الصورة والرقم في #سرديات_الحرب – #ماهر_أبوطير
يخضع “العقل الجمعي” لإدارة ذكية احيانا، ومتذاكية في مرات أخرى، فالذي يريد ان يخيفك من قوة اسرائيل، يغرقك بصور وارقام الخسائر البشرية والانسانية في غزة، والذي يريد ان يمجد محاربة اسرائيل يمطرك بصور وارقام الخسائر في اسرائيل، وبينهما يتم توظيف الصورة، والرقم، في لعبة السيطرة على “العقل الجمعي” للجمهور العربي والدولي بشكل عام.
توظيف الصورة يجري يوميا كما اشرت، احيانا يتم حقن العصب العام بالصور المؤلمة للشهداء من الرجال والنساء والاطفال، والجرحى، والقصف الحي على الهواء مباشرة، والبيوت المهدومة، فيشعر من يتلقى هذه الجرعة بالألم، والغضب، وفي المقابل يتم بث صور الاحتلال وقصف جنودهم، وقتلهم، وتدمير معداتهم، واطلاق الصواريخ عليهم، وفي الحالتين يكون المشاهد امام صور متباينة ومختلفة من الحرب، تارة تخفض المعنويات وتؤذيها، وتارة ترفعها وتزيد قوتها.
الإدارة للعقل الجمعي هنا، لا تجري دون تخطيط على الأغلب، لأن من يخطط لإدارة “العقل الجمعي” والسيطرة عليه، يريد اخذه الى نقطة محددة، قد تكون تعزيز معاداة اسرائيل، وقد تكون مضاعفة الخوف من اسرائيل، وقد تكون تكريس فكرة مقاومتها والوقوف ضدها دون خوف او وجل، وقد تكون مصممة بطريقة تهدف للتسبب بمشاعر الندم ازاء محاربة اسرائيل.
مقالات ذات صلة تحولات لصالح المقاومة 2023/12/12الادارة هنا لا توظف الصورة فقط، بل للارقام، تارة يتم الكلام عن خسائر غزة، بهدف رسم صورة الاحتلال الحقيقية، لكن الارتداد النفسي قد يؤدي الى العكس، اي تعمد التسبب بمشاعر الضعف امام الاحتلال، حين يقال لك ان 60 بالمائة من بيوت وشقق قطاع غزة تهدمت كليا وجزئيا، مع عشرات آلاف الشهداء والجرحى، ونزوح الملايين، وتقديرات تتحدث عن خسائر اقتصادية تصل الى عشرين مليار دولار للاقتصاد الفلسطيني بما في ذلك قيمة البنى التحتية المدمرة، داخل قطاع غزة، وهذه الارقام المذهلة، تزيد صورة الاحتلال بشاعة لكنها في العمق تترك أثرا عند جزء محدود من الجمهور، تجعله لا يجاهر بالقول ان ضرب اسرائيل كان خطأ.
حرب ادارة “العقل الجمعي” لا تنسى تأثيرات الارقام فترد ايضا بطريقة مغايرة، وتتتحدث لك بلغة الارقام ايضا عن مقتل وجرح عشرات آلاف الاسرائيليين، وعن هروب مئات آلاف الاسرائيليين من شمال فلسطين المحتلة، ومستوطنات غلاف قطاع غزة من مساكنهم، وخسارة 800 ألف محتل لأعمالهم، والخسائر الاقتصادية التي تقدر بعشرات مليارات الدولارات في كينونة الاحتلال، بسبب اضرار الموانئ، والشحن، وتوقف السياحة، والبناء، وتضرر قطاع التكنولوجيا، اضافة الى كلف الحرب ذاتها، من حيث تمويل الحرب.
تأخذنا ادارة ” العقل الجمعي” الى نموذج آخر، حيث الكلام عن وقف الحرب، مقابل تحرير قرابة عشرة آلاف فلسطيني أسير لدى الاحتلال، فمن يعتبر ان اطلاق سراحهم مهمة وطنية، يعتبر ان كل هذه الحرب شرعية، مهما بلغت فيها كلف الدم والمال، حتى تتعلم اسرائيل ان لكل شيء ثمنا، مهما كان كبيرا، فيما تُسمع اصوات خافتة تقول ان اطلاق الاسرى بهذه الطريقة غير مفيد، لأن الفلسطينيين خسروا عشرات آلاف الشهداء، فما جدوى اطلاق عشرة الاف اسير، مقابل استشهاد عشرات الآلاف، واستمرار القتل، مع الكلام عن مواصلة اسرائيل لعمليات الاعتقال يوميا، وكأنها قادرة على اعادة جمع اعداد اكبر من الذين سيتم اطلاق سراحهم.
هذه مدخلات تتسرب بشكل مباشر، وغير مباشر، الى “العقل الجمعي”، على ارضية وطنية لا تتقصد الاساءة، او ارضية مسمومة تتعمد حرف الاستخلاصات في العقل الباطني للجمهور، لكن الواضح هنا ان كل المشهد يجب ألا يخضع فقط لحسابات الصورة والرقم، بل يجب ان يخضع لثلاثة امور فقط، اولها الى اين سيأذخنا الظرف الحالي بشكل استراتيجي، والحسابات العسكرية والسياسية، والنتائج النهائية التي سيحصل عليها الفلسطينيون نهاية المطاف، والتأثيرات الممتدة الى كل فلسطين، وربما المنطقة، والامر الثاني لا يرتبط بالصورة والرقم، بل بالحقيقة الاكثر ثباتا، اي ان هذا احتلال، وهذه جرائم احتلال ولا يمكن حرف المقارنات عبر الصورة والرقم وليس مقبولا محاولة التلاعب بالعقل الجمعي للجمهور، لان اشتقاق اي استخلاصات يجب ان يكون بداية الامر ونهايته لصالح لفلسطين وشعبها، والامر الثالث التنبه للدس والسم في السرديات الاعلامية التي تتدفق الينا بوسائل مختلفة، والتي تتعمد عبر التباكي على الفلسطينيين، تعزيز مشاعر الهزيمة والندم والرعب في انفس الناس.
الغد
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
تدمير المعنى: السلام أنموذجا
ربما من أصعب الأشياء التي يعيشها العالم منذ سنوات هي الحرب الضروس ضد المعنى والقيمة. هناك من تحدث عن سقوط إمبراطورية المعنى. وهناك من استسلم لسلسة الانقلابات الخطيرة التي بات يعرفها العالم وتأقلم معها، مع ما يعنيه ذلك من تفريط في المنطق والمعاني والقيم التي تمثل ال تنشئة الذهنية للإنسان بصرف النظر عن هويته وانتماءاته الفكرية والعقائدية والعرقية والحضارية.
من ذلك أن الفهلوة وحرير الكلام الذي يبلغ الكذب والنفاق أحيانا أصبحا من علامات الذكاء الاجتماعي والشطارة. كما أن النتيجة هي أهم من الطريقة المعتمدة لبلوغها، ولا مشكلة إذا كانت الطريقة غير شرعية وغير أخلاقية، فكل الطرق تؤدي إلى روما، والمهم هو الوصول إلى «روما» وبديلها لدى كل شخص.
يمكن القول إن أكبر هزيمة عرفتها الأجيال الراهنة هي هزيمة المعاني والصدمة القيمية التي يسمع صداها الموجعون والمهمشون والمقهورون في العالم اليوم وما أكثرهم.
لا يجب الاستهانة بالمرة بسقوط المعنى. فهو الحدث الذي بعده نفقد المرجعيات والأسس والمقاييس. بكل وضوح إننا نفقد هندسة العقل ويصبح المطلوب منا القبول بتفكير ناتج عن ذهن بهندسة البناء الفوضوي.
يمكن توضيح فكرتنا أكثر بالاستناد إلى السريالية كطريقة جمالية ننتقد بها الواقع. ما يحدث منذ سنوات هو الإصرار على تحويل السريالية إلى واقع والتعامل معه على أساس أنه غير سريالي. في هذا الإطار من الحرص المستمر على تحويل الواقع إلى سريالي من دون توصيفه بذلك، نضع مثالاً؛ نية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترشيح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام.
طبعاً أثار هذا الموضوع جدلا واسعا يصبّ في مجمله في حالة الصدمة من انقلاب المعنى والمعايير. بل إن هذه النية أشبه ما يكون بتتمة للعدوان الإسرائيلي على غزة في ما يمثله من قهر.
أول صدمة تمس العقل مباشرة أن يقترن شخص نتنياهو بكلمة السلام بصرف النظر عن الشخص المستفيد من الترشيح. هنا أول سؤال يطرحه العقل الطبيعي؛ أيّ علاقة بين نتنياهو والسلام؟ هل يعلم بوجود كلمة في اللغة تفيد معنى السلام؟ وإذا كان على علم؛ أليس هذا الرجل هو من أشد أعداء السلام والضاربين به عرض الحائط؟
لنتذكر أن لكل شيء حدودا، بما في ذلك الواقعية والاستسلام والقهر وتحويل الهوية الجنسية للمعاني. وتحت هذا السقف الأدنى من الحدود، فإن العقل لا يستطيع المحافظة على سلامته العقلية عندما يصل الأمر بشخص تسبب في قتل آلاف الأطفال والنساء وقصف المستشفيات ومنع المساعدات الغذائية عن أهالي غزة.
قد يقترح شخص آخر وقد يكون نفس الاقتراح مقبولاً ولكن هذا الأمر مستغرب ومستهجن جدا في حالة نتنياهو. هكذا يمكننا أن نفهم حالة الصدمة من صاحب الترشيح الذي لا نعتقد أن هناك، مع اختلاف المواقف، من يمكن أن يصل بينه وبين فكرة السلام أو الفعل السياسي الذي يهدف إلى خلق السلام. وأغلب الظن أن نتنياهو نفسه لا يصدق ذلك.
لنأتي إلى فكرة ترشيح السيد ترامب نفسها التي تبدو لنا منطلقاً للتفكير في مدى مصداقية ترشيح أي شخصية سياسية. ذلك أن هذه الجائزة المسيسة بطبيعتها، التي لم تمنح لأي معارض أو منتقد لإسرائيل وسياساتها، إنما تقوم على مفهوم خاص للسلام في الشرق الأوسط، أي السلام في عيون الحاكمين في إسرائيل، وليست جائزة في خدمة السلام في المطلق أو خارج المنظور الإسرائيلي.
وفي الحقيقة، فإن مبدأ ازدواجية المعايير في تحويل وجهة معنى السلام وإفراغه من معناه الأصلي ليس مسألة جديدة بسبب الطابع التسيسي للجائزة. كما أن منح جائزة لسياسي هي مسألة من حيث المبدأ تفتقد إلى المصداقية، السياسة عالم البراغماتية والمصالح والصداقات والعداوات غير الدائمة، في حين أن السلام فكرة مثالية نبيلة عالية المعنى والمكانة.
وهو ما يعني أنه من الصعب جدا أن يكون هناك سياسي يستحق جائزة حول السلام. فالسلام لا يقوم على مصلحة طرف واحد، وكل رجل سياسة لا يهمه شيء غير مصلحة بلاده، وإذا كان عكس ذلك فهو سياسي فاشل في تقييم أهل السياسة الجهابذة.
ومَن يعاين واقع الحال على الأرض منذ سنوات فإن السلام شبه غائب وحالة تكاد تكون شاذة، في حين أن التوتر والصراع هما القاعدة.
الشرق الأوسط