عصبة لا تستقيم على شرعة إلّا إذا كانت القوة تهددها
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
د. قاسم بن محمد الصالحي
عالم رأسمالي ليبرالي صهيوني متوحش، يضع ساسته رجلا على أخرى، يحملقون بأعينهم في عتمة الإبادة الإنسانية، ناقضين لكل العهود والمواثيق التي كتبوها بأيديهم عندما أذعنت لها الشعوب المستضعفة، الدماء تسيل على الأرض تخط خطوطاً للطول وأخرى للعرض لرسم المآسي.
في الجانب الآخر من هذا العالم شعوب أذعنت لقانون المستعمر الذي سرق ثرواتها، أذعنت لقانونه الذي ننعته بالدولي، في زاوية أخرى، كانت هناك مساحة مقدسة من الأرض مبارك ما حولها، دنسها هذا المستعمر بغدة نجسة صهيونية، ونثر أس نتانتها عليها، تقيحت هذه الغدة في بيئتها وحولها، وظلت تبحث عن بقرة حمراء لتتطهر وتبرئ قيحها، متناسية أنها نجسة منذ الأزل، تفتت نتانتها ودحرجت فظاعتها قرفا على الأرض منذ خطيئتها الأولى عندما تنكرت لجريمتها، ففضحها الله سبحانه وتعالى بأن يذبحوا بقرة، بقيت نتانتها على حالها في الأرض المقدسة منذ قرن ونيف في المكان الذي وضعها فيه المستعمر، وانتظر شعب فلسطين طويلاً لتطهيرها ونيل حريته المسلوبة، في هذه الأجواء الراعبة يعلو صوت هذا الكيان الخبيث الناقض للعهود والمواثيق ينادي بأعلى صوته: يا عرب، خذوا هذا الشعب وامنحوه مكاناً بينكم لينال ما كنت قد وعدتكم به، لكي أذبح بقرة حمراء أتطهر بها من فظائع ما اقترفته عليها شرط خلو أهلها منها.
بدأ ناقض العهود والمواثيق يلبس جلبابه الأسود، معلناً سيرة آبائه الأولين، لأن الميثاق الذي أخذ على أسلافهم هو ميثاق عليهم، فقد أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق من آبائهم، ورفع فوقهم الجبل تخويفاً لهم؛ ليؤمنوا بالتوراة عندما انكروه، ثم تفضل عليهم برحمته بأن تاب عليهم بعد أن آمنوا.
على الرغم من ذكر القرآن الكريم للأمم والشعوب البائدة، وحديثه عن الشرائع والرسالات السابقة، إلا أنه كان له تركيز أكبر، واهتمام أكبر، بأمة واحدة من الأمم، تناول تفصيل نشأتها، وتاريخ تكوينها، وبيان احوالها، وخصائص شخصيتها، ودقائق مواقفها، ودخائل نفوس أفرادها أمة اليهود، وهذا يدل فيما يدل عليه أن الصراع مع هؤلاء أزلي، كلما خمدت جذوته معهم في منطقة أو عصر من العصور، ستتجدد في مكان آخر، وفي أزمنة متلاحقة، وفي صور شتى، فلا غرابة إذًا اليوم أن ينقضوا ما كتبوه من عهود، ليحمل من عاهدهم - طبع - قراطيسه ليذيبها في كأس الحسرة، ويشرب حبر نصوصها، لأن خطأهم قادهم إلى مسار بائس مع عصبة ناقضة للعهود والمواثيق، حسبوا وعوده وعهوده سلاماً وهو سراب، منهم من تحجرت أفئدتهم، ولم يستطع أن يجد توبة تزيل الدرن الذي أصابه منهم، لهول ما نزل به من علٍ، وهو يعيش الخوف والهلع.
هناك اليوم من يكسر حاجز صوت ناقض العهد، وهو يقول: أنا موفٍ للعهود، استمد أثره من عمقي الاجتماعي، على الأرض التي نشأت فيها، الصدق قيمة عُليا من قيمي، لا يمكن للتحول الزمني أن يجرفها، أو تتغير علي وفق المتغيرات، الصدق عندي دالا على وفائي، كم مرة عضضت أيها المحتل يدًا امتدت إليك بالسلام، وكم مرة نقضت عهودا أبرمتها، ومواثيق عقدتها، أي سلام تدعو إليه أيها العالم الرأسمالي الليبرالي الصهيوني؟!، أهو السلام الذي يهدم البيوت، ويشرد من الديار، ويحاصر الشعوب، ويعتقل الألوف، ويجعل رد الظلم من طرف إرهابا، ومن طرف آخر حقاً مشروعاً وصواباً؟!، إنكم تزنون بموازين التقلب، وبمصطلحات التلاعب، ولن يرتدع كيانكم الذي صنعتموه وتدافعون عنه إلا بالقوة.
يا أمة المليار ... ما لنا لا نتعظ بأحداث التاريخ وتقلبات الأيام؟! إني أسأل كل من مد يده للسلام مع كيان سرطاني، ويدعو له، أي سلام؟! سلام تفوق الكيان العسكري، أم سلام لا يلتزم فيه عالم قائم على رعاية السلام؟! أم سلام بمواصفات المستعمر وشروطه الخاصة؟! أو سلام الغلبة والتسلط والحصار والتهديد والإبادة الجماعية؟! إذا كان السلام الذي ينشده هذا العالم الذي يدعي التحضر، فكيف يمكن الاقتناع بجدوى مشروعاته التي كتبت على قراطيسهم، قد حصحص الحق، لا سلم ولا كلم مع اليهود الصهاينة وقد بدت عواديها، قد حصحص الحق لا قول ولا عمل ولا مواثيق صدق عند داعيها، لقد قال الله تعالى مُجليًا حقيقة عهودهم ومواثيقهم: "الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون" (الأنفال 56)، هم قوم بُهتان وخونة، وما نبه إليه القرآن، وبتنا نراه في واقعنا اليوم، حين ينقض الكيان الصهيوني العهود والمواثيق، فريق منهم يدعو للسلام وهم كاذبون، وآخرون يجاهرون بالعداوة، والآخر يعمل سلاحه، إذا ما آمنوا تهالكوا جميعًا في الحقد والبطش والمكر، هكذا هم لن يتطهروا من خصلتهم مهما ذبحوا من بقر، وهذا ما نبه عليه القرآن الكريم، وبتنا نراه في واقعنا اليوم، فهم حين ينقضون العهود لا ينقضها جميعهم في وقت واحد، وإنما ينقضها فريق دون آخر، فإن أصابه سوء تظاهر الفريق الآخر بالمحافظة على العهد، وإن استقام لهم الأمر، تتابعوا في النقض، ومشى بعضهم وراء بعض، فها هم اليوم منهم من يدعو للسلام، وحزب آخر يجاهر بالعداوة، هذا يجلس على مائدة المفاوضات، والآخر يُعمل سلاحه، فإذا أمنوا تهالكوا جميعا في الحقد والبطش والمكر.
لن يأتِ الآمر في المعاهدات التي ينقضونها كل مرة، لأنها ليست سوى حبر على ورق، لا أثر لها في الواقع إن لم تكن مدمغة بالقوة التي ترتعد لها فرائصهم كلما فكروا في نقضها أو إبطال مفعولها، لأن السلم إن لم يكن في موطن القوة والعزة فهو تنازل لهم، وخضوع لشروطهم، فيكون استسلامًا لا سلامًا.
ومتى ما حققت الأمة شروط القوة، التي هي أساس لنيل النصر عليهم، فتح الله مغاليق الأبواب، وهيأ لها أفضل الوسائل وأكرم الأسباب، وحقق لها الوعد.. فطوبى لمن كان رائد هذه الفئة، وطوبى لمن كان قائدا فيها، وطوبى ثم طوبى لمن كان جنديا من جنودها.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
القوة تصنع السلام.. اليمن أنموذجاً
منذ فجر التاريخ، كانت القوة سلاحا يفرض الاحترام، ويصنع الهيبة، ويمنح الشعوب مكانتها بين الأمم. لم يكن الضعفاء يوما أصحاب قرار، ولم يُحسب لهم حساب، بينما من يمتلك القوة – خاصة القوة العسكرية – يصبح رقما صعبا في المعادلات الدولية، ومركز اهتمام وتقدير من الأعداء قبل الأصدقاء. ولهذا، لا غرابة في مقولة أنه: “إذا أردت السلام، فاحمل السلاح.” فالعالم لا يعرف منطق الضعف، ولا ينصت إلا لصوت القوة.
ولعل التجربة اليمنية الحديثة تُعد من أبرز الشواهد الحية على أن القوة عزٌ، ومنعة، وكرامة. فعندما كانت اليمن في مرحلة الضعف والتبعية، كانت السيادة منتهكة، والقرار مرهونًا بالخارج، وكانت السماء مستباحة، والعدو يسرح ويمرح بلا رادع. أما اليوم، وبعد سنوات من الصمود والتضحيات، تحوّلت اليمن إلى قوة عسكرية يحسب لها ألف حساب.
لقد بنت اليمن قوتها العسكرية من العدم، وتطورت قدراتها الصاروخية والجوية في ظل حصار خانق وعدوان شامل، فامتلكت ما لم يكن متوقعا، وأثبتت للعالم أن الإرادة حين تتسلح بالحق، تصنع المعجزات. وما أن بدأت الصواريخ البالستية والمسيّرات اليمنية تستهدف عمق الأراضي العربية المحتلة في فلسطين، وتقصف مطار بن غورويون، ويافا وحيفا، وتمنع السفن الأمريكية والصهيونية من المرور من باب المندب، والبحر الأحمر والعربي، دعما وإسنادا لأبناء فلسطين، حتى تغيرت لغة العالم تجاه اليمن.
وها هي الولايات المتحدة الأمريكية – أقوى دولة في العالم كما يقولون، ورأس العدوان والهيمنة – تعلن وقف إطلاق النار وتطلب التهدئة، بعدما أعلنت القوات المسلحة اليمنية حظر تصدير النفط الأمريكي ومنع السفن المحملة بالنفط الأمريكي من المرور عبر البحر الأحمر والعربي والمحيط الهندي، وبعد فشل حاملتي الطائرات الأمريكية «ترومان وفينسون» والتي أصبحت تحت رحمة الصواريخ اليمنية.
فعندما أعلن الرئيس الأمريكي ترامب وقف إطلاق النار والاتفاق مع اليمن، وعندما اعترف بشجاعة اليمنيين وقدرتهم، فهذا لم يكن يصدر منه لولا القوة التي باتت تمتلكها اليمن. والتي لم تعد تلك الدولة الضعيفة التي يمكن تجاهلها، بل أصبحت قوة عسكرية صاعدة لا يمكن القفز عليها.
إنه عصر اليمن القوي، الذي لا يُملى عليه، ولا يُبتز، ولا يُخضع. قوة لا تُبنى على الطغيان، ولا للاعتداء على الآخرين؛ بل قوة قائمة على العدل والسيادة والكرامة. قوة ردعت، فاحترق المعتدون، وبنت، فازدهر الأمل في نفوس الأحرار.
إن القوة عز، ولكن بشرط أن تكون دفاعا عن الدين والأرض والعرض، وحماية المستضعفين ومناصرة لهم، وكسر جبروت الطغاة والمتكبرين، وطرد المحتلين الغاصبين للأرض. لا في خدمة الظلم والظالمين، واليمن اليوم تقدم نموذجًا يُحتذى: قوة عسكرية مستقلة، صلبة، تنطلق من عدالة القضية، وتبني سلاما من موقع القوة، لا من موقع التوسل والانكسار…