).
في مطلع الخمسينيات، حرصت إسرائيل على الضغط بكل ما لديها على قوى الحلفاء، وأرسلت مذكرات في مارس/آذار 1951 تطالب بعدم نقل السيادة إلى أي حكومة ألمانية قبل دفع تعويضات هائلة عن المحرقة لدولة إسرائيل الناشئة، قدَّرتها بـ1.5 مليار دولار. وتصاعدت بعض الأصوات المهددة بحرب اقتصادية على "بون" (عاصمة ألمانيا الغربية)، ما لم تقدم عرضا سخيا يُرضي تل أبيب. ومع أن الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا ردت بأنها لا تستطيع أن "تفرض" على ألمانيا الغربية دفع هذه التعويضات، فقد مارست هذه القوى ضغوطا عبر جون ماكلوي، المفوض السامي في ألمانيا، للتوصل إلى تسوية مُرضية لإسرائيل (4).
ارتبطت هذه التسوية ارتباطا وثيقا بنتائج مؤتمر لندن الخاص بالاتفاق على سداد الديون الخارجية الألمانية الهائلة، كما يشير كونراد أديناور، أول مستشار لألمانيا الغربية، في مذكراته: "كان من الواضح لي أن المفاوضات مع اليهود، إن تعثرت، ستصل الأمور في مؤتمر لندن للديون أيضا إلى طريق مسدودة، لأن الدوائر المصرفية اليهودية ستمارس على مسار المؤتمر نفوذا لا ينبغي الاستهانة به" (5).
كان ارتباط مصير الديون الخارجية بالتعويضات الألمانية المقدمة لدولة إسرائيل المحطة الأولى التي أسست العلاقة الثنائية الوثيقة بين البلدين. أسهمت التعويضات الألمانية، المدفوعة بموجب اتفاقية لوكسمبورغ المبرمة في سبتمبر/أيلول 1952، في إنشاء البنية التحتية وتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي على مدار العقدين التاليين. ولعبت الكفاءات الألمانية دورا كبيرا في شتى المجالات، وعلى رأسها بناء الجيش الإسرائيلي (6). وأمَّن التواصل المباشر بين جوزيف شتراوس، وزير دفاع ألمانيا الغربية في النصف الثاني من الخمسينيات، وشمعون بيريز، الذي كان يشغل حينها منصب المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، شحنات الأسلحة من مخازن الجيش الألماني إلى الأيادي الإسرائيلية (7).
بيد أنه في تلك الآونة، كان إعلان علاقة ألمانيا الغربية الوطيدة بإسرائيل يعني خسارتها معركة العلاقات في المنطقة العربية أمام جارتها الشرقية التي تنازعها التمثيل الدبلوماسي. وكان اتفاق لوكسمبورغ بالفعل قد أثار مشكلات لا حصر لها مع الدول العربية، وفي طليعتها مصر. لذا كان على الدعم العسكري الألماني لإسرائيل أن يظل سِرًّا، ولجأ شتراوس إلى مناورات لإبعاد الشبهات، إذ تلقت أقسام الشرطة بلاغات عن عمليات "سطو وسرقة" على مخازن الجيش الألماني تذكر فيها الأسلحة والأجهزة المتجهة فعليا إلى إسرائيل، أما الطائرات المروحية والمقاتلة فأُزيلت منها أي رموز تشير إلى السيادة الألمانية، وشُحِنت بالسفن من ميناء مارسيليا في فرنسا. وقد استخدمت إسرائيل هذه الأسلحة بكثافة في حرب 1967 (8).
وفي حرب أكتوبر 1973، كانت ألمانيا الغربية هي الدولة الوحيدة في العالم التي رضخت للمطالب الأميركية بإمداد إسرائيل بالأسلحة والمعدات. إذ أن واشنطن، كما أوضحت عبر مارتن هيلينبراند السفير الأميركي في بون، لوَّحت في تلك الأجواء المتوترة بأن تقاعس حلفائها عن دعم إسرائيل سيؤثر على العلاقات الثنائية معها في المستقبل. ونتيجة لذلك استجابت الحكومة الألمانية لمطالب الولايات المتحدة بتسليم دبابات ومدافع وذخائر، وشحنها إلى ميناء بريمن الألماني لتحميلها على السفن الإسرائيلية (9).
لكن بعد دخول الهدنة حيز التنفيذ في 23 أكتوبر/تشرين الأول، أخبر سكرتير الدولة باول فرانك السفير الأميركي في بون بأن نقل الشحنات الأميركية من المخازن الألمانية واستخدام البنية التحتية العسكرية سوف يتوقف، حيث قال: "إننا لم نتوانَ ثانية واحدة في لحظات التوتر عن وضع المصالح المركزية والمشروعة لألمانيا خلف المصلحة المشروعة للتحالف للمحافظة على توازن القوى في الشرق الأوسط. وبعد وقف إطلاق النار، فإننا نرى أن حق الانتفاع هذا غير ضروري". وكان للتهديد العربي بقطع الإمدادات النفطية عن بون دور كبير في هذا التراجع (10).
التعقيدات الجيوسياسية وراء "الهستيريا" الألمانيةبالطبع تختلف ألمانيا في أكتوبر/تشرين الأول 2023 اختلافا جَمًّا عن ألمانيا المنهزمة في مطلع الخمسينيات المهددة بالحرب الاقتصادية ما لم تدفع التعويضات لإسرائيل، وعن ألمانيا الغربية في أكتوبر/تشرين الأول 1973 الملتزمة بإرضاء الولايات المتحدة زعيمة الكتلة الغربية في مواجهة السوفييت. لكن الأوضاع الجيوسياسية الحالية والتغيرات في السياسات الداخلية لألمانيا قد تدفعها مُجددا إلى الإلقاء بثقلها العسكري الكامل خلف إسرائيل، وإنهاء أي شكل من أشكال الدعم، ولو صوريا، للقضية الفلسطينية.
يأتي "طوفان الأقصى" في وقت سيئ بالنسبة لحلفاء شمال الأطلسي، في العام التالي لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشن الحرب على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022. لقد مضى عشرون شهرا تقريبا من الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي من حلفاء الناتو لأوكرانيا، والعقوبات الاقتصادية الصارمة على الاقتصاد الروسي، وإقصاء روسيا من المحافل الثقافية والمسابقات الرياضية، وضخَّت ألمانيا وحدها مساعدات عسكرية لأوكرانيا زادت قيمتها على 17.1 مليار يورو حتى يوليو/تموز 2023 (11)، وتعهدت وزارة دفاعها في 10 أكتوبر/تشرين الأول بحزمة مساعدات عسكرية جديدة بقيمة 1.1 مليار يورو، لتوفير منظومات الدفاع الجوية، والأسلحة، والمركبات البرية (12).
لم تُسفِر هذه المساعدات الضخمة إلا عن نزاع آخر وصل إلى طريق مسدود، حيث لم تشهد جبهات القتال تغيرات تُذكر منذ بداية العام الحالي، مع توقعات باستمرار الحرب حتى 2025 دون حسم (13). وفي حين ألحقت العقوبات الاقتصادية أضرارا جسيمة بالاقتصاد الروسي، يعترف المختصون بأن أثر العقوبات على المدى القصير كان أقل من المتوقع (14). صحيحٌ أن بوتين لم يحسم الحرب لصالحه بالسرعة التي كان يأملها، لكن تحديه "السافر"، كما يصفه الغرب، بغزو أوكرانيا ترك ندوبا واضحة في جسد المحور الغربي وهزَّ هيمنته الدولية.
لم يخفَ هذا على شولتز وحكومة الائتلاف، وربما كان الدافع الرئيسي وراء إعداد إستراتيجية ألمانية شاملة للأمن القومي ونشرها في يونيو/حزيران الماضي، وهي أول إستراتيجية للأمن القومي تُعلنها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. تُظهر هذه الإستراتيجية إدراك ألمانيا أن العلاقات التجارية والجهود الدبلوماسية وحدها لن تكفي، وأن التحديات التي تواجهها ألمانيا والاتحاد الأوروبي ستتطلَّب تحديث القوات المسلحة الألمانية لتصبح "من القوات المسلحة التقليدية الأعلى كفاءة في أوروبا في الأعوام القادمة" وتجهيزها للاستجابة للتهديدات الأمنية بسرعة في أي وقت. وقد أعلنت وثيقة الإستراتيجية دون مواربة أن التهديد الأخطر لأمن أوروبا يأتي، كما هو متوقع، من روسيا (15).
في هذا السياق، أتى "طوفان الأقصى" ونكأ الجراح الغربية أكثر، لا سيَّما أن الهجوم الذي أسقط الغرب من حساباته ولم يعبأ بوساطته وأحكامه لم يأت هذه المرة من قوة عظمى وجيش نظامي، بل من كتائب ضعيفة التسليح تؤويها رقعة أرض محاصرة، مُغلقة المعابر والمنافذ. وصحيحٌ أنه لا توجد أدلة على أي تدخل روسي دعما لحماس عسكريا أو بالتمويل، كما يستبعد المحللون أن تُقْدِم روسيا على هذه الخطوة في النزاع الحالي أو في حالة التصعيد المستقبلي، لكن هذا لا ينفي أن روسيا مستفيدة من الأزمة على عدة محاور، أهمها تشتيت الغرب عن حرب أوكرانيا سياسيا وإعلاميا، واستنفاد موارده العسكرية على جبهتين في حالة التصعيد، وإضعاف دور القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في لعب دور الوسيط في المنطقة (16).
هذا فضلا عن دورها غير المباشر في تقوية شوكة إيران، فقد حفَّزت حرب أوكرانيا تقاربا عسكريا واقتصاديا وسياسيا غير مسبوق بين إيران وروسيا، إذ يحاول البلدان تقليل أثر العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلدين. ومَثَّل الدعم العسكري الإيراني لروسيا عنصرا فارقا في هجماتها الجوية على أوكرانيا باستخدام المسيرات الإيرانية. وقد تميل روسيا مستقبلا إلى إمداد طهران بأنظمة دفاعية وهجومية متطورة، جزاء لدعمها العسكري لموسكو في ساعة العسرة (17).
من هنا خرجت تصريحات شولتز شديدة اللهجة في بداية الأزمة، التي حذرت إيران من التدخل إما مباشرة أو عبر حزب الله في الصراع الحالي، وهي تصريحات كررها المستشار الألماني في زيارته إلى إسرائيل. ألقى شولتز باللوم على إيران، مؤكدا أنه "لولا الدعم الإيراني لحماس في الأعوام الماضية، لم تكن حماس لتقدر على شن هذه الهجمات غير المسبوقة على الأراضي الإسرائيلية". وحذَّر من أن تدخل حزب الله اللبناني المدعوم من إيران عسكريا لصالح حماس سيكون "غلطة لن تُغتفر"، ستجلب الدمار على لبنان وتؤثر بشدة على منطقة شمال أفريقيا واليمن، وستُطلِق يد إسرائيل في شن عمليات عسكرية "للدفاع عن نفسها" (18).
في سيناريو افتراضي لتدخُّل أطراف خارجية في الحرب بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ستتدفق على الأرجح شحنات الأسلحة الألمانية مباشرة إلى إسرائيل لتستخدمها كيفما شاءت للحفاظ على التوازن الحالي ومنع اختلال التفوق الإسرائيلي. فما زالت تدوي في آذان الساسة الألمان الاتهامات بالتخاذل والتباطؤ عن الدعم المباشر لأوكرانيا قبل وفي بداية النزاع بالمعدات العسكرية، رغم مطالبات كييف المتكررة (19). وكان السبب المعلن لرفض شحنات الأسلحة والذخائر إلى كييف هو "مبدأ" برلين السياسي بعدم تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاعات. وبغض النظر عن أن هذا المبدأ لم تلتزم به برلين مرات عديدة في تاريخها القريب (20)، فإن النزاع الحالي بين حماس وإسرائيل ربما يكون أول فرصة أمام برلين لتجربة إستراتيجيتها الجديدة، واستباق التهديدات الأمنية (بالنسبة لها) بإجراءات فورية ودعم عسكري علني مكثف.
حتى الآن، منحت ألمانيا الضوء الأخضر لإسرائيل لتستعيد اثنتين من طائراتها المسيرة المقاتلة "هيرون تي بي"، التي كانت ألمانيا قد أجَّرتها في وقت سابق لتدريب طياريها، واستخدام هاتين الطائرتين في هجماتها على قطاع غزة. إضافةً إلى ما سبق، فقد صرَّح بوريس بيستوريوس وزير الدفاع الألماني بأن الحكومة تدرس طلبا من تل أبيب لإمدادها بذخائر السفن الحربية، مع تأكيدات بأنها ستلبي جميع الطلبات الإسرائيلية فور صدورها (21). كما نقل عن نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت أن إسرائيل لا تحتاج إلى دعم عسكري أو فني في الوقت الحالي، وإنما إلى المساندة السياسية (22). لكن في حالة تفاقم الوضع، يسهل تخيل إنشاء جسر جوي بين برلين وتل أبيب، يمد الأخيرة بكل ما تحتاج إليه من معدات عسكرية، نعلم أنها ستُستخدم في النهاية في قتل وتهجير المزيد من الفلسطينيين.
خنق القضية الفلسطينيةإلى جانب الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، سرعان ما تحركت ألمانيا بعد ساعات من "طوفان الأقصى" للتضييق الشديد على الفلسطينيين إنسانيا ودبلوماسيا. فقد أعلنت عن تعليق المساعدات للأراضي الفلسطينية، وعاب شولتز على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "اختفاءه الغامض" وامتناعه عن شجب "إرهاب حماس". وأكد شولتز في خطابه أمام البرلمان الألماني أن استئناف المساعدات التنموية سيأتي بعد مراجعتها بحيث تحقق السلام للدولة الإسرائيلية وبالتشاور معها (23).
كما حظرت الحكومة أي أنشطة مرتبطة بحركة حماس وغيرها من الحركات الفلسطينية، ومن بينها شبكة صامدون للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، ووضعتها تحت المراقبة الاستخباراتية (24)، وخرجت نانسي فيزر، وزيرة الداخلية، مؤكدة أن الحكومة سوف تستخدم "جميع السبل القانونية لطرد داعمي حماس". ولاقت تصريحات فيزر استحسان لارس كلينغايبل، رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي أحد أحزاب الائتلاف الحاكم، الذي تحدَّث بوضوح قائلا: "إذا كان الشخص الذي يحتفل بحماس في الشوارع الألمانية لا يحمل الجنسية الألمانية، فيجب حينئذ طرده من ألمانيا" (25).
لكن تصريحات الرجل لم تقتصر على المقيمين بألمانيا من غير حاملي الجنسية فقط، بل امتدت لتَوعُّد حامليها والمتقدمين للحصول عليها أيضا. "إننا حاليا بصدد إصلاح قانون الجنسية: التجنيس هو التزام تجاه بلدنا. مَن لا يشاركنا قيمنا، مَن يدعم معاداة السامية والإرهاب، سيُحرَم من الحصول على جواز السفر الألماني". والأمل الوحيد للخروج من دائرة المغضوب عليهم من الدولة الألمانية هو الإعلان الواضح لإدانة "الإرهاب الوحشي من جانب حماس. أتوقع ذلك أيضا من جميع الروابط المسلمة في ألمانيا" (26).
ليست الإجراءات الألمانية موجهة ضد مناصري حماس والمقاومة فقط، بل اتسعت لتشمل كل الرموز والشعارات الفلسطينية، بما في ذلك ارتداء "الكوفية" الفلسطينية في المدارس. وصار وجود الأعلام والرموز المؤيدة لفلسطين سببا كافيا لدى السلطات لفض التظاهرات والمسيرات، كما ذكرت شرطة برلين في تغريدة بخصوص احتجاج ضم نحو ألف شخص بساحة بوستدام يوم الأحد، 15 أكتوبر/تشرين الأول: "بسبب تدفق أعداد كبيرة من الأشخاص الحاملين للشعارات المؤيدة لفلسطين، حُظِرَ التجمع قبل أن يبدأ". وعند رفضهم المغادرة، وقعت اشتباكات اعتقلت على إثرها الشرطة 127 شخصا (27).
لعل التعبير الأوضح عن التوجه الألماني الحالي الذي يدعم إسرائيل دعما مطلقا في خطواتها القادمة ويُسقط المدنيين من حساباته هو رد كريستيانه هوفمان، نائبة المتحدث باسم الحكومة الألمانية، على سؤال صحافي في مؤتمر للحكومة بخصوص الحصار الكامل الذي أعلنته حكومة نتنياهو على قطاع غزة، وإذا ما كانت الحكومة الألمانية تؤيده أم ترى أن قطع المواد الغذائية والماء والكهرباء يُعَدُّ انتهاكا للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وكرَّرت هوفمان ما قاله شولتز: دعم إسرائيل مصلحة وطنية عليا، ولإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. وأنهت إجابتها بحزم: "في الوقت الحالي، لن نخوض في تفاصيل أخرى" (28).
وفي حين بدأ يَرِِد ذكر الجانب الإنساني للنزاع على استحياء في تصريحات رئيس الوزراء والسياسيين الألمان (29)، ربما نتيجة للزيادة المطردة في أعداد القتلى والمصابين جراء القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع، فإن هذه التصريحات غالبا ما تأتي على هامش الدعم شبه المطلق لإسرائيل، وإعلان مزيد من الإجراءات لخنق القضية الفلسطينية وحصارها.
_______________________________________________
المصادر والمراجع
Scholz in Tel Aviv: "Die Sicherheit Israels ist Staatsräson.” Tagesschau Speech by Federal Chancellor Angela Merkel to the Knesset in Jerusalem on 18 March 2008. Obtained from knesset.gov.ill The End of WWII and the Division of Europe. Center for European Studies. Lewan, Kenneth M. “How West Germany Helped to Build Israel.” Journal of Palestine Studies, vol. 4, no. 4, 1975, pp. 41–64. JSTOR, https://doi.org/10.2307/2535601. Accessed 23 Oct. 2023. المصدر نفسه المصدر نفسه ألمانيا والشرق الأوسط: منذ زيارة القيصر فيلهلم الثاني إلى المشرق في العام 1898 حتى الوقت الحاضر. رولف شتاينغر. ترجمة د. لورنس الحناوي. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). ص 108-110 المصدر نفسه. ص 108-110 المصدر نفسه. ص 180-181 المصدر نفسه. ص 180-181 Ukraine Support Tracker. Kiel Institute. Accessed on 18 October 2023 Germany announces new defense aid for Ukraine worth $1.1 bln. Reuters. 10 October 2023 Mykola Bielieskov. The state of Russia’s war on Ukraine as it nears 2024. Atlantic Council. 16 October 2023. Valerii Nozhin & Daniel Bellamy. Are the economic sanctions against Russia actually working? EuroNews. 28 June 2023. The hits and misses in Germany’s new national security strategy. Atlantic Council. 14 June 2023. Putin is ready to take advantage of Israel-Gaza war, says Steve Rosenberg. BBC. 13 October 2023 Ellie Geranmayeh & Nicole Grajewski. Alone together: How the war in Ukraine shapes the Russian-Iranian relationship. European Council on Foreign Relations. 6 September 2023 Address to the Bundestag on Solidarity with Israel. Olaf Scholz. 12 October 2023 Germany promised Ukraine weapons but hasn’t delivered. Now, anger toward Berlin is rising. Holly Ellyat. CNBC. 16 Sep 2022. Does Germany send weapons to crisis regions? Tatyana Klug. DW. 8 February 2022 Germany to support Israel in its defence efforts with two drones, minister says. Reuters. 12 October 2023 German defense minister offers Gallant support. The Times of Israel. 11 October 2023 Address to the Bundestag on Solidarity with Israel. Olaf Scholz. 12 October 2023 بيان: ألمانيا تعلن حظر شبكة صامدون للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين – سنبقى صامدون. موقع شبكة صامدون. 12 أكتوبر 2023 وزيرة الداخلية الألمانية تؤيد طرد داعمي حماس من بلادها. DW. 15 أكتوبر 2023 المصدر نفسه. تغريدة من حساب @polizeiberlin على موقع X بتاريخ 15 أكتوبر 2023 فيديو من حساب @taqadum على موقع X بتاريخ 18 أكتوبر 2023 يُظهر مؤتمر الحكومة الألمانية Germany’s Scholz pledges to work with Israel on aid for Gaza. DW. 19 October 2023المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أکتوبر تشرین الأول الحکومة الألمانیة الولایات المتحدة الدعم العسکری طوفان الأقصى إلى إسرائیل المصدر نفسه الغربیة فی أکتوبر 2023 ت ألمانیا October 2023
إقرأ أيضاً:
لماذا على الشرق الأوسط عدم السماح بانتصار إسرائيل؟
هل يمكن أن نتخيل شرقا أوسطيا بلا إيران؟ ليس فقط بلا نظامها، بل بلا حضورها الاستراتيجي، وبلا عمقها التاريخي، وبلا موقعها من معادلة الردع؟ من سيملأ الفراغ الكبير الذي يمكن أن تتركه؟
الإجابة على مثل هذا السؤال من شأنها أن تفتح سيناريوها الفوضى التي يمكن أن تعم المنطقة فيما لو انتصرت إسرائيل/ الغرب في الحرب التي تدورها الآن بينهم وبين إيران.
والحقيقة المهمة أنه لا يمكن إعفاء الدول العربية من مسؤولية المآلات التي تنتظر المنطقة فيما لو نجحت إسرائيل في أهدافها.. رغم أن الحديث عن مثل هذه المسؤولية أو أي مستوى من مستويات الندم سيكون بلا أي معنى ولا قيمة في اللحظة التي تكون الهيمنة الكاملة فيها لإسرائيل وحدها.. وعلى البقية الطاعة المطلقة للحقبة الجديدة بكل معطياتها.
والسؤال الجوهري الآن لا يكمن في قدرة إسرائيل على إلحاق هزيمة عسكرية بإيران، فهي لا تخوض هذه الحرب وحدها، بل تستند إلى دعم غربي مطلق، وصمت عالمي إلى حد التواطؤ.. ولذلك فإن السؤال الأكثر خطورة في هذه المرحلة هو: هل تستطيع المنطقة تحمّل تبعات هذه الهزيمة فيما لو تحققت؟! الإجابة التي أرها حاضرة بوضوح كامل: لا. بل إن تبعات هذه الهزيمة هي أكبر خطر يمكن أن يهدد العرب في لحظتهم الحالية.
أخطأ العرب طويلا في فهم إيران حين اقتصرت قراءتهم لها على الزاوية المذهبية/ الطائفية، رغم أنها، سواء في زمن الشاه أو في عهد الثورة، لم تكن ظاهرة طارئة في الإقليم، فهي حضارة عريقة مختزلة في دولة، ولها عمقها التاريخي ورؤيتها للمنطقة وفهمها الخاص بها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استبعادها من أي نظام إقليمي متوازن.. ورغم ما طرأ على خطابها السياسي بعد ثورة 1979، إلا أن تلك الثورة مهما كانت نظرة العرب والعالم لها لم تكن نتاج تصدير ديني فقط، ولكنها كانت انفجارا داخليا عميقا، جاء استجابة لتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية.. وكان من الحكمة أن تتحاور الدول العربية، خاصة، معها بناء على هذا المنطق لا تبني الرؤية الغربية في تحويل تلك الثورة وما صاحبها من تحولات عميقة إلى ذريعة يعاد وفقها صياغة التحديات الجيواستراتيجية للمنطقة.. وبناء جدران عالية من العداء السياسي والأيديولوجي مع إيران، وتجاهل حقوق الجوار الجغرافي والفهم التاريخي للإمكانيات الحضارية والتأثيرات المتبادلة بين الطرفين.
ورغم العقود الطويلة وما صاحبها من أحداث كانت كفيلة ببناء تصورات مختلفة ما زال الكثير من صُنّاع السياسات في الشرق الأوسط، إلى هذه اللحظة، يعتقدون أن انتصار إسرائيل على إيران من شأنه أن يقود المنطقة إلى استقرار حلمت به طويلا.. وهذه القناعة، التي صاغتها مراكز التفكير الغربية وروّجت لها دوائر النفوذ، تقوم على قراءة سطحية جدا للتاريخ، وتُغفل حقيقة أن مثل هذا الانتصار سيدخل المنطقة في حقبة جديدة تكون الهيمنة الكاملة فيها لإسرائيل فيما لن يبقى لدولة سواها، مهما كانت مكانتها الحالية، أي دور حقيقي.. وقد يتحول الجميع إلى دول وظيفية تؤدي خدمة للمشروع الإسرائيلي الكبير. بل إن الأمر قد يتحول إلى ما هو أسوأ حينما يعاد إنتاج عشرات النماذج من «داعش» والتي ستؤدي مع الوقت إلى اختفاء بعض الدول مع الخريطة العربية.
لا يعني هذا الحديث أنه كان على الدول العربية تجاهل الطموحات الاستراتيجية لإيران، ولا يفترض أن يحدث ذلك مع غيرها على أية حال، لكنّ التعاطي مع مثل هذه الطموحات ومن دولة مثل إيران في حجم جوارها الجغرافي وتأثيراتها الحضارية، كان ينبغي أن يكون ضمن توازن إقليمي صحي، لا ضمن منطق إسقاط إيران أو تفكيكها؛ فهذا لن يُنتج شرقا أوسطيا مستقرا، بل إن المؤكد أنه سيخلق فراغا جيوسياسيا ضخما ستكون دول الخليج أول من يدفع ثمنه كما حدث بعد سقوط بغداد عام 2003، وقد يمتد تأثيره على تركيا وعلى باكستان.
لا تسعى إسرائيل في هذه الحرب إلى مجرد نزع قدرة إيران على الردع، كما هو الخطاب الترويجي، فطموح إسرائيل لمن يفهم مشروعها ومشروع الغرب في المنطقة أكبر من ذلك بكثير وعنوانه الهيمنة الكاملة على إيران وتفكيك تأثيرها العسكري والإيديولوجي والاقتصادي، لتستطيع إسرائيل، بمعرفة وتعاون غربي، تطويع النظام الإقليمي لمصلحتها وحدها في طريق استكمال مشاريعها «التاريخية».
وحين يكتمل ذلك الطموح الإسرائيلي سيكون الحديث عن «التطبيع» السائد اليوم، أمرا ساذجا جدا، فالحقبة كلها ستكون حقبة إسرائيل، والثقافة ثقافتها والأمر أمرها، ومن أراد غير ذلك فعليه أن يكون جزءا من الفوضى الكبرى التي ستعم المنطقة.
ومما يؤسف له أن المشهد الحالي في العالم العربي/ الإقليم، مهيأ للدخول في مثل هذا السيناريو الخطير، واللحظة الحالية هي أحد أسوأ اللحظات التي مرت على العرب في تاريخهم الطويل المتخم بالصراعات والنكسات والنكبات التي لم يتبلور عنها وعي جمعي ولا وعي سياسي يمكن أن يكون مرجعا لهذه اللحظة الصعبة.
ورغم حجم الخطر الذي يحيط بالعرب من هذه الحرب ومآلاتها فيما لو انتصرت إسرائيل بشكل خاص إلا أن الأمر له تداعيات كثيرة على العالم أجمع حيث ستكون ثمة رسالة مفادها أن الدبلوماسية لم تعد وسيلة لحل النزاعات، والتفوق العسكري وحده من يستطيع فرض شروطه. وهنا يمكن ملاحظة مفارقة «الفراغ ـ الهيمنة»، ففي اللحظة التي ستتفكك فيها إيران، لا قدر الله، لن يصعد بديل طبيعي لها، بل تُملأ المساحة المتبقية بنفوذ إسرائيلي غير مقيّد، يتحكم بالمنظومات الأمنية، وشرايين الاقتصاد، والتكنولوجيا.
وهذا النمط من الهيمنة لا يستطيع بناء أي مستوى من الاستقرار، كما تذكر تجارب التاريخ، بل يولد مقاومة أشد، ويغذي شعورا بالإحباط والعداء في المجتمعات التي شكّلت هويتها حول فكرة المقاومة ـ من جنوب لبنان إلى العراق إلى غزة. والأسوأ، أن انهيار الدولة المركزية الإيرانية قد يُطلق قوى لا مركزية متطرفة، لا يمكن احتواؤها، بأي حال من الأحوال كما حدث في التجربة العراقية.
كما أنه يمكن أن يحول الشعور بالغبن وغياب العدالة وازدواجية المعايير إلى دوامة عنف لا تنتهي خاصة أنه يأتي في ظل وعي راسخ أن إيران تدفع ثمن دعمها لغزة وللقضية الفلسطينية بشكل عام الأمر الذي من شأنه أن يحرك العنف والصدام في كل مكان.
بهذا المعنى، فإن منع إسرائيل من تحقيق نصر في هذه الحرب يتجاوز فكرة تأييد إيران في سيادتها على مشاريعها العسكرية والاستراتيجية إلى كونه دفاعا مستميتا عن مبدأ التعددية الإقليمية في منطقة كانت تعيش على الدوام على كف عفريت.. وحيث لا يجب أن يسمح لطرف واحد بإعادة صياغة المنطقة وفق مشروعه الخاص. وعلى الدول العربية، والخليجية منها بشكل خاص، أن تستخدم كل نفوذها من أجل منع إسرائيل من الانتصار، لا أن تدعمها في السر والعلن، وأن يعاد هندسة العلاقات الإقليمية على أسس التوازن، والشراكة، والحوار، لا على منطق الغلبة العسكرية.. وخلاف ذلك سيجعل العرب يندمون ندما عظيما على تفكيك إيران لصالح الهيمنة الإسرائيلية، كما ندموا على سقوط العراق.. وفي الحقيقة كما ندموا على أشياء كثيرة جدا حصلت بعد سقوط العراق.
تحتاج منطقتنا في هذه اللحظة التاريخية إلى مزيد من العقل والحكمة والفهم لبناء التوازن والقدرة على رسم معادلة الاستقرار.. ولذلك لا يجب السماح بأي حال من الأحوال لإسرائيل أن تنتصر في هذه الحرب لأن ذلك سيكون على حساب استقرار المنطقة وقدرتها على الحفاظ على هويتها وثقافتها وأمنها.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»