لا تبدو حكاية «بيتو» مجرد سرد لعلاقة امرأة بقطّ، بل هي مرآة مصغّرة لعلاقتنا المضطربة بالبيئة، ولما نُسقطه من مشاعر وهواجس على كائنات تُقاسمنا هذا الكوكب. ما بين الخيال البيئي وسرديات الفقد والوحدة والتعاطف تفتح هذه القصة بابًا مختلفًا على الوجود.

ثمة طريقة مختلفة تكشف عن حضورنا فـي الطبيعة، ومدى تصالحنا معها، تتمثل فـي كتابة قصة أو رواية أو مسرحية عن علاقتنا بالقطط.

المداخل متعددة، أبرزها الطاقة التي يبثّها وجود القطط فـي منازلنا، خاصة قط أسود يُدعى «بيتو»، وقطة شقراء باهتة اللون اسمها «مجيمجي»، ولها حكاية مختلفة، أكثر هدوءا، لكنها لا تقل دراميّة عن قصة بيتو. قد تروى فـي يوم آخر.

قدرة الخيال البشري على تصوّر المواقف لا تُضاهى، غير أن للخيال البيئي منطقه الخاص: فهل يمكن أن يلتقي خيال الإنسان بخيال الحيوان؟ إذا كان الخيال البيئي يشير إلى الطريقة التي تصوغ بها البيئة خيالنا؛ فإن ما يمكن تسميته بـ«الخيال الحيواني» يطرح نفسه كوسيلة لفهم الفعالية التواصلية التي تنشأ من علاقتنا المتخيلة بالحيوانات.

قيل: «إن ازدهار الحياة الإنسانية والثقافات يقابله نقصان أساسي فـي عدد سكان العالم. أما ازدهار الحياة غير البشرية فهو يتطلب مثل هذا النقصان». عبارة صادمة بلا شك. لكن الأخبار التي تابعناها بشأن تناقص أعداد الحيوانات تشير إلى وجود «مؤامرة» من نوع ما.

لا يمكن استحضار هذه الوقائع من دون التذكير بجائحة كوفـيد-19.

لقد شعرنا وقتها، دون مبالغة، أن البشرية بأسرها باتت مهددة بالانقراض. انتشرت نظريات تتهم فئة من الرأسماليين بالتفكير فـي تقليص عدد سكان العالم، واخترعوا المرض ومعه اللقاحات.

ما زلنا إلى اليوم ندفع ثمن التطعيم الذي فُرض علينا باسم الحفاظ على حياتنا، لكن المبررات تُخفـي خلفها مزيجًا من الجهل، والتبعية، وربما النفاق.

تابعنا عبر وسائل التواصل مقاطع مصوّرة وبصمات صوتية تزعم وجود مخطط للحدّ من أعداد البشر. ولم تكن الحيوانات ضمن ذلك المخطط الأسود. لم يقل الخيال البيئي كلمته بعد.

(2)

بطل القصة هنا قط أسود: بيتو. مثلما يقول خبراء التنمية البشرية: إن لكل إنسان قصة؛ فإن بيتو أيضًا له حكايته. بدأت حين اشترته امرأة مهتمة بالبيئة كهدية لأحد أبناء أخيها بمناسبة نجاحه. طلبت من بائع قطط أن يرشّح لها أحدها، وكان لديه قطّ رابع لم يشتره أحد بعد.

بيع إخوته الثلاثة - قطط بيضاء ذات عيون زرق ـ بينما ظل القط الأسود ذو العينين الذهبيتين وحيدًا. من المفارقات الصادمة أن القط الأسود لم يُشترَ، بينما اقتُنى إخوته الثلاثة البيض ذوو العيون الزرق بكل سهولة. بدا كأن شيئًا من تحيز الإنسان، من عنصريته المتجذرة، تسلل إلى اختياراته حتى حين يتعامل مع الحيوانات. فاللون - فـي أعماق الوعي الجمعي- ما يزال يُحرك الذوق والتفضيل، بل حتى قيم الجمال. هل نقل الإنسان شعوره بالتفوق العرقي إلى عالم الحيوان؟ ربما دون وعي، لكن بيتو ظلّ الدليل الصامت على أن عنصرية اللون لا تزال حيّة، حتى فـي رفوف محلات بيع القطط.

اقتَنت المرأة القط الأسود، وأهدته لابن أخيها. غير أن ما حدث لاحقًا كان مثار قلق؛ فقد بدأ الفتى يُطعمه الفشار وأطعمة غير صحية. وعندما اعترضت عمته، ردّ أخوها: «دعيه يعتمد على نفسه، مثل قطّنا القديم جاكوار».

جاكوار كان قطًا مخضرمًا يعود إلى المنزل بجروح دامية من معارك الشارع. ثم مات ميتة الكلاب. عندها لم تجد المرأة بدًا من إنقاذ القط الأسود. رغم أنها كانت قد قطعت عهدًا على نفسها ألا تعتني بقطّ مجددًا، إثر فقدانها لقطّيها سيلفر وبلوندي، فإنها استعاذت بالله واستسلمت للقدر.

كان ما يشغلها آنذاك حديث النبي -صلَّى الله عليه وسلم- عن المرأة التي دخلت النار بسبب قطة حبستها. قالت لنفسها: «لقد اشتريته بنفسي، وسأكون مسؤولة عن هلاكه إن تركته فـي الشارع مثل جاكوار». فقررت أن تأخذه إلى بيت العائلة. ومنذ ذلك اليوم صار القط يحمل اسمًا جديدًا: بيتو.

(3)

استقر بيتو فـي فناء البيت. استعاد صحته، وصار له نظام غذائي، وحمام خاص، وتطعيمات منتظمة، وحتى دفتر متابعة صحي.

اعتنت به كما يُعتنى بطفل صغير. ومع مرور الوقت لاحظت الأم العجوز وحَدته، فقالت لابنتها: «سيكون من الأفضل أن تكون له أسرة، دعيه يخرج إلى الحارة، ويتعرّف على قطة ما ويتزاوجان وينجبان سلالة من القطط». لكن صاحبة بيتو رفضت أن يخرج إلى الشارع؛ خوفًا من أمراض القطط الشاردة.

ثم انتقل الجميع من صلالة إلى عوقد الشمالية. لم يكن للمنزل الجديد فناء، بل سطح مفتوح على السماء. هناك عوّض بيتو فناء البيت بمكان يُطل على النجوم. ورغم ذلك ظل وحيدًا. فقررت صاحبته أن تجلب له قطة. تزاوجا، وأنجبا أربعة مواليد. لكن القطة كانت شرسة غضوبا. فـي المرة الثانية أنجبت اثنين، وفـي الثالثة ثلاثة مواليد، خُطف اثنان منهم، وبقي واحد.

كثرة الإنجاب أنهكتها، فأصيبت بتسمم الحمل، وماتت مواليدها جميعًا. نُقلت إلى العيادة البيطرية، لكن الطبيب قال: إنها تحتضر.

يا إلهي! أصيب بيتو بالهزال، وامتنع من الأكل. فأحضرت له قطة أخرى، أنجبت له مولودًا أسود يشبهه تمامًا. أُطلق عليه اسم «مورياتي». ومع الوقت، صار يلعب ويجري وينافس والده فـي كل شيء.

(4)

ثمة قاعدة معروفة فـي عالم الحيوان: يصعب اجتماع ذكرين فـي مكان واحد. سواء بوجود أنثى، أو من دونها؛ فالصراع حاصل لا محالة.

وهكذا، اشتدّ التوتر بين بيتو ومورياتي، وكانا يقتتلان يوميًا. ولأن بيتو أكبر حجمًا وأقوى؛ فقد كان المنتصر. قررت صاحبته؛ تفاديًا للصراع أن تهب مورياتي لإحدى معارفها.

(5)

منذ عام 1600 ق.م، بدأت موجات الانقراض تضرب عالم الحيوان.

تشير الباحثة «غرتشن ت. لغلر» إلى أن 75% من انقراض الثدييات و66% من الطيور سببه النشاط البشري. العلاقة بين الإنسان والقطط المنزلية معقدة. ورغم الانقراض؛ فإن أعداد القطط الأليفة تزداد بالملايين. هنا يتدخل الخيال البيئي مجددًا: ماذا لو كان كوفـيد-19 نوعًا من الانتقام الكوني من الانقراض الذي طال الحيوانات؟ فقد ثبت علميًا أن القطط تُصاب بفـيروس كورونا، وسُجّلت حالات انتقال العدوى من الإنسان إليها.

صحيح أنه لا خطرَ كبيرٌ من عكس المسار، لكن هذه الحقيقة تفتح باب التأمل: أليست هذه طبيعة الحياة على الأرض؟

لقد أظهر بيتو قابلية عالية للتعايش السلمي فـي عزلته فوق السطح.

تخلّى عن المنظورات التقليدية التي تُقحم الحيوان فـي زوايا ضيقة.

غير أنه فـي علاقته بابنه مورياتي عجز عن التأقلم، فعاد إلى وحدته الأولى.

فـي الختام؛ أحيانًا لا تكون الحكاية عن القط، بل عن الإنسان الذي لم يحتمل وحدته فأسقطها على مخلوق صامت.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

ما سر الضوء الخافت المُشع من العقل البشري أثناء التفكير؟

أسرار العقل البشري .. الضوء سر من أسرار الحياة، وعنصر رئيسي لضمان استمرارية مختلف الأنظمة البيئية على الأرض، بل أن بعض الأنواع الحية مثل الديدان والأسماك تشع بالضوء من تلقاء نفسها. ويفسر العلماء هذه الظاهرة بما يطلق عليه اسم “الفوتونات الحيوية” وهي جسيمات مضيئة تنبعث كناتج للعمليات الكيميائية الحيوية وتقترن بتوليد الطاقة داخل الخلايا الحية. وكلما زادت كمية الطاقة التي تستهلكها الخلايا، كلما زادت كمية الضوء التي تنبعث من الأنسجة الحية.

سر الضوء الخافت المشعّ من العقل البشري

وفي هذا الإطار، توصل فريق بحثي كندي إلى أن المخ البشري يشع بضوء خافت أثناء عملية التفكير، بل وأن انبعاث الفوتونات الحيوية تتغير طبيعته أثناء أداء العمليات المعرفية المختلفة داخل العقل. ورغم أن العلاقة بين انبعاث هذا الضوء الخافت داخل المخ وبين الأنشطة المعرفية ليست واضحة تماما، يعتقد الباحثون من جامعة ويلفريد لاورير في مدينة أونتاريو الكندية أن تلك الجسيمات المضيئة تلعب دورا مهما في وظائف المخ المختلفة. وتقول رئيسة فريق الدراسة نيروشا موروجان المتخصصة في علوم الفيزياء الحيوية أن علماء معنيين بدراسة الأنسجة الحية، بما في ذلك الخلايا العصبية، رصدوا انبعاثات ضعيفة من الضوء ناجمة عن تكون بضع عشرات إلى عدة مئات من الفوتونات داخل عينات من الأنسجة الحية بحجم سنتيمتر مربع في الثانية الواحدة داخل أوعية الاختبار المعملية.

اقرأ أيضًا:

رئيس جامعة الأزهر: العقل الحقيقي هو ما قاد صاحبه إلى تقوى اللهكوكايين ومؤثرات عقلية .. القبض على فنانة شهيرة بمخدراتاللواء نصر سالم: الحرب الحديثة تغيرت أدواتها لكن يبقى العقل هو السيدالباز لعزة مصطفى: يجب فصل العقل عن العاطفة في الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران

ومنذ القرن الماضي، يعتقد علماء الأحياء أن الجسيمات المضيئة الحيوية تلعب دورا في التواصل بين الخلايا، وفي عام 1923، أثبت العالم الروسي ألكسندر جورويتش أن وضع حواجر لحجب الفوتونات داخل جذور البصل يمنع نمو النبات، وقد أكدت العديد من الدراسات خلال العقود الماضية أن الفوتونات الحيوية تلعب بالفعل دورا في التواصل الخلوي، وتؤثر على نمو وتطور الكائنات الحية. ومن هذا المنطلق، شرعت موروجان وفريقها البحثي في تتبع هذه الظاهرة في العقل البشري وتقصي أسبابها عن طريق قياس كمية الفوتونات التي تبعث من المخ أثناء العمل. وفي إطار التجربة التي نشرتها الدورية العلمية iScience، ارتدى عشرون متطوعا أغطية رأس مزودة بأقطاب لتسجيل النشاط الكهربائي للمخ، وتثبيت أنابيب خاصة على الرأس لتضخيم أي انبعاث للجسيمات الضوئية أثناء التفكير، مما يتيح إمكانية رصدها، بحسب "دي بي إيه".

وجد الباحثون أن عناقيد الفوتونات المضيئة تتركز في منطقتين أساسيتين من المخ وهما الفصوص القذالية في الجزء الخلفي من الرأس، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة الصور البصرية داخل المخ، وفي الفصوص الصدغية على جانبي الرأس، وهي الجزء المسؤول عن معالجة الأصوات. 

تقول موروجان في تصريحات للموقع الإلكتروني “ساينتفيك أمريكان” المتخصص في الأبحاث العلمية إن “أول نتيجة لهذه التجربة هي أن الفوتونات تنبعث فعلا من المخ، وتحدث هذه العملية بشكل مستقل، وهي ليست خداع بصري ولا عملية عشوائية”. واتجهت موروجان بعد ذلك لقياس ما إذا كانت كثافة هذه الانبعاثات تتغير مع اختلاف العملية المعرفية التي يقوم بها المخ. 

ونظرا إلى أن المخ عضو يتسم بالشراهة من ناحية التمثيل الغذائي، فقد افترضت أن كثافة الجسيمات المضيئة التي تنبعث منه سوف تزداد كلما انخرط المخ في أنشطة معرفية تتطلب كميات أكبر من الطاقة مثل معالجة الصور البصرية. 

ووجد الباحثون أن التغيرات في كمية الجسيمات المضيئة ترتبط بتغير الوظيفة المعرفية التي يقوم بها المخ، مثلما ما يحدث عن إغلاق العين ثم فتحها مرة أخرى على سبيل المثال، وهو ما يشير إلى وجود علاقة ما بين التحولات في العمليات المعرفية التي يقوم بها العقل وبين كميات الفوتونات الحيوية التي تنبعث منه.

وتطرح هذه التجربة مزيدا من التساؤلات بشأن الدور الذي تقوم به الجسيمات المضيئة داخل العقل. ويقول مايكل جرامليش اخصائي الفيزياء الحيوية في جامعة أوبورن بولاية ألاباما الأمريكية في تصريحات لموقع “أمريكان ساينتفيك”: “اعتقد أنه مازال هناك الكثير من أوجه الغموض التي يتعين سبر أغوارها، ولكن السؤال الجوهري هو هل تمثل الجسيمات المضيئة آلية نشطة لتغيير النشاط العقلي؟ أم أن دورها يقتصر على تعزيز آليات التفكير التقليدية”. 

ويتساءل الباحث دانيل ريمونديني اخصائي الفيزياء الحيوية بجامعة بولونيا الإيطالية بشأن المسافة التي يمكن أن تقطعها الفوتونات الحيوية داخل المادة الحية، حيث أن الإجابة على هذا السؤال قد تسلط الضوء على العلاقة بين الوظائف العقلية وانبعاث الفوتونات في أجزاء مختلفة من المخ. وتريد موروجان وفريقها البحثي استخدام أجهزة استشعار دقيقة لرصد مصدر انبعاث الفوتونات داخل المخ، ويعكف فريق بحثي من جامعة روشستر في نيويورك على تطوير مسبارات متناهية الصغر لتحديد ما إذا كانت الألياف العصبية داخل المخ يمكن أن تنتج تلك الجسيمات المضيئة.

وبصرف النظر عما إذا كان الضوء الخافت الذي ينبعث بانتظام من المخ يرتبط بالوظائف العقلية أو لا، فإن تقنية قياس حجم الجسيمات الحيوية المضيئة وعلاقتها بالإشارات الكهربائية للمخ، Photoencephalography، قد تصبح يوما ما وسيلة مفيدة لعلاجات المخ غير التدخلية. ويقول جرامليش: “اعتقد أن هذه التقنية سوف يتم تعميمها على نطاق واسع خلال العقود المقبلة حتى إذا لم يتم إثبات صحة النظرية بشأن الدور الذي تلعبه الفوتونات في دعم الأنشطة العقلية”.

طباعة شارك العقل أسرار العقل أسرار العقل البشري الضوء الخافت المشعّ من العقل البشري

مقالات مشابهة

  • كيف تحولت عدن من مدينة نابضة بالحياة إلى غارقة في الظلام والأزمات؟
  • قصص كفاحهن انتهت بالجنة.. حكاية 18 فتاة رحلن في غمضة عين بالمنوفية
  • حكاية شعب.. مكتبة مصر العامة بالزاوية الحمراء تحتفي بثورة 30 يونيو
  • ما سر الضوء الخافت المُشع من العقل البشري أثناء التفكير؟
  • كيف تحولت عدن اليمنية من مدينة نابضة بالحياة إلى غارقة في الظلام والأزمات؟
  • الطيب عباس : متحف الحضارة نابض بالحياة وخاضن للثقافات
  • وكيل تموين قنا: حملات رقابية يومية لضبط الأسواق ومراقبة الأنشطة التموينية
  • سامي مغاوري مأذون في “ماما وبابا” ومدير متحف في “إن غاب القط”.. حضور مزدوج على شاشة السينما
  • المباني الطينية قصَّة نابضة بالحياة.. وشاهد على الأصالة والإبداع والرؤية الفنية
  • إرث حسيني تتوارثه الأجيال.. مشاعل النار تسرد حكاية عزاء الكوفة التاريخي (صور)