كوكب من أعاظم الأساتذة في كل فروع العلوم الطبيعية والمعرفية في الرياضيات والفلك والطب والكيمياء والجيولوجيا والجغرافيا، والأدب، نما انتماؤهم لمصر، وتمازجت أرواحهم في كيان واحد وهو الكيان المصري، وحرص هؤلاء العظماء من علمائنا الموسوعيين الذي ضم مجمع الخالدين للغة العربية أكثرهم، فسموا "بالعلماء المجمعيين" نسبة لمجمع اللغة العربية، وكان ذلك ظاهرة من ظواهر النهضة المصرية، فترى أساتذة الرياضيات والطب والفلك وعلوم الحيوان والحشرات والنبات والأدب، من أمثال الدكتور علي إبراهيم والدكتور محمود حافظ والدكتور محمد مرسي أحمد والدكتور عطية عاشور والدكتور حامد جوهر والدكتور عبد الحليم منتصر، وغيرهم من هؤلاء الأعاظم ممن يحويهم كتاب «علماء مصريون عظماء وقصص نجاحهم الملهم»، يحرصون أشد الحرص على تدريس العلوم الحديثة وتأليف وترجمة مراجعها باللغة العربية ويحققون في التراث العربي.

 

علي إبراهيم من أوائل الجراحين المصريين

ويقدم موقع "صدى البلد" سلسلة من الموضوعات، حول تاريخ هؤلاء العظماء بالتتابع، يكون الموضوع الأول، عن الدكتور علي إبراهيم، طبيب الملوك وحفيد إيمحوتب، وتتوالى على سلسلة "العلماء المصريون" العظماء أعمدة يخال للمرء أنهم عاشوا مع أجدادنا المصريين القدماء الذين بنوا المعابد والأهرامات وخرج من بينهم الأطباء والمهندسون، فتركوا حضارة لازالت وسيظل يتحدث عنها العالم بقية العمر، فهذا الطبيب العظيم إيمحوتب من أشهر الأطباء الفراعنة، وبجانب عمله طبيبًا كان يعمل مهندسا للملك زوسر فكان من العلماء بما تحمله الكلمة من معنى وأحد كبار خبراء الفلك، استمرت شهرته من ٢٥٠٠ قبل الميلاد حتى ٥٥٠ بعد الميلاد، ولقب بالعالم النابغة؛ فهو أول مهندس معماري وأول طبيب معروف الاسم، أسهم في اكتشاف الكثير من العلاجات القديمة للكثير من الأمراض، ويُعد إيمحوتب مُؤسس علم الطب في مصر والعالم وقام بتأليف مخطوطات عن الأعراض وطرق العلاج، والعلاج بالعقاقير، وكانت طريقته لا تعتمد على السحر والشعوذة كما كان مُتَّبعًا وقتها.

ويأتي الطبيب علي إبراهيم عطا ليكون حفيد إيمحوتب فهو من أوائل الجراحين المصريين، وأول عميد مصري لكلية طب قصر العيني، ورئيس الجامعة فؤاد الأول وزير الصحة في الفترة من ٢٨ يونيه ١٩٤٠ إلى ٣٠ يوليو ١٩٤١  وعضو - بمجمع اللغة العربية، كما أسس الجمعية الخيرية بالعجوزة.

في إحدى قرى مطوبس بمحافظة كفر الشيخ تزوج إبراهيم عطا الفلاح الذي يعمل بالأجرة من الفلاحة مبروكة خفاجي؛ وبسبب ضيق الحال طلق إبراهيم - عطا زوجته مبروكة رغم أنها حامل وفي الشهور الأخيرة للحمل. فانتقلت مع . والدتها وشقيقها إلى الإسكندرية وأنجبت ابنها علي، وقررت أن تبذل ما بوسعها لتربيته تربية حسنة وتعلمه بأفضل ما يمكن.

ما كاد علي إبراهيم يصل إلى الثامنة من عمره حتى أدخلته والدته مدرسة - رأس التين الابتدائية، فكانت توفر له مصاريف الدراسة بصعوبة بالغة وكذلك الكتب، وما يكفي من القوت، ولقد سبقت تفكير عصرها بأن المستقبل للعلم والمتعلمين. ولم يخب ظنها في علي فقد كان دائمًا موضع إعجاب مُدرسيه وأساتذته لتفوقه وحسن خلقه، حيث حصل في هذه السن المبكرة على العديد من الجوائز التقديرية والتشجيعية والتي كانت وسام شرف يحمله الطالب الصغير، ومن بين هذه الجوائز مجموعة من الكتب والقصص الروائية الإنجليزية الشهيرة، في عام ۱۸۹۲ حصل علي إبراهيم على الشهادة الابتدائية، وكان ترتيبه الأول بين زملائه. وقد كانت الشهادة الابتدائية في ذلك الوقت تعادل الشهادة الجامعية من حيث الوجاهة الاجتماعية وفرصة الحصول على وظيفة محترمة. وما إن علم الأب بنبأ نجاح ابنه، حتى طلب ضمه إليه، فقامت أمه بتهريبه من سطح بيتها إلى سطح البيت المجاور وهربت به إلى القاهرة، حيث أدخلته المدرسة الخديوية في درب الجماميز وعملت لدى أسرة السمالوطي المعروفة لتستطيع أن تنفق على تعليمه، حتى تفوق "علي" في دراسته واستطاع دخول مدرسة الطب عام ١٨٩٧ ضمن ۱۲ طالبًا كانوا في دفعته، حيث اجتهد وقدم أفضل ما عنده من جهد ليصبح شخصية مرموقة وتخرج فيها عام ١٩٠١.

وفي مدرسة الطب تعرف على إبراهيم إلى العلامة المصري الكبير الدكتور عثمان غالب وهو أول من كشف عن دورة حياة دودة القطن وله بحوث عالمية في علوم البيولوجيا، فتعلق به وصار يلازمه بعد انتهاء وقت الدراسة ويقضي معه الساعات الطوال يتكشف دقائق أبحاثه وجلائل دراساته. لم يكتف على إبراهيم بذلك فتتلمذ على يد الدكتور محمد باشا الدري شيخ الجراحين في الجيل السابق لعلي إبراهيم، وأخذ عن الدكتور محمد علوي باشا. وهو أول الباحثين في أمراض العيون المتوطنة فيها وطبيب الأميرة فاطمة إسماعيل صاحبة الفضل على الجامعة المصرية القديمة، وفي السنة النهائية من كلية الطب عين على إبراهيم مساعدًا للعالم الإنجليزي الدكتور سيمرس، وهو أستاذ الأمراض والميكروبات. وتقرر له راتب شهري عن وظيفته هذه مما أكسبه خبرة وتدريبا قل أن يتوافر لطالب، وبذا تكونت له في مرحلة مبكرة شخصية العالم الباحث المحقق. قضى علي إبراهيم أربع سنوات في مدرسة الطب كأول تطبيق لقرار الحكومة، حيث تخرج وكان أول دفعته عام ۱۹۰۱ وبدأت مراحل جني ثمار العلم والنبوغ.

 

علي إبراهيم مكتشف الكوليرا وعالج حسين كامل

وفي عام ۱۹۰۲ ، انتشر وباء غريب في قرية موشا بالقرب من أسيوط، فانتدب الدكتور علي إبراهيم للبحث عن سببه، حيث توصل إلى حقيقة الداء، وكشفت التحاليل أن الوباء هو الكوليرا الأسيوية، وأن مصدره هو الحجاج بعد عودتهم من الأراضي الحجازية.

بعد ١٥ عامًا تعرض السلطان حسين كامل لمرض عضال واحتار الأطباء في تشخيصه، فاقترح عالم البيولوجي الدكتور عثمان غالب على الأمير كمال الدين حسين نجل السلطان حسين كامل، اسم الدكتور علي إبراهيم حيث عالجه وأجرى له جراحة خطيرة وناجحة، فكان أن أنعم عليه السلطان بتعيينه جراح استشاري الحضرة العلية السلطانية وطبيب السلطان وأنعم عليه برتبة البكوية.

وفي عام ۱۹۲۲ أنعم الملك فؤاد الأول عليه برتبة الباشوية، وهنا بدأت رحلة نجومية علي إبراهيم، فعيّن عام ۱۹۲۹ أول عميد مصري منتخب لكلية الطب جامعة فؤاد الأول، وفي ۲۸ من يونيه ۱۹٤۰ عُيّن وزيرًا للصحة في وزارة حسن صبري باشا، وفي سبتمبر ١٩٤١) بعد خروجه من الوزارة مباشرة عين مديرًا، ومن أحفاده الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية السابق والذي يسرد بعضا من حياة جده بقوله: جدي الدكتور علي باشا إبراهيم، مؤسس القصر العيني الحديث وأشهر جراح مصري أشرف على تمصير الطب في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، مديرًا لجامعة فؤاد الأول وعضوا لمجمع اللغة العربية. كان جدي - رحمة الله عليه - عاشقا للآثار والتحف الإسلامية وحريصا على اقتناء النفيس منها؛ حيث استمر في جمعها لأكثر من ٤٠ عامًا. وقبل وفاته أهدى مجموعة من التحف النفيسة لمتحف الآثار بكلية الآداب، ثم قامت جدتي بعد وفاته بإهداء مجموعة أخرى كبيرة من مقتنياته إلى دار الآثار المصرية المعروفة حاليا باسم متحف الفن الإسلامي. ومن الطرائف أن قصر علي باشا إبراهيم هو الذي تم تصوير فيلم الناظر فيه تحت اسم مدرسة عاشور بطولة الفنان الراحل علاء ولي الدين.

وفي أوائل سنة ١٩٤٦ بدأت صحة علي باشا إبراهيم في التدهور، فلزم بيته واعتكف عن عمله. فلما كان يوم الثلاثاء ۲۸ من يناير ١٩٤٧ ، تناول غداء خفيفا و ثم ذهب في النوم حتى إذا كانت الساعة الخامسة أفاق من نومه وهنا صعدت روحه إلى بارئها. وفي اليوم الثاني خرجت جموع الشعب فأدت صلاة الجنازة على فقيدها العظيم خلف الأمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، وبعد وفاته أهدت زوجته مجموعة أخرى لدار الآثار المصرية (متحف الفن الإسلامي حاليا).

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: على إبراهيم مصريون عظماء الكيان المصري الدکتور علی إبراهیم فؤاد الأول طبیب ا

إقرأ أيضاً:

أحمد باشا حلمي .. صانع النهضة الذى لم ننصفه

أحمد باشا حلمي ليس مجرد اسم في صفحات التاريخ، بل هو رمز من رموز الخدمة العامة والتفاني في العمل الوطني، رجل صنع بصمته في مسيرة مصر الحديثة، فكل خطوة له كانت دليلا على حب الوطن وحرصه على تقدمه. 

تخرج أحمد باشا من كلية الحقوق عام 1883، وكان منذ البداية شابا واعيا بعظمة المسؤولية وضرورة العمل الجاد من أجل مستقبل بلاده. 

هذه الروح الوطنية لم تتركه يوما، بل قادته إلى أن يكون جزءا من صناعة القرار، وساهم بفاعلية في تطوير مؤسسات الدولة في مرحلة حرجة من تاريخ مصر.

مسيرة أحمد باشا حلمي المهنية كانت مليئة بالتحديات والإنجازات، فقد شغل منصب ناظر المالية في وزارة محمد سعيد الأولى، ثم ناظر المعارف العمومية، وهو الدور الذي كان بمثابة حجر أساس في تعزيز التعليم وتنمية الفكر الوطني. 

حينها، كان واضحا أن حلمي لم يكن يهدف إلى المناصب أو الألقاب، بل كان يسعى لتطوير مصر من خلال الإصلاح والتجديد، لتكون مصر بلدا متعلما قويا قادرا على مواجهة تحديات العصر.

وفي أبريل 1914، تم تعيينه وزيرا للمعارف العمومية في وزارة حسين كامل رشدي، وهو منصب أتاح له الفرصة لتفعيل أفكاره وتجربته في التعليم والثقافة، إذ كان يؤمن أن النهضة الحقيقية تبدأ من العقول والقلوب قبل كل شيء. 

وفي ديسمبر من نفس العام، عين وزيرا للزراعة، وهو دور آخر جسد فيه حبه لمصر وحرصه على نهضة الأرض والفلاحين، فكان يسعى دائما لتطوير الزراعة وتقديم الدعم للمزارعين باعتبارهم عماد الاقتصاد المصري.

التدرج الوظيفي لأحمد باشا حلمي يعكس مدى كفاءته وإخلاصه، فقد جدد تعيينه في الوزارة الثانية في أكتوبر 1917، واستمر في خدمة مصر حتى أبريل 1919، مظهرا التزاما لا يتزعزع تجاه وطنه. 

مسيرته هذه لم تكن مجرد تولي مناصب، بل كانت رحلة ملهمة لتأكيد أن مصر تحتاج إلى قادة يضعون المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، ويعملون بروح وطنية صادقة، بعيدا عن أي مصالح شخصية أو ضغوط خارجية.

أحمد باشا حلمي كان أكثر من وزير أو مسؤول، كان نموذجا للإنسان المصري الذي يعرف قيمة وطنه، ويؤمن بأن العمل الجاد والمتواصل هو السبيل لتحقيق النهضة الحقيقية. 

لقد كان يؤمن أن كل إصلاح في التعليم أو الزراعة هو خطوة نحو بناء مصر قوية ومستقرة، وأن الاستثمار في العقول والحقول هو استثمار في المستقبل. 

هذه الرؤية العميقة لم تكن نظرية على الورق، بل كانت واقعا يعيشه المصريون من خلال مشاريعه وإصلاحاته، وكان دائما قريبا من الناس، يسمعهم، يفهم مشاكلهم، ويسعى لحلها بروح إنسانية نادرة.

وأحمد باشا حلمي هو مثال للقيادة الوطنية الحقيقية، رجل حمل هموم مصر على عاتقه وسعى بلا كلل أو ملل لتطوير مؤسساتها وبناء الإنسان المصري. 

إن الحديث عن إنجازاته هو ليس مجرد سرد للتواريخ والمناصب، بل هو درس في الوطنية والإخلاص، درس لكل من يريد أن يفهم معنى خدمة وطنه بحب وتفان. 

أحمد باشا حلمي علمنا أن مصر لا تبنى بالوعود فقط، بل بالعمل المستمر والإيمان العميق بأن كل جهد يبذل لأجل الوطن له أثر خالد يبقى في ذاكرة الشعب. 

وعندما نتذكر أسماء مثل اسم أحمد باشا حلمي، نتذكر أن روح مصر الحقيقية هي في أولئك الذين يعملون من أجلها، ويضعون مصلحتها قبل أي شيء آخر، ويجعلون من خدمتهم لها مصدر فخر واعتزاز دائم.

مقالات مشابهة

  • أحمد مظلوم باشا.. رجل صنع تاريخ مصر الحديث
  • حافظ حسن باشا.. رمز الكفاءة الوطنية والإصلاح الحقيقي
  • يس أحمد باشا.. بين الحزم والإصلاح والدعوة الحقيقية
  • أحمد علي باشا.. الوزير الذي صنع بصمة مصرية خالدة
  • أحمد مدحت يكن.. باشا يعرف كيف تبنى الأوطان
  • أحمد باشا حلمي .. صانع النهضة الذى لم ننصفه
  • سعد زغلول.. بطل الحرية وصوت الأمة المصرية
  • أمين عثمان باشا .. شجاعة أزهرت في الظلام
  • حسين سري باشا .. رجل الدولة الذي صمت فأنقذ مصر من العواصف
  • الدكتور صدمني.. الفنانة غادة إبراهيم تعلن إصابتها بفيروس خطير | تفاصيل