يحيى السنوار أديبًا وقائدًا.. قراءة في رواية الشوك والقَرنْفُل
تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT
لا يمكن النظرُ في رواية "الشوك والقرنْفُل" باعتبارها عملًا أدبيًا.. كاتبها نفسه، لم يكتبها لهذا الغرض، ولم يستعرض فيها قدراته التقنية في الحبكة والسرد والتشويق، لكنه تحرّى الصدق، والأمانة المعلوماتية، كما كان يفعل رواة الأحاديث، وإذا كنا لا نستطيع أن نقرأها فقط كعمل أدبي، فماذا يمكن أن نقرأ فيها؟
حسنًا، يمكننا أن نقرأ فيها رواية السنوار، أحداثَ وطنه، ومسيرتَه الشخصية والفكرية والوجدانية غير معزولة عما يمرّ به هذا الوطن وشبابه، وعما جربه فنجح فيه أو فشل.
كتب السنوار روايته في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وحرص أن يستخدم لقب "الأسير" في تقديم نفسه، وهذا التعريف، وحده، يعد مدخلًا مهمًا لفهم رموز القصة، وما يعنيه من ورائها.
اللقب الذي يعرف به نفسه على الغِلاف هو جزء من قصة المعاناة التي ترويها صفحات "الشوك والقرنفل"، وهي معاناة يعرفها الكاتب ويعيشها ويصورها، ويعرفها زملاؤه الأسرى الذين اعتبروا الرواية مشروعًا يعبّر عنهم، فساهموا في نسخ الصفحات وتهريبها خارج السجن، ليكونوا بذلك قد شاركوا في تجرِبة مقاومة مبدعة، لتوصيل صوت أريد له أن يكون مكتومًا.
اختار إبراهيم أن ينضم إلى المقاومة، كما اختار أن يعمل في البناء كمهنة لكسب الرزق، ولا تخفى رمزية المهنة التي اختارها المناضل هنا، فهو رجل يختار البناء، وقيامه بأعمال المقاومة لا يتعارض مع ذلك، بل يدعمه
وبهذا الفعل التعبيري القادم من وراء الجدران عام 2004، حوّل السنوار – ومن ورائِه زملاؤه الأسرى الذين نقلوا الرواية للخارج- تاريخَ المقاومة إلى قصة حية تشكل مصدرًا مهمًا لقوة شعب فلسطين، الذي يقدم بدوره نموذجًا للكفاح طويل المدى، يتشارك فيه الأبطال مشاعرَ الحزن والأمل، وقصص الحب.
يمكننا أن نتلمّس في هذه الرواية – بعيدًا عن النقد الأدبي- ملامح القيادة لدى شاب يحمل قضية، يعيشها كأنه يراها حتى وهو في غياهب السجون، فهل يكون غريبًا أن يقود كاتب هذه الرواية كفاحَ شعب فلسطين للحريّة والتحرير؟
وأن يكون هو القائد الذي يواجه قوة جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشمة، ويقود ثورة العقول الفلسطينية للتخطيط الصبور طويل النفس لتطوير قوة المقاومة لتحقق انتصارات لم يتوقّعها العدو؟
أول ما نلاحظه في الرواية من ملامح القيادة في هذا العمل الروائي، أن الكاتب يمتلك خيالًا جغرافيًا، فهو يحرّك أبطاله على أرض وطنه، الذي يعرف خصائص كل شبر فيه، وما يميّز كل قرية أو مدينة، الوطنُ- الذي يناضل من أجله- مترابطٌ في خياله، لم يتمكن الاحتلال من تغيير معالمه التاريخية، فخيال الكاتب القائد يحتفظ بالخارطة الحقيقيّة للوطن التي تطوّرت عبر التاريخ.
هو أيضًا يملك خيالًا اجتماعيًا، وذاكرة تحفظ عادات شعبه وتقاليده، ومزاجه ومفاتيحه، ومكامن قوته وضعفه، وما يمكن أن يقوم به هذا الشعب إذا أُحسن توجيهه.
فهو يقدم كيف يتميز هذا الشعب بارتباطه بأرضه، وقدرته على تحمل المعاناة، وتكافله الاجتماعي، قدّم ذلك من خلال الأُسرة التي اختار أن تكون بطلة أحداثه، منطلقًا من مخيم الشاطئ ذي الظروف البائسة في قطاع غزة، ونحن نرى كيف صمدت هذه الأسرة في وجه المحنة، وإصرارها على التغلب عليها.
كما نرى كيف أنّ اختلاف الآراء والاتجاهات السياسية داخل تلك الأسرة لم يدفع جلّ أولادها للبحث عن حل فردي، يحققون به سعادتهم الشخصية على حساب أسرتهم، لم يفعل ذلك في أحداث الرواية إلا شخصٌ وحيد من أبناء الأسرة، فنبذه أفرادها وعملوا على التخلّص منه.
لا يجد قارئ هذه الرواية صعوبة في تفسير رموزها، فالأسرة هي الوطن، وأبناؤها أبناؤه، واتجاهاتهم الفكرية هي ما تمور به الساحة الفلسطينية من آراء واجتهادات، هدفها الأخير هدف واحد، والكاتبُ يستخدم روايتَه، من خلال بطلَيها أحمد (الراوي)، وإبراهيم (القائد الحمساوي المناضل)، ليشرح رؤيته الشخصية للواقع ولطبيعة المعركة وللحلول.. هو يخوض عبرهما حالة من النقاش السياسي والفكري مع التيارات الأخرى في المجتمع الفلسطيني، يسعى أن يشرح لهم فكرة ويوضحها، ويسوق الحجج لدعمها.
وهنا نلاحظ حضور السنوار صاحب الرؤية والقضية غالبًا على حضور الروائي.. الرواية بالنسبة له هي حكاية الوطن، وما يقوله فيها محاولةٌ لشرح رؤيته لأبناء الوطن: (الفلسطيني أولًا، ثم العربي والإسلامي ثانيًا)؛ لجمعهم وراءها.
لا يغرق الكاتب في تعقيد الحبكة أو السرد والأحداث؛ لأن الهدف هو وضوح الرسالة، والرواية هي القضية والرسالة.
ملحوظة أخرى تؤكد أن الرواية في الحقيقة هي رسالة للأمة (كل الأمة) لتفهم القضيةُ، كما يريد السنوار أن يشرحها.. فهو – وهو الدارس للغة العربية في الجامعة الإسلامية- اختار أن يستخدم الفصحى وحدها في السرد والحوار، وعندما يضطر لاستخدام اللهجة الفلسطينية، يعيد شرح التعبير باللغة العربية، وهذا في رأيي يعود إلى سببَين؛ الأول: أنه- وهو ابن الحركة الإسلامية الفتية في ذلك الوقت- يريد أن تصل رسالته إلى كل الجماهير العربية، فيشرح لهم ما قد يبهم عليهم، والثاني: أنه انعكاس لأصالته كقائد شاب (في ذلك الوقت)، ينتمي لحركة إسلامية تعتبر اللغة الفصحى من أهم مكونات الهُوية.
مجتمع يوظّف مصادر قوتهتبدأ أحداثُ القصة بعد عام 1967، لتصوّر حياة أسرة في مخيم الشاطئ بغزة، في بيت تتساقط مياه الأمطار من سطحه على الأسرة في الشتاء.
الابن الأكبر (محمود) يدرس في مصر، ويعود مهندسًا، ينضم إلى حركة "فتح"، يسجن ويعذب بسبب ذلك، لكنه يقود المساجين في إضراب ينجح من خلاله في الحصول على بعض حقوقهم، ثم يخرج من السجن ليصبح رمزًا نضاليًا محبوبًا للأسرة، ولكنه يظل مدافعًا شرسًا عن رؤية "فتح" للحل، ولا سيما الحلول التي برزت في تلك الفترة التي شهدت اتفاق أوسلو.
الابن الأصغر (أحمد) هو راوي القصة، وهو يقلب نظره بين أخيه الذي يحمل أفكار "فتح"، وبين أفكار الحركة الإسلامية التي يحملها ابن عمه (إبراهيم)، ليتأثر في النهاية بأفكار الأخير، وينضم إلى حركة "حماس".
وهناك (إبراهيم)، البطل الآخر للقصة، قيادي طلابي نشط يحمل أفكار الحركة الإسلامية، ويعرض رؤيتها على مدار الرواية بفعله وقوله.
اختار إبراهيم أن ينضم إلى المقاومة، كما اختار أن يعمل في البناء كمهنة لكسب الرزق، ولا تخفى رمزية المهنة التي اختارها المناضل هنا، فهو رجل يختار البناء، وقيامه بأعمال المقاومة لا يتعارض مع ذلك، بل يدعمه.. ظل كلام إبراهيم صادقًا ومؤثرًا وملهمًا على طول العمل، وقد اختار البقاء في غزة لا يفارقها، رغم العروض والإغراءات؛ لأنه يؤمن بقضية وطنه.
الأم الفلسطينية حاضرة أيضًا، فنحن نرى كيف تلعب أم محمود دورًا مهمًا في المحافظة على الأسرة، ودفع كل أفرادها لتحقيق النجاح، وهي تصر على أن تختار زوجات أبنائها، اللاتي سيصبحن جزءًا من أسرتها الممتدة بقَبولهنّ الزواج في غرفة واحدة من غرف المنزل، وتقاسم أعباء الحياة مع بقية أفراد الأسرة.
في مرحلة مهمّة من الرواية يخوض (محمود) الفتحاوي جدلًا مع ابن عمه (إبراهيم) حول جدوى مفهوم "التربية والإعداد" الذي تتبنّاه الحركة الإسلامية إستراتيجيةً لها، ثم نكتشف من أحداث القصة كيف نجحت تلك الإستراتيجية في إعداد كثير من الشباب لمقاومة الاحتلال، ولذلك يشكل هذا المفهوم مِفتاحًا لفهم كثير من الأحداث، ولفهم رؤية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في نضالها من أجل تحرير فلسطين، كما أنه يساعدنا أيضًا في فهم كيف وصلنا إلى "طوفان الأقصى".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحرکة الإسلامیة اختار أن
إقرأ أيضاً:
قراءة التاريخ وعلاقته بالواقع.. رفاهية أم ضرورة؟
حين طلب مني الأصدقاء من إحدى المنصات أن أكتب المقالة الافتتاحية لمشروعهم التنويري النبيل، تقافزت أمامي كل الكتب والمقالات والقصص والمقاطع اليومية، لم يكن ما يتقافز أمامي كلماتٍ أو حروفًا؛ بل مصائر أناسٍ يعبث بهم ساسةٌ انتقلوا من الاهتمام بالمصير الجمعي، إلى النفع الشخصي، فترّدت أحوال الناس -الصعبة أساسًا- وبدأت تفقد الدول هويتها الراسخة وتذوب فـي الهويات الجديدة، ليقف المرء أمام حضارةٍ ضاربةٍ فـي القدم متسائلًا بذهولٍ يشبه ذهول المجنون الذي لا يصدق ما تراه عيناه: «أهذه حضارة كذا وكذا أم مسخ سينمائي مصغَّر؟».
إنني أُشبّه الأمة بالأرض والشجر؛ فالأرض الطيبة الخصبة تُنبت النباتات النافعة للبلاد والعباد، ولكنها لا تخلو من الحشائش الضارة التي يواظب المزارع المجتهد على اقتلاعها. وليست كلمة الاقتلاع هنا مجازيَّةً؛ لأن الحشائش الضارة -كما هو معروف عند أهل الزراعة- كالهيدرا ذات الرؤوس التسع، تتكاثر إن تم تقليمها، لكن نسبة الخلاص منها عالية إن حرص المزارع على اقتلاعها من جذورها. وهكذا المثقف الحقيقي فـي كل أمةٍ وأيةِ ثقافةٍ، يقتلع جذور الأفكار الخبيثة ويدركها ويعرفها بعينه الفاحصة وعقله المتقد الذي يرى جذور الشجرة العملاقة، ولا تُخلبه أغصانها الكثيفة أو جذعها الضخم الفارع، بل يرى ما تحت التراب ومبدأ البذرة الأولى فـي مهدها الأول.
كيف نقرأ التاريخ إذن؟ وما السياقات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم؟ وهل للأحداث التي تحدث اليوم جذور تاريخية أم أنها مُنبتَّةٌ عن تلك الجذور؟
إن التاريخ فـي كل البلدان واحدٌ لا يتغير مهما تغيرت الأزمان والأدوات، فالتاريخ هو هو مذ بدأت الخليقة؛ غالبٌ ومغلوبٌ، منتصرٌ وخاسرٌ، قاتلٌ ومقتولٌ، مُسْتَبِدٌّ ومظلومٌ، فما الجديد؟
لقد تغير كل شيء مع معرفة الإنسان، ولذلك تبوأت المعرفة والعلم مكانةً فـي كل الحضارات والأديان، والعلم هنا ليس بمعناه الإنجليزي -Science- فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المعرفة بمفهومها الواسع ومشاربها المتعددة. فمذ بدأت المعرفة تتغلغل فـي الأرواح البشرية، لم تعد الحياة مقتصرة على المَعاش والمَأكل والمشرب، لقد ظهرت المعاني الجديدة والجليلة لحياة الإنسان، فأضحى يموت لا لأجل لقمة العيش فحسب؛ بل فـي سبيل مبادئه وأفكاره ومعتقداته، وأصبح يُقتل أو يُغتال عليها!
لم تعد الحياة مقتصرة على اتّباع القوي إذن؛ لكن هل توقّف الشرُّ وأسدل جفونه وهو ينظر إلى تلك النهضة وذلك الاستيقاظ؟ بالطبع كلا!
لقد تطورت أساليب القمع فـي مقابلة التوق إلى التحرر من سجون الظلم والظلمات، وكلما وجد الناس منبعًا يَرِدونه؛ سارع الشرُّ إلى تجفـيف ذلك المنبع أو طمسه، فغدا منسيًا لعقود طويلة، ثم ما يلبث أن تنتشله يدٌ مؤمنةٌ بالإنسان، لتعيده إلى مكانته السامقة، فـيغدو ذلك النبع أكبر من الوقت الذي طُمِسَ فـيه!
واعجبْ لنبعٍ كَبُرَ بعدما ظنناه ميتًا، هكذا هي آثار المفكرين الأحرار والمثقفـين الساعين إلى صلاح البلاد والعباد لا إلى مصلحة شخصية أو منفعة ذاتية.
إننا ننسى أنفسنا فـي اليوميِّ العاديِّ أكثر من اللازم، فلا ننظر إليه بعين جديدة فاحصة تراقب تمثلاته وسياقاته وبذرته الأولى؛ بل نتعامل معه باعتباره شيئًا جديدًا منفصلًا عما سبقه من تاريخ وثقافة ووعيٍ كاملٍ وشاملٍ إزاء الإنسان والحياة.
فندرس ما فعله الإغريق فـي السياسة، ونتعلم عن دور المرويات الشعرية عند العرب فـي صنع التاريخ وتزويره وطمس المعادين لصاحب السلطة والنفوذ، ونتحدث بشغف عن الثورات والثورات المضادة، كما نتحمس وتفور دماؤنا حين نتدارس ما فعله الإنسان بأخيه الإنسان فـي الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لكن، لماذا نظن أن هذا كله فـي الماضي فحسب؟ أليست أيامنا الحالية ماضيًا بالنسبة إلينا بعد حين؟ فما الذي ينبغي علينا فعله إذن؟
مرّ عليَّ مقطعٌ من خطابٍ مصورٍ لمدرب كرة القدم، الإسباني القدير بيب جوارديولا، يقول فـيه فـيما معناه وفـي سياق حديثه عن غزة: «فـي عالم يقولون لنا فـيه إن تأثيرنا صغير جدًا، لكن الحقيقة أن القوة فـي هذا العالم ليست فـي السلطة؛ بل فـي الاختيار، وعن امتلاك المبادئ، وعن رفض الصمت عندما يكون ذلك ضروريًا».
هذا ما ينبغي علينا فعله فـي حياتنا كلها، أن نختار. نختار مبادئنا وطريقة تفكيرنا وحياتنا كلها.
لقد اقترن الظلام بالخوف فـي وعينا منذ الأزل، واقترنت الشعلة بالأمل بعد تلك الظلمة. فبعدما كنا نخشى أن تتخطفنا يد الأقدار عبر الحيوانات المفترسة أو المخاطر الطبيعية التي لم نكن نراها؛ أعطتنا الشعلة الأولى الخيط الأول والأمل الأول فـي الدفاع عن أنفسنا ومعرفة الأخطار على السواء.
فبتنا نشبّه الجهلَ الذي سيقتلنا لا محالة، بالظلام الذي عشناه فـي الكهوف والغابات والأودية والجبال. وباتت المعرفة الشعلة التي منحتنا الطمأنينة -وإن لم نهزم بها أعداءنا دومًا- والإيمان بمقدرتنا على الصمود ومعرفة مكامن الخطر.
إننا نتجاهل الأدب فـي تعاملاتنا مع التاريخ وعلم النفس وفهم المجتمعات البشرية وحكمتها، ونقرن الشعر خصوصًا بالكلام المنمق المعسول الذي لا فائدة فـيه سوى التربيت على أرواح المتعبين المنكسرين، ولا عائدة منه سوى دراهم يتلقاها الشعراء فـي المحافل وأمام الملوك.
لكن، أليس الشعر تاريخًا آخر؟ أوليست القصائد ثمرة المجتمعات ومعتقداتها وطريقة عيشها؟
هو كل ذلك وأكثر، ففـي تلك الأبيات المنثورة هنا وهناك، تجد الحكمة المخبوزة برفقٍ وتأنٍّ، الحكمة التي لو أخذناها بحق لرأينا تمثلاتها الجيدة فـي حياتنا، ولجعلناها مكشافًا ننظر به فـي الحقائق، أو ما تبدو على أنها كذلك.
وما من امرئٍ يقرأ الشعر القديم اليوم بعد قراءته لعلوم العصر -الإنسانيات خصوصًا- إلا وسيبلغ ذهوله ودهشته مداهما، ففـيه من النظريات والمخرجات والنتائج التي لم تُسَمَّ فـي حينها، مما يجعل المرء يُكبِرُ أولئك العظماء وكيف توصلوا إلى تلك النتائج مع قلة الوسائل والأدوات فـي حينه.
أما عن قراءة التاريخ، فإنني أميل أكثر إلى قراءة الإنسان نفسه لا آثاره.
يبدو أن فـي وعينا شيئًا يجعلنا ننسى أن الإنسانَ إنسانٌ، فنُضفـي عليه صفات الألوهية والقدرة المطلقة والنور الكلي حين نحبه ونزنه بميزان المآثر والمنجزات. ونلقي عليه اللعنات وأبشع العبارات حين لا نحبه أو نصنفه فـي القسم المضاد للنور -الذي نعتقد بأنه نور وفقًا لتصوراتنا وما ترسخ فـي وعينا الذي نقارب به الأشياء ونزن به الأمور- ونُلصِق به أشنع الصفات و«نؤبلِسُه» ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.
لكنَّ السيئ فـي مكان، خيّرٌ فـي مكان آخر، وما ينبغي أن نتنبه إليه حقًا، هو مكمن السوء ومنبعه.
إن الحديث عن الإنسان ودراسته كما تُدرَس المادة الخالية من الروح، أو كما تُدرَس الكائنات الحية حتى؛ مبدأٌ خاطئ حتى النخاع.
فالغضب والثأر والانتقام واليأس والاكتئاب والحقد والحسد وغيرها من الطبائع التي لا يمكن إغفالها، تصنع المعجزات.
وليست المعجزات هنا تلك الخوارق الحسنة، بل قد تكون من الخوارق المخيفة والفظيعة فـي آنٍ. وما يبدو أنه مستحيلٌ وبعيد المنال، قد يغدو أقرب مما تخيلناه يومًا.
قراءة التاريخ تبدأ بقراءة الإنسان، صلاحه وفساده. ومتى ما ملك الإنسان القدرة المطلقة، وغابت المساءلة عنه؛ ظهرت حقيقته وبانت مقاصده وارتفع قناعه وانكشف وجهه.
فإما أن تنتصر روحه الخيّرة، أو يظهر لنا مسخٌ لم نتفطن لوجوده تحت تلك الطبقة الرقيقة من الجلد النظيف.
كيف نقرأ كل شيء إذن بعينٍ بصيرةٍ ومساءلةٍ دائمةٍ وبحثٍ لا ينقطع؟ فزمن اليقينيات والنبوات ولّى منذ مدة طويلة؛ ولم يعد بأيدينا سوى مساءلة كل شيء لنصل إلى جزءٍ من الحقيقة الواسعة.
وإذا كان بمقدور السلطات تحويل الرمل إلى ذهب، والقاتل إلى ضحية ولم تكن تملك ما تملكه اليوم؛ فكيف سنصل إلى الحقيقة غدًا وقد أصبح للذكاء الاصطناعي أيادٍ تفوق الأخطبوط، ومحيطٌ لا نهائيٌّ من الأفكار والوسائل والطرق؟
كل هذا يدعونا إلى التوقف هنيهةً، وتقرير ما نريده فـي حياتنا لأجلنا أولًا، ولأجل من حولنا.
الإنسان هو الجذر الأول والبذرة الأولى للتاريخ، وإذا أردنا أن نغيّر واقع الحال؛ فلا بُدَّ من دراسة البذور النافعة المفـيدة التي أنتجت لنا أطيب الثمار التي نتنعم بها حتى اليوم.
كما لا ينبغي لنا ألبتة أن ننسى تلك الحشائش والأحراش التي تخنق الأرض وتقتل خصوبتها وخيراتها، والتي اكتوينا بها ونكتوي حتى اللحظة.
قراءة التاريخ، والتأمل والتفكر فـيه، لا يمنح الإنسان رفاهية المعرفة أو امتيازها؛ بل هو ضرورةٌ يدركها جيدًا من يدرك هدفه فـي هذه الحياة.
هنالك الكثير مما نتفاوت فـيه كبشر، فبعضنا يولد غنيًا والبعض فقيرًا، سيدًا ومسودًا، قويًا وضعيفًا، ذكيًا وأقل ذكاء؛ لكننا نملك الوقت نفسه أكنّا ملوكًا أم أناسًا فـي أقصى البلاد لا يعرفنا ولا يسمع لنا أحدٌ حِسًّا أو نَفَسًا.
لهذا تغدو قراءة التاريخ ضرورةً لا غنى عنها، وإن العاقل من يعرف نفسه حق المعرفة ليختار طريقه التي يسلك، ودربه الذي يشق، وهل هنالك ما هو أجدى وأنفع من قراءة التاريخ كي لا نكرر الأخطاء والحماقات التي قد تودي بنا إلى ما لا نُحب؟