على طريقة فيسبوك «قام بقفل ملفه الشخصي.. يمكنك إضافته ضمن الأصدقاء لمعرفة التفاصيل التي يشاركها»، أصبحنا الآن في عالم «الميديا الاجتماعية» المخيف، على نظامي «ممكن تفاصيل»، متبوعًا بـ«تم الردّ على الخاص».
وما بين «النظامَين»، أصبح المتلقي «فاعلًا» أحيانًا، و«مفعولًا به» في أحايين كثيرة، خصوصًا عندما يكون الانتظار طويلًا دون جدوى.
للأسف، نعيش في عالم «الميديا الاجتماعية» بإرادتنا.. أو رغمًا عنَّا، بعد اعتمادنا عليها بشكل أساسي فى كافة تفاصيل حياتنا، وبات وسيلة قد يستغلها كثيرون لتحقيق الثراء السريع، أو مِنَصَّة لبيع الوهم أحيانًا، عبر «التسويق الرقمي».
هذا المجال يعد من أهم القطاعات نموًا وطلبًا وتفاعلًا في عالم الأعمال والتجارة، لزيادة المبيعات على مدار العام، خصوصًا في المناسبات والأعياد والعطلات، وبالتالي تمت محاصَرتنا وملاحقتنا بآلاف الصفحات الإعلانية المجانية، كبديلٍ «مُمَوَّلٍ» و«رخيصٍ»، عن الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، لتُفرز حالة من العشوائية الممنهجة.. أو «النصب» غالبًا!
مع كل إعلان «مُمَوَّل»، يحاصِر المستهلِك بإلحاحٍ شديدٍ، آناء الليل وأطراف النهار، ترويجًا لـ«مزايا متفردة»، وانخفاض الأسعار عن السوق، وتوصيل مجاني، أو مقابل رسوم طفيفة لـ«الدليفري»، لنجد فضول المتلقي: «ممكن تفاصيل؟»، متبوعًا بـ«تم الردّ على الخاص»، كإجابة قصيرة «مستفزة» وغامضة ومتكررة.
وما بين النظامَين تتضاءل الضمانات التى تحمي حقوق المشتري، والإجراءات الرقابية الصارمة للحدِّ من تعرضه للنَّصب، خصوصًا أن معظم الصفحات بدون رقيب أو حسيب، حتى باتت ساحة تفاعلية.. عشوائية وغير منضبطة.
خلال الأعوام الفائتة لاحظنا انتشارًا كثيفًا لصفحات وحسابات «حقيقية» أو «وهمية»، على «فيسبوك» و«X»، وأصبحت مجالًا خصبًا لبيع الوهم وممارسة النصب والابتزاز، لخداع أكبر عدد ممكن من «الضحايا» الذين يسكنون العالم الافتراضي.
إعلانات «مُغْرِية»، لمنتجاتٍ متنوعة، وبرامج سياحة وسفر، ودورات تدريبية، وأدوية ومستحضرات طبية، وشهادات علمية وألقاب.. وغيرها، قد تكون في الحقيقة صادمة وغير «مطابقة للتوقعات والمواصفات»، مع تأخر عملية التسليم، أو وضع عراقيل وابتزاز، أو استنزاف «الزبون» برسومٍ إضافية، غير مُتَّفَقِ عليها!
إذن، يجب التفريق بين احتيال «التسويق الشبكي الهرمي»، والبيع «أونلاين»، مع الوضع في الاعتبار وجود علامات استفهام كثيرة حول ماهية بعض المؤسسات وأصحابها ومصادر تمويلها، أو مجالات استخدام الأرباح، لهؤلاء الذين «يعملون في الظلام» ولا يخضعون للرقابة.
أخيرًا.. فى ظل ذكاء وجشع وقُدرة بعض «المجهولين»، على تحقيق أرباح خيالية، بحِيَل تسويق إلكترونية، للتهرب الضريبي والابتعاد عن شبح الملاحقة الرقابية.. كل ذلك وغيره يجعل من «الزبون» لقمة سائغة وفريسة سهلة، للابتزاز والنصب والاحتيال، وفقًا لنظامي «ممكن تفاصيل؟»، و«تم الردّ على الخاص»!
فصل الخطاب:
يقول الكاتب الأمريكي «مارك توين»: «لولا البلهاء لما حقق الآخرون أي نجاح.. نناور ونخفي أفكارنا ونكذب ونتزلف، وفي النهاية نحقق ربحًا أكيدًا»!
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ممكن تفاصيل البيع اونلاين التسويق الشبكي محمود زاهر النصب الالكتروني اعلانات فيسبوك التهرب الضريبي ارباح خيالية ممکن تفاصیل
إقرأ أيضاً:
ترميم الحقيقة في زمن «ما بعد الحقيقة»
قد يظن البعض أن عالم السوشيال ميديا وتكنولوجيا الجوالات المحمولة يشير إلى تقدم حقيقي، وقد يكون هذا صحيحاً جزئياً، لكنه لا ينطبق على جميع المجتمعات. في السياق العربي، قد تكون التكنولوجيا أحد العوامل المعرقلة، إذ تفتقر المجتمعات العربية إلى التقدم التراكمي المبني على أُسس متكاملة. ففي عالمنا العربي، حيث لم تمر التكنولوجيا بمراحل نضج كافية، نعيش في حالة من القفزات السريعة التي تفتقر إلى التأصيل، مما يؤدي إلى «تحديث التخلف».
لنوضح هذه الفكرة، يجب أن نتأمل مسار الثقافة والإعلام في العالم العربي. على الرغم من التحولات الإعلامية والثقافية التي شهدها العالم العربي، فإن معظم المجتمعات العربية لم تشهد نضجاً حقيقياً في أي مرحلة من مراحل التطور، بل مرّت بتغيرات سريعة، حيث تظهر تكنولوجيا جديدة قبل أن نستوعب السابقة. وهذا يخلق نوعاً من «القفزات» التي لا تبني أساساً معرفياً قوياً، بل يسهم ذلك في انهيار البنية المعرفية.
في الماضي، كانت المعرفة في المجتمعات العربية تُنقل عبر وسائل شفاهية، مثل الحكايات الشعبية، والشعر، والمواعظ الدينية. كانت الكلمة المنطوقة هي وسيلة الوعي الأساسية، والحامل للقيم الثقافية والدينية. في هذا السياق، كان هناك نظام صارم للتحقق من الأخبار، مثل الحديث الشريف الذي يعتمد على التواتر، وهو مشابه لأسلوب الصحافة الحديثة التي تتطلب تعدد المصادر لنشر الخبر. هذه الطرق كانت جزءاً من بناء عالم الحقيقة.
مع دخول المطبعة في بداية القرن التاسع عشر، تراجعت الوسائل الشفهية، وحلّت الكتابة المطبوعة بوصفها وسيلة رئيسة لنقل المعرفة. ورغم أن المطبعة قد هيأت المجال لنقل المعرفة، فإنها كانت محصورة في النخب السياسية والثقافية. ثم جاء اختراع المذياع في منتصف القرن العشرين، الذي أعادنا إلى مرحلة الشفاهة ولكن بشكل جماعي، حيث دخل الصوت كل بيت، لكنه لم يخلق ثقافة نقدية لاستقبال المعلومات، بل كان أكثر وسيلة للترفيه والدعاية السياسية.
في السبعينات والثمانينات، جاء التلفزيون، الذي أضاف الصورة إلى الصوت، لكنه بقي أداة دعاية سياسية أكثر من كونه وسيلة تعليمية. ومع دخول الكمبيوتر في التسعينات، تم دمج النص بالصورة، لكنه اصطدم بمستوى تعليمي وثقافي غير مهيأ، فظل أداة فردية محدودة. وفي منتصف عام العقد الأول من الألفية ظهرت السوشيال ميديا، التي جلبت ثورة كبيرة في سرعة وتنوع المعلومات، لكن ذلك كان من دون حراس بوابات التحرير، ومن دون تدقيق للمعلومات، فتراجعت الحقائق أمام الآراء والصور والعالم الحسي والمشاعر.
ومن هنا أخذ مصطلح «ما بعد الحقيقة» رواجاً، رغم أن المفهوم في صورته الأكاديمية كان أقدم من ذلك بكثير، لكنه أصبح أكثر شيوعاً بعد 2016 في سياقات مختلفة، مثل استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، ومجيء دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، حيث شنّ حملة شعواء على الميديا التقليدية التي تلتزم المعايير التحريرية والتدقيق المعلوماتي. في عالم «ما بعد الحقيقة» أصبح الرأي العام رهن التحيزات الشخصية والمشاعر، وابتعدنا كثيراً عن عالم الحقائق الموضوعية.
في العالم العربي، دخلنا عملياً في «زمن ما بعد الحقيقة» قبل 2016؛ لأن بنية الحقيقة نفسها لم تكن قد ترسّخت لدينا. لم تنشأ مؤسسات تحقيق قوية، ولا ثقافة إعلامية ناقدة، وضعفت مهارات التمييز بين الرأي والخبر، والمعلومة والشائعة وضرب الودع على الشاشات.
في هذا السياق تصدق منجّمة مرة في لقاء تلفزيوني فيصدقها العالم، ويخطئ عالم مرة فتضيع سمعة إنجازاته العلمية. منجّم يصيب مرّة واحدة في المائة فتنسحب المصداقية على كل أكاذيبه، ويخطئ عالم مرة واحدة في المائة فتسحب الثقة من 99 في المائة من علمه الذي هو صادق بالفعل، ويُرمى بالكذب.
تحديث التخلف عندنا كان ضحية تلك القوى المعطلة. مفهوم «القوى المعطلة» (disruptive forces) ظهر في التسعينات من القرن الماضي، وفحواه هو أن ابتكارات، مثل الإنترنت والجوالات الذكية، تهدم النظم القديمة، وتستبدلها بواسطة أخرى أكثر رشاقة وتأثيراً. مع مرور الوقت، أصبح هذا المفهوم يشمل مجالات أخرى، مثل الاقتصاد والسياسة والإعلام. في الإعلام، ومن هنا كانت السوشيال ميديا القوة المعطلة الأكبر، حيث أخرجت صناعة الإعلام من يد المؤسسات التقليدية ذات المعايير الصارمة إلى مؤسسات ما بعد الحقيقة، وصفحات «اليوتيوب»، و«فيسبوك»، و«إكس» التي يسيطر عليها أفراد لا يتمتعون لا بالمهنية، ولا بصرامة المعايير.
في حالة العالم العربي لم تسهم القفزات التكنولوجية في بناء بنية معرفية قوية، أو ثقافة التحقق من المعلومة. ومع دخول السوشيال دخلنا عالم النميمة، حيث تكون الشائعات أسرع انتشاراً من الحقائق.
لعب كل من الخوارزميات والكمبيوتر الكموني دوراً كبيراً في هذا التحول، إذ يُروج للمحتوى الذي يثير الانفعال والمشاعر بدلاً من المحتوى الأكثر دقة أو فائدة معرفية. وبذلك تسارعنا من بيئة معرفية هشة إلى بيئة أكثر هشاشة، وصولاً إلى عالم تختلط فيه الحقيقة بالرأي، والمعلومة بالدعاية، والخبر بالشائعة.
أصبح العالم العربي اليوم ضحية قوتين كبيرتين: عالم ما بعد الحقيقة، وعالم القوى التكنولوجية المعطلة التي ظاهرها التقدم وباطنها تخلف براق. ما زالت مقولة عالم الإعلام الكندي ماكلوهان قائمة: «الوسيلة هي الرسالة». ليس مهماً أن تكون لديك تكنولوجيا حديثة، ولكن الأهم ماذا تقول فيها أو تكتب أو تنشر. نحن لدينا أدوات حقيقية ومحتوى ما أحوجه إلى معايير صارمة تأخذنا بعيداً عن عالم ما بعد الحقائق إلى عالم الحقائق، وقد يكون الأمر أفضل لو مكثنا قليلاً في هذا العالم حتى ننضح.
(الشرق الأوسط اللندنية)