توماس فريدمان: إسرائيل اندفعت بشكل أعمى إلى حرب بأهداف متناقضة
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
قال الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، إنه يشعر بالقلق على "إسرائيل"، لأنها تتصرف بغضب أعمى في عدوانها على غزة، وتهدف إلى تحقيق هدف بعيد المنال، وهو محو حماس من على وجه الأرض، دون خطة للصباح في اليوم التالي وفق وصفه.
وأوضح فريدمان في مقال له بصحيفة نيويورك تايمز، ترجمته "عربي21" أنه من خلال الغضب الأعمى الذي يقود إسرائيل، فإنه يمكن لها أن تظل عالقة إلى الأبد في غزة، ومعترفة بكل أمراضها ومضطرة إلى حكم 2 مليون شخص وسط أزمة إنسانية، فضلا عن تشويه سمعة الجيش الإسرائيلي، الذي كان يحاول استعادة ثقة الإسرائيليين.
وتابع: "بصراحة، عدت بذاكرتي إلى أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، وسألت نفسي، ما الذي كنت أتمنى أن أفعله أكثر قبل أن نطلق حربي الانتقام والتحول في أفغانستان والعراق، اللتين دفعنا فيهما ثمنا باهظا؟".
وأضاف: "أتمنى لو كنت قد جادلت بشأن ما قالته وكالة المخابرات المركزية حول ما أطلق عليه الفريق الأحمر، وهو مجموعة من ضباط المخابرات خارج التسلسل القيادي العسكري أو السياسي المباشر، والذين كانت مهمتهم الرئيسية هي فحص خطط الحرب وأهدافها في العراق وأفغانستان واختبار الضغط، من خلال اقتراح بدائل متعارضة لأهداف قابلة للتحقيق لاستعادة الأمن والردع الأمريكي. وأن يتم نشر توصيات الفريق الأحمر على الملأ قبل خوضنا الحرب".
وكما قال لي مسؤول كبير متقاعد في الاستخبارات الأميركية: إن الدور الذي لعبته الخلية الحمراء التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية في حل المشاكل الشائكة الأخرى "كان يتمثل في مساعدة حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ القرارات بأعين مفتوحة وشراء المخاطر، ولكن ليس القضاء عليها، إن اتخاذ قرارات مستنيرة ليس علامة ضعف، وأعتقد أن الخلية الحمراء هي أداة عظيمة لتقييم الخيارات البديلة والتأثيرات المحتملة من الدرجة الثانية والثالثة، وهو ما يجب على قادة إسرائيل أن يكونوا صارمين وليس فقط عاطفيين في هذه اللحظة من الزمن".
وقال فريدمان: "أقترح على إسرائيل تشكيل ليس فقط فريقا أحمر لكيفية التعامل مع حماس في غزة، ولكن أيضا فريقا أزرقا لانتقاد الفريق الأحمر، تحتاج إسرائيل إلى إجراء نقاش داخلي أكثر قوة، لأنها اندفعت بشكل واضح إلى حرب ذات أهداف متعددة متناقضة".
وشدد على أن "هدف إسرائيل المعلن هو استعادة جميع الرهائن المتبقين لديها الذين يبلغ عددهم الآن أكثر من 130 جنديا ومدنيا بينما تقوم بتدمير حماس وبنيتها التحتية مرة واحدة وإلى الأبد، بينما تفعل ذلك بطريقة لا تتسبب في وقوع خسائر في صفوف المدنيين في غزة أكثر مما تتسبب فيه فعليا، ويمكن لإدارة بايدن أن تدافع، ودون أن تترك إسرائيل مسؤولة عن غزة إلى الأبد وتضطر إلى دفع فواتيرها كل يوم"، وعلق ساخرا "بالتوفيق في كل ذلك".
وقال إنه لو كان هناك فريق أحمر، فسيقول لإسرائيل: " إن الجيش ومجلس الوزراء اندفعوا إلى غزة في هذه الحرب، ويبدو أنهم لم يخططوا قط لأي لعبة نهائية، وتجد إسرائيل نفسها الآن في مأزق صعب، حيث دفعت ما يزيد عن مليون مدني من شمال غزة إلى الجنوب لإبعادهم عن القتال، وفي الوقت الذي حاولت فيه القضاء على جميع مقاتلي حماس في مدينة غزة وضواحيها، لكن الآن، فإن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها إسرائيل نقل الحرب البرية إلى جنوب غزة حول خان يونس، حيث يشتبه أن كبار قادة حماس يختبئون في الأنفاق تتلخص في التحرك عبر هذه الكتلة من النازحين وخلق المزيد منهم".
وأشار إلى أنه في مواجهة هذا المأزق، "يقترح الفريق الأحمر الإسرائيلي بديلا جذريا، يجب على إسرائيل أن تدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار يعقبه انسحاب إسرائيلي فوري لجميع القوات العسكرية في غزة بشرط أن تعيد حماس جميع الرهائن الذين تحتجزهم. وقد غادر مدنيون وعسكريون، وأي قتلى، لكن حماس لن تحصل على أي سجناء فلسطينيين في المقابل، مجرد صفقة نظيفة انسحاب إسرائيلي ووقف دائم لإطلاق النار مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين يزيد عددهم عن 130".
وأضاف: "الجميع سيفهم، أن إسرائيل تحتفظ بحقها، في تقديم كبار قادة حماس الذين خططوا لهذه المذبحة إلى العدالة في المستقبل، وكما فعلت بعد مذبحة ميونيخ، فإن إسرائيل ستفعل ذلك بالمشرط، وليس بالمطرقة".
وأشار إلى أن هذه الاستراتيجية، ستحقق للاحتلال 5 مزايا، وتابع: "أولا، قد يجادل الفريق الأحمر، بأن كل الضغوط من أجل وقف إطلاق النار لتجنيب المدنيين في غزة المزيد من الموت والدمار سوف تقع على عاتق حماس، وليس على إسرائيل. فلتقل حماس لشعبها الذي يعيش تحت البرد والمطر وللعالم إنها لن توافق على وقف إطلاق النار مقابل ثمن إنساني مجرد يتمثل في إعادة جميع الرهائن الإسرائيليين".
وقال إن هذا سيضمن "عدم حصول حماس على أي نصر سياسي كبير، من هذه الحرب، مثل إجبار إسرائيل على إطلاق سراح جميع الفلسطينيين، الذين يقبعون في سجونها والذين يزيد عددهم عن 6000 مقابل إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس، بل ستكون مجرد صفقة نظيفة، وقف دائم لإطلاق النار مقابل الرهائن الإسرائيليين، نقطة، يمكن للعالم أن يفهم ذلك، لنرى حماس ترفضه وتعلن أنها تريد المزيد من الحرب".
وأضاف: "ثانيا، قد يشتكي البعض، وربما الكثير، في إسرائيل من أن الجيش لم يحقق هدفه المعلن المتمثل في القضاء على حماس، وبالتالي كان ذلك انتصارا لحماس. وسوف يرد الفريق الأحمر بأن الهدف كان غير واقعي، وخاصة مع عدم رغبة الحكومة الإسرائيلية اليمينية في العمل مع السلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالا في الضفة الغربية لبناء بديل لحماس لإدارة غزة".
ورأى بأن "ما ستحققه إسرائيل، كما يقول الفريق الأحمر، هو إرسال رسالة ردع قوية إلى حماس وحزب الله في لبنان، بأنكم تدمرون قرانا، وسوف ندمر قراكم 10 مرات أكثر، هذه أشياء قبيحة، لكن الشرق الأوسط عبارة عن غابة هوبزية، إنها ليست الدول الاسكندنافية".
وتابع: "فكروا بذكاء في الأمر، في أعقاب وقف إطلاق النار الدائم هذا، سيتعين على يحيى السنوار، زعيم حماس، أن يخرج من نفقه، وينظر إلى الشمس، ويواجه شعبه للمرة الأولى منذ ذلك الحين، نعم، في الصباح التالي لخروجه، سيحمله العديد من سكان غزة على أكتافهم ويغنون باسمه لأنه وجه مثل هذه الضربة القوية لليهود".
وأضاف: "لكن في صباح اليوم التالي، كما توقع الفريق الأحمر، سيبدأ العديد من الذين يحملونه بالتهامس له: سنوار، بماذا كنت تفكر؟ أصبح منزلي الآن كومة من الأنقاض ومن سيعيد بنائه؟ لقد اختفت وظيفتي في إسرائيل التي كانت تطعم عائلتي المكونة من 10 أفراد كيف سأطعم أطفالي؟ أنت بحاجة إلى أن تقدم لي بعض المساعدة الإنسانية الدولية ومنزلا ووظيفة جديدين وكيف ستفعل ذلك إذا واصلت إطلاق الصواريخ على اليهود؟".
وقال إنه "مع خروج إسرائيل، فإن الأزمة الإنسانية التي خلقتها هذه الحرب في غزة ستصبح مشكلة السنوار وحماس كما ينبغي أن تكون، كل مشكلة في غزة ستكون خطأ السنوار، بدءا بالوظائف".
وتابع فريدمان: "ثالثا، قد يجادل الفريق الأحمر الإسرائيلي بأن هذا سيخلق نفس نوع الردع لحماس الذي أحدثه القصف الإسرائيلي المدمر للمجتمعات المؤيدة لحزب الله في الضواحي الجنوبية لبيروت في حرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، ولم يجرؤ زعيم حزب الله حسن نصر الله قط على إثارة حرب واسعة النطاق مع إسرائيل منذ ذلك الحين".
ويضيف الفريق الأحمر أن الضرر الذي ألحقته إسرائيل بحماس وغزة لن يخلق ردعا مماثلا فحسب، بل ستفعل أيضا حقيقة أن إسرائيل تستطيع الآن إعادة تصور وتعزيز دفاعاتها الحدودية، لقد أظهرت حماس لإسرائيل أين تكمن كل نقاط ضعفها وكيف قامت بتهريب الكثير من الأسلحة، ويمكن لإسرائيل الآن التأكد من أن هذا لن يحدث مرة أخرى أبدا.
رابعا، إحدى أكبر الفوائد الاستراتيجية لخروج إسرائيل من غزة في مقابل وقف إطلاق النار تحت مراقبة دولية هو أنها تستطيع بعد ذلك تكريس اهتمامها الكامل لحزب الله في جنوب لبنان، حزب الله وإيران لن يرغبا في ذلك، إنهم يريدون أن تكون إسرائيل منهكة عسكريا بشكل دائم وأن تضطر إلى الاحتفاظ بقسم كبير من قوات الاحتياط التي يزيد عددها عن 300 ألف جندي، الذين يقودون اقتصادها، في حالة تعبئة دائمة لحكم غزة.
كما أنهم يريدون أن يتحمل الاقتصاد الإسرائيلي طاقته بشكل دائم لدفع ثمن ذلك، ويريدون أن ترهق إسرائيل أخلاقيا من خلال امتلاكها الأزمة الإنسانية في غزة بشكل دائم، بحيث لا تشرق الشمس كل يوم في غزة، ولا يهطل المطر، ولا تتدفق الكهرباء، ويقول العالم إن ذلك خطأ إسرائيل، ولا يمكن لأسوأ أعداء إسرائيل أن يصمموا لها مصيرا أسوأ، وهذا ما يصلي من أجله حزب الله وإيران.
وقال: "أخيرا، قد يجادل الفريق الأحمر الإسرائيلي بأن لدى إسرائيل علاجا مهما يجب القيام به في الداخل، حدث هذا الهجوم المفاجئ لأن إسرائيل كان لديها رئيس وزراء، بنيامين نتنياهو، الذي مزق البلاد من خلال محاولته القيام بانقلاب قضائي مجنون والذي حكم إسرائيل لمدة 16 عاما بإستراتيجية تقسيم الجميع المتدينين والعلمانيين، من اليسار من اليمين، الأشكناز من السفارديم، العرب الإسرائيليون من اليهود الإسرائيليين، مما يضعف جهاز المناعة في البلاد، ولا يمكن لإسرائيل أن تتعافى داخليا وأن تستأنف مشروعها المتمثل في تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب وإقامة علاقة مستقرة مع القيادة الفلسطينية الأكثر اعتدالا في الضفة الغربية إلا إذا تمت إزالة نتنياهو، إذا استمرت الحرب إلى الأبد وهذا لن يحدث أبدا، وهذا بالضبط ما يريده نتنياهو".
وردا على هذه الفكرة قال فريدمان: "ولكن الآن يأتي الفريق الأزرق الإسرائيلي. ماذا سيقول عن الفريق الأحمر؟ حسنا، أولا، سيسألك، ماذا ستفعل إذا قال السنوار ببساطة لا، لن أقبل مجرد وقف إطلاق النار، وأحتاج إلى إخراج ما يزيد عن 6000 سجين من السجون الإسرائيلية وسأدفع الثمن أمام الرأي العام الغربي. الرأي للصمود بالنسبة لهم؟ ثم إسرائيل عالقة مرة أخرى".
سيقول الفريق الإسرائيلي الأزرق: لدينا فكرة أفضل. أولا، خفض مستوى أهدافنا، نعلن أن هدف الجيش ليس محو حماس من على وجه الأرض، بل تقليص قدرتها القتالية بشكل كبير.
وأضاف: "لأننا في الواقع، كما يقول الفريق الأزرق، لا نؤمن بالردع، لم يتم ردع حزب الله حقا منذ عام 2006. وهذا مجرد وهم، إن إيران تنقذ حزب الله فقط لليوم الذي ستهدد فيه إسرائيل برنامجها النووي، نحن أعضاء الفريق الأزرق نؤمن بأهمية التقليل المستمر لقدرات أعدائنا. وبمجرد أن نقوم بتقليص قدرات حماس إلى حد كبير، فإننا لن نبقى في غزة إلى الأبد حتى نقتل كل زعيم".
وبدلا من ذلك، سوف ننسحب وننشئ محيطا ومواقع استيطانية على بعد ميل واحد داخل الحدود بين غزة وإسرائيل لضمان عدم تعرض مجتمعاتنا الحدودية للهجوم برا مرة أخرى كما حدث في 7 أكتوبر، وسنفعل ذلك للتأكيد على ذلك لدينا القدرة والنوايا للعودة متى شئنا إذا استمرت حماس في إطلاق الصواريخ علينا، إذا أرادت حماس مبادلة رهائننا بالسجناء، فيمكننا أن نتحدث، أما بالنسبة للحكم في غزة، فإن حماس المتضائلة تستطيع البقاء في السلطة، وإذا كان هذا هو ما يريده أهل غزة، فلتكن حماس مسؤولة عن الماء والكهرباء.
وأخيرا، سيقول الفريق الأزرق للقيادة السياسية الإسرائيلية: "توقف عن الكذب على نفسك وعلى الجمهور. إذا حاولنا احتلال غزة بأكملها والاحتفاظ بها، فإن غزة لن تبتلعنا في النهاية فحسب، بل ستخلقون أنتم أيها السياسيون شكوكا كبيرة في ذهن الجمهور حول الجيش من خلال إعطائه هدفا غير قابل للتحقيق، ولا تستطيع إسرائيل ببساطة تحمل المزيد من الشكوك حول الجيش ثانية".
باختصار، تحتاج إسرائيل إلى هذا النوع من النقاش الداخلي، حيث يستطيع الفريق الأحمر الإسرائيلي والفريق الأزرق تذكير قيادة البلاد بأنه لا توجد نتيجة مثالية تنتظر إسرائيل في غزة، إن إصلاح غزة مرة واحدة وإلى الأبد كان دائما ضربا من الخيال.
وختم مقاله بالقول: "لكن إليكم ما ليس خيالا، التاريخ الحقيقي للعلاقات بين إسرائيل وحماس. أنها بسيطة جدا. إنها الحرب، الهدنة، الحرب، الهدنة، الحرب، الهدنة، الحرب، الهدنة …. إن حماس تزدهر في الحروب، لأن هذا هو كل ما يمكنها تقديمه وكل ما وجدت من أجله، تزدهر إسرائيل في فترات التوقف الطويلة، في وقف إطلاق النار، عندما تبرز كل نقاط قوتها المجتمعية والاقتصادية والابتكارية في المقدمة، وتريد إيران وحماس وحزب الله جر إسرائيل إلى حالة حرب دائمة، لذلك تحتاج إسرائيل إلى فريق أحمر وفريق أزرق للدعوة بدلا من ذلك إلى وقف إطلاق النار لفترة أطول، وإلى حدود أكثر تشددا، وإلى المرونة اللازمة للعودة إلى غزة إذا أجبرتها حماس على ذلك".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة غزة حربي غزة الاحتلال دمار حرب صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وقف إطلاق النار الفریق الأزرق إسرائیل إلى إسرائیل أن إسرائیل من المزید من إلى الأبد حزب الله من خلال فی غزة
إقرأ أيضاً:
حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه
في 19 مارس/ آذار 2024، ألقى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش خطابًا في العاصمة الفرنسية باريس، ظهر فيه على منصة دعائية خُصصت لفعالية تحمل خريطة مثيرة للجدل، تضم فلسطين، والأردن تحت مسمى واحد: "إسرائيل".
الخريطة التي كانت تحمل شعار إحدى المنظمات الصهيونية، تعكس تصورًا أيديولوجيًا توسعيًا يقوم على أن "إسرائيل الكبرى" تمتد لتشمل كامل الأراضي بين البحر والنهر، بل وتمتد أيضًا لتشمل الضفة الشرقية لنهر الأردن.
وجاء هذا المشهد متقاطعًا مع خطاب آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب في 15 أغسطس/ آب 2024، أعرب فيه عن دهشته من ضآلة مساحة "إسرائيل"، مقارنة باتساع المنطقة المحيطة، متسائلًا: "هل من طريقة يمكن أن تحصل بها إسرائيل على مزيد من الأراضي؟".
هذه التساؤلات وإن جاءت مغلّفة بلغة سياسية معاصرة، إلا أنها تعكس امتدادًا لخطاب استيطاني إحلالي قديم، لطالما استهدف شرق الأردن كجزء من الطموحات التوسعية الصهيونية.
البدايات الاستعمارية للفكرة: من لينش إلى أوليفانتمنذ منتصف القرن التاسع عشر، استهدفت المشاريع الاستعمارية الغربية -وفي مقدمتها المشروع الصهيوني- الأراضي الأردنية باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لفلسطين التوراتية.
فقد أرسلت الحكومة الأميركية عام 1848 بعثة بحرية بقيادة الضابط وليم فرانسيس لينش إلى نهر الأردن والبحر الميت، في أول مهمة رسمية ذات أهداف تتجاوز الجانب العلمي، وصولًا إلى البحث في إمكانية إنشاء وطن قومي لليهود في شرق الأردن، بما يشمل "ترحيل السكان المحليين إلى محميات بشرية"، على حد تعبير الوثائق المعاصرة.
إعلانلينش، في تقاريره، لم يُخفِ انحيازه الأيديولوجي. فقد شبّه السكان المحليين بـ"الهنود الحمر" في أميركا، وعقد مقارنة مثيرة بينهم وبين السكان الأصليين في أميركا "الهنود الحمر"، الذين رأى أنهم كانوا متوحشين وتحولوا إلى متمدّنين بفضل الاستيطان الأوروبي.
وبهذا المنطق الاستعماري، استنتج لينش أن سكان شرق الأردن "عكسوا" تلك المسيرة، وأن استبدالهم ضروري لتحقيق التقدم. في تقريره، تنبأ لينش بأن "تفكك الإمبراطورية العثمانية"، سيُمهد لعودة اليهود إلى فلسطين، وصرح عقب رفع العلم الأميركي في المنطقة بأن ذلك "قد يبشّر بإحياء الشعب اليهودي".
لم تكن أفكار لينش استثناءً. في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات مماثلة. فقد دعا يهوشع يلين، أحد مؤسسي مستوطنة "نحلات شيفع" في القدس، إلى توسيع الاستيطان نحو شرق الأردن.
وفي عام 1871، أسس شركة بالتعاون مع رجال أعمال يهود، وادعى أنهم توصلوا إلى اتفاق مع بعض شيوخ عشيرة "عرب النمر" لفلاحة أراضي غور النِّمرين شمال شرقي البحر الميت.
وفي السياق نفسه، قدّم الضابط البريطاني في سلاح الهندسة السير تشارلز وارن، وهو أحد الباحثين المرتبطين بـ"صندوق استكشاف فلسطين"، مقترحًا صريحًا لتوسيع الاستيطان اليهودي شرقي نهر الأردن.
دعا وارن إلى تأسيس شركة استيطان تستأجر الأراضي من الدولة العثمانية مقابل سداد جزء من ديونها الخارجية، وذلك ضمن إطار رؤية استعمارية تجمع بين الطموح الصهيوني، والمصالح الإمبريالية البريطانية.
ومن أبرز الشخصيات الأوروبية التي قدمت دعمًا نظريًا وميدانيًا للمشروع الاستيطاني الصهيوني في شرق الأردن كان لورانس أوليفانت. ففي عام 1889، نشر الطبعة الأولى من كتابه النادر: "أرض جلعاد"، والذي دوّن فيه مشاهداته وآراءه عقب رحلته إلى لبنان، وسوريا، وفلسطين، وشرق الأردن في عام 1880.
إعلانرأى أوليفانت في أراضي شرق الأردن "مساحات خصبة صالحة لأقصى درجات التطوير الزراعي"، مؤكدًا أن توفر الموارد الطبيعية والظروف المناخية، يجعل من هذه المنطقة هدفًا استثماريًا جذابًا للمهاجرين اليهود.
في تحليله للسكان المحليين، أشار أوليفانت إلى أن العشائر الأردنية المتجولة "لا تملك سندًا قانونيًا للأرض"، مما يجردهم -من وجهة نظره- من أي شرعية في الوجود.
بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وصفهم بأنهم نشروا "الخراب والفوضى"، وأن تهجيرهم إلى الصحراء التي جاؤُوا منها هو "الحل المنطقي"، على حد تعبيره.
أما المنطقة التي اقترحها للاستيطان اليهودي، فشملت كامل إقليم البلقاء من وادي الموجب جنوبًا إلى نهر الزرقاء شمالًا، وتمتد شرقًا إلى درب الحاج، وحتى أجزاء من عجلون شمال نهر يبوق (الزرقاء)، بمساحة تقارب مليونًا ونصف المليون هكتار، بحدود غربية تصل إلى نهر الأردن وساحل البحر الميت.
مشروع أرض مدينلم تكن المحاولات الصهيونية للتمدد شرق نهر الأردن حكرًا على لورانس أوليفانت، بل مثّلت جزءًا من توجّه استعماريّ أوسع تجاوز الشخصيات الفردية وتحول إلى مشاريع متكاملة تقودها شخصيات، وجمعيات، ومؤسسات.
في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، حاول الثري اليهودي الألماني الأصل، بول فريدمان، تنفيذ مشروع استيطاني استعماري مشابه، ولكن هذه المرّة في منطقة مدين جنوب شرق الأردن، بدلًا من "جلعاد" التي كان أوليفانت يركز عليها.
نشر فريدمان في عام 1891 كُتيبًا من 18 صفحة بعنوان: "أرض مدين" في برلين، عارضًا فيه تصورات جغرافية واقتصادية وسكانية عن المنطقة، مدعومة بإحصاءات تفيد بأن عدد سكانها الأصليين حينها بلغ نحو 23 ألف نسمة.
وقد وُجّه هذا الكتيب إلى شخصيات يهودية نافذة في بريطانيا، والنمسا، وألمانيا بهدف كسب الدعم السياسي والمالي للمشروع. حاول فريدمان إقناع المهاجرين اليهود بأن السكان المحليين سيرحبون بهم، زاعمًا أن سكان العقبة ينحدرون من عشيرة يهودية تُدعى "بني سبت" احتفظت ببعض التقاليد الدينية اليهودية، واستنتج أن مدين كانت في الماضي جزءًا من الكيان اليهودي القديم.
إعلانقام فريدمان بتجنيد خمسين متطوعًا من علماء ومهندسين وجغرافيين، إضافة إلى ثلاثين عائلة يهودية مهاجرة. تلقى هؤلاء تدريبات عسكرية في معسكرات خاصة بهنغاريا، والنمسا، بإشراف ضابط ألماني يُدعى لوثر فون سيباخ، بمشاركة ضباط يهود من النمسا.
وخصص فريدمان يختًا تجاريًا أطلق عليه اسم "إسرائيل"، حمّله بالمتطوعين، وكميات كبيرة من الذخائر والأسلحة وفّرها له الجيش النمساوي، ثم أبحر من ميناء ساوثهامبتون البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1891، تحت العلم النمساوي. انضمّ إلى الحملة خلال توقفها في الإسكندرية عدد من اليهود المصريين الناطقين بالعربية، وتوجهت السفينة إلى منطقة "الطور" قرب مدين، حيث نُصبت الخيام وأُنشئ معسكر في وادٍ قريب.
نجح فريدمان في شراء قطعة أرض قرب قلعة المويلح، وشرع بمحاولات إضافية لشراء مزيد من الأراضي في المنطقة. ومع أن المشروع انهار في نهاية المطاف، بعد أن كلّفه ما يعادل 170 ألف مارك ألماني، إلا أن فريدمان أصر على "إنقاذ الشرف اليهودي"، وفقًا لتعبيره، ورفع دعوى ضد الحكومة المصرية مطالبًا بتعويض قدره 25 ألف جنيه إسترليني، كما حاول إعادة تمويل المشروع لاحقًا.
مشاريع استيطانيةفي ذات العام (1891)، أعلن إلياهو شيد، المسؤول عن مستوطنات البارون روتشيلد، نية البارون شراء أراضٍ شرقَ الأردن لتوطين ألف مستوطن، يليهم لاحقًا آلاف آخرون. أُثيرت تساؤلات حول البنية التحتية، فأكد شيد أن خططًا قائمة لتعبيد الطرق، بل وتُدرس مشاريع مثل مدّ خط سكة حديد أو قناة مائية تربط البحر الأبيض المتوسط ببحيرة طبريا.
وفي السياق ذاته، قام الحاخام شموئيل موهيلبر، أحد مؤسسي حركة "أحباء صهيون" في روسيا، بجولة ميدانية شرق الأردن، وأعد تقريرًا خلص فيه إلى أن الاستيطان هناك أفضل من الجليل، من حيث جودة الأرض وتكلفة شرائها، شرط وجود "مائة عائلة قادرة على مواجهة أخطار البدو".
إعلانومن روسيا أيضًا، كتب يهوشع سيركن، أحد زعماء الجماعات اليهودية في مينسك، تقريرًا يؤكد فيه خصوبة الأراضي ورخصها شرق الأردن، معتبرًا أن مخاوف الاعتداءات البدوية لا أساس لها من الصحة، وداعيًا إلى توطين عشرات الآلاف من الصهاينة فيها.
وقد أبدت جماعة يهودية من مدينة فيلنه السوفياتية اهتمامًا مباشرًا بالاستيطان، إذ قررت إرسال ممثل لدراسة شروط الإقامة في شرق الأردن. وفي مايو/ أيار 1891، قدمت عشرون عائلة يهودية ميسورة من باكو طلبًا إلى أ. زافشتاين، تستفسر فيه عن إمكانية شراء أراضٍ للاستيطان في المنطقة.
تكررت هذه المحاولات لاحقًا. ففي عام 1893، حاول هنري دي أفيغدور شراء أراضٍ في منطقة حوران لتأسيس قاعدة استيطانية، إلا أن المشروع فشل نتيجة رفض الدولة العثمانية، وغياب الدعم اليهودي الكافي.
وفي العام نفسه، قدم أفيغدور، بالتعاون مع صموئيل مونتاغو وباسم جمعية "أحباء صهيون"، التماسًا إلى السلطان عبدالحميد الثاني للسماح بالاستيطان شرق الأردن، بعد أن فُرضت قيود على شراء الأراضي داخل فلسطين.
كما طرح الدكتور بوهلندورف خطة لجمع عدد كبير من اليهود في شرق الأردن، وتنظيم عمليات مقاومة مسلحة ضد السكان البدو، بهدف تهجيرهم وتأسيس قاعدة لما وصفه بـ"الدولة اليهودية".
في خضم هذه التحركات، برزت قضية الأراضي السلطانية (الجفالك) التي نُقلت ملكيتها من السلطان عبدالحميد إلى الخزينة العامة عقب عزله عام 1909. وقد طلب نجيب إبراهيم الأصفر – إحدى الشخصيات اللبنانية النافذة- امتيازًا لاستئجار هذه الأراضي مقابل قرض بمائة مليون فرنك، شريطة استصلاحها وبيعها لاحقًا للزراع. لاحقًا، تبيّن أن شركة بلجيكية ذات صبغة صهيونية كانت المستأجر الفعلي، في محاولة للالتفاف على التشريعات العثمانية.
كشفت صحف سورية وفلسطينية، على رأسها جريدة الكرمل، هذه الصفقة، محذّرة من خطورة المشروع على الوجود العربي في جنوب سوريا، وفلسطين، وشرق الأردن، ومسلّطة الضوء على دور جمعية "فلسطين اليهودية" خلف الكواليس.
إعلان خطة روتنبرغ (1936): الترحيل الممنهجفي عام 1936، قدّم بنحاس روتنبرغ، أحد أبرز رموز المشروع الصهيوني الاقتصادي، خطة استيطانية طموحة تستهدف جانبي وادي نهر الزرقاء في شرق الأردن. قامت الخطة على تقسيم استيطاني دقيق، حيث تُخصّص الضفة الجنوبية للفلاحين العرب، فيما تُخصّص الضفة الشمالية للمستوطنين اليهود.
جاء هذا المشروع ضمن سياق أوسع يسعى لخلق تواصل جغرافي بين المستوطنات اليهودية في غور بيسان والباقورة، من جهة، والمناطق المستهدفة شرقي نهر الأردن، من جهة أخرى، بما يعزز السيطرة الصهيونية على مفاصل زراعية ومائية حيوية.
واقترحت الخطة إنشاء شركة خاصة برأس مال يصل إلى مليوني جنيه فلسطيني، يُخصص نصف هذا المبلغ لتمويل عملية إعادة توطين الفلاحين الفلسطينيين المُرحّلين من أراضيهم داخل فلسطين إلى أراضٍ جديدة في شرق الأردن، بينما يُخصص النصف الآخر لتوطين المستوطنين الصهاينة في المنطقة نفسها.
تُظهر خطة روتنبرغ هذا المزج الدقيق بين الطابع الاستيطاني الإحلالي والآليات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى لإضفاء مشروعية إدارية واستثمارية على مشروع جغرافي- سياسي قائم على الترحيل الطوعي للعرب والتوطين المنظم لليهود.
كما تعكس الخطة انخراطًا صهيونيًا متقدمًا في معادلة شرق الأردن، في وقت كان يُفترض فيه أن هذا الإقليم خارج حدود "وعد بلفور" المعلن رسميًا عام 1922.
أخيرًا، رغم فشل تلك المخططات المتعددة والمتتالية، فإن الأطماع الصهيونية في شرق الأردن لم تنتهِ، بل ظلت كامنة وتظهر كلما توفرت الفرصة، كما في التصريحات العلنية الأخيرة لرموز سياسية إسرائيلية، والتي تؤكد أن الأردن، بموقعه وحدوده، لا يزال في "عين العاصفة" ضمن التصور التوسعي للمشروع الصهيوني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline