هي حكاية سيدة عادية من غزة المنكوبة كانت على وشك أن تضع طفلها الخامس عبر عملية قيصرية، في مستشفى برفح تصله أصوات القصف والانفجارات من كل جانب.

وصلت متأخرة وهي تعاني من آلام مخاض ليس كسابقيه، وأدخلوها على وجه السرعة إلى مستشفى الأم والطفل، فقد كان يفترض أن تأتي في وقت أبكر، وهي التي سبق وأنجبت أطفالها الأربعة بعمليات قيصرية، وذلك لإجراء التحليلات اللازمة، ولتمكين الأطباء من إعداد ما تستطيع أيديهم الوصول إليه من تجهيزات وأدوية، للتعامل مع مثل هذه الحالات الصعبة الخطرة.

استنفر الجميع جهودهم لإنقاذ حياة السيدة التي كانت في وضع صحي حرج جدا، فقد تمزق رحمها وكذلك مثانتها، وبدأت تعاني من مضاعفات صحية خطرة؛ بسبب غياب التجهيزات والأدوية الضرورية.

دموع

"حاولنا نقلها إلى المستشفى الأوروبي بخان يونس لتوفر تجهيزات طبية أفضل به، لكن ونحن نحاول نقلها ازدادت حالتها سوءا"، يحكي لنا الدكتور زهير لهنا، الطبيب المغربي المتخصص في أمراض النساء والولادة، الذي استطاع -برفقة أطباء متطوعين آخرين- الوصول إلى جنوب قطاع غزة.

ويضيف أنهم وهم يبذلون كل الجهد لنقلها إلى المستشفى الأوروبي، لقيت السيدة ربها شهيدة مظلومة.

"لن أنسى أبدا صورة الزوج المكلوم وهو يذرف دمعا حارقا عندما علم بوفاة رفيقة دربه التي غادرته في هذه الظروف القاسية المدمرة، وتركته يتابع المشوار وحيدا مع أطفاله" يحكي الدكتور زهير.

ففي هذا السجن المفتوح الذي يشهد مجازر يومية يستشهد فيها المئات، تضيع مثل هذه الحكايات المأساوية في زحام القتل اليومي، فلا تنقلها شاشات التلفزيون، ولا توجد أرقام تحصي عدد السيدات اللواتي استشهدن بسبب غياب الأدوية أو الرعاية الطبية الأساسية أثناء الولادة تحديدا.

الدكتور زهير لهنا (الأول على اليمين) برفقة أطباء متطوعين في معبر رفح (الجزيرة) ست ساعات

في زمن مضى، كانت متوسط عدد الولادات بمستشفى الأم والطفل في رفح يبلغ نحو 20 ولادة طبيعية يوميا، و4 عمليات قيصرية، لكن بعد اندلاع محرقة غزة، وبسبب عوامل الصدمة والخوف ارتفع معدل الولادات المبكرة ليصبح 80 ولادة طبيعية في اليوم و20 عملية قيصرية، في أجواء تكاد تنعدم فيها الأدوية والأجهزة الطبية الأساسية.

يحكي زهير لهنا -الذي قضى أياما عدة في ما تبقى من مستشفيات عاملة بجنوب قطاع غزة- أن السيدات اللواتي يلجن إلى المستشفى أمامهن فقط نحو 6 ساعات للمغادرة بعد الولادة، لكي يتركن المكان لسيدات أخريات.

"إلى أين تغادر سيدة ولدت حديثا؟"، سؤال يفترض أن يكون جوابه عاديا، حيث تذهب المرأة -في العالم كله- مع مولودها معززة مكرمة في موكب يقوده الأهل فرحين إلى بيت ينتظر فيه الجميع إطلالة الضيف الجديد، مرحبين بسلامة الأم.

الدكتور زهير لهنا داخل مستشفى برفح (الجزيرة)

لكن في قطاع غزة الجواب مختلف، فقد هدمت إسرائيل البيوت على رؤوس أصحابها، وقتلت أكثر من 30 ألفا، وجرحت وبترت أطراف عشرات الآلاف، بينما اضطر مئات الآلاف من الأحياء إلى النزوح نحو الجنوب.

ولم يعُد هناك موكب من الأهل يستقبل الأم ووليدها، مثلما لما يعُد هناك بيت يحتضن الضيف الجديد، وفي ظل الحصار والمجازر اليومية، لم يعد هناك من الأصل طعام يمكن أن يسد جوع الأم، فضلا عن طعام يخصص لوفود المهنئين والمحتفلين بطقوس ما بعد الولادة والعقيقة، وفق عادات وتقاليد الأسر الغزّيّة في زمن مضى.

يقول الدكتور زهير إن المرأة التي تلد حديثا تخرج من المستشفى بُعيد الولادة وتتوجه نحو بيت متهالك، أو خيمة مصنوعة من مواد يسيرة، نصبت في وسط تنعدم فيه شروط العيش الإنساني العادي، ويؤثر غياب الطعام الصحي في صحتها ومن ثمّ في وليدها الذي يفتقد إلى حليب أمه التي جوعها الاحتلال.

هذا في الحالات العادية، أما بالنسبة للولادات القيصرية، فبإمكان المرأة أن تقضي 24 ساعة في المستشفى، ثم تغادرها إلى خيمتها.

عادة ما ينصح الأطباء الأم التي ولدت حديثا بتناول الأطعمة الغنية بالألياف والحديد، وبالإكثار من أكل الخضر والفواكه والحبوب الكاملة، وذلك لتتقوى بها على رعاية مولودها وإرضاعه.

كما ينصحونها بشرب كثير من الماء لتخليص الجسم من السموم والوقاية من الإمساك ومن الجفاف.

نسبة الوفيات بين الأطفال الرضع في غزة ارتفعت بسبب سوء التغذية (رويترز) معاناة

لكن أحدا لم يخبر أمهات غزة بما يجب عليهن فعله بعد أن يلدن، ولا أكل لديهن، ولا ماء يصلح للشرب يروي عطشهن، ولا بيت يحميهن من برد الشتاء القارس، ولا نظام صرف صحي يقيهن من الأمراض والأوبئة المنتشرة، وبسبب الجوع لا حليب بأثدائهن يُسكتن به جوع رضّعهن الذين ذاقوا ألم الجوع قبل أن يصرخوا صرختهم الأولى.

ولأن الظروف ظروف إبادة جماعية مستمرة منذ شهور، وقصف لا ينتهي، وتجويع ممنهج، فإن موجات الصدمات المتتالية رفعت نسب الإجهاض وحالات تسمم الحمل، كما ارتفعت أرقام المواليد الخُدّج بشكل ملحوظ، وكثير منهم لقوا حتفهم وهم داخل الحضّانات التي انقطع عنها الكهرباء بسبب إصرار الاحتلال وحلفائه على منع وصول الوقود إلى ما تبقى قائما من المراكز الصحية.

ومن لم يمت بالقذائف أو الصواريخ، تتلقفه الأمراض المرتبطة بسوء التغذية وانهيار منظومة الخدمات الصحية والطبية.

وقد حذَّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) مؤخرا من انفجار وشيك في عدد وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية، وقالت إن معدلات الوفيات بشمال القطاع أعلى بـ3 أضعاف من المسجلة في الجنوب.

وبالإضافة إلى الجوع، تقول الهيئة الأممية إن هناك خطرا متزايدا من انتشار الأمراض المعدية، حيث أصيب 9 من كل 10 أطفال دون سن الخامسة (نحو 220 ألف طفل) بالمرض خلال الأسابيع الماضية. علما أن هذه البيانات سُجلت في يناير/كانون الثاني الماضي، ولا شك أن الوضع اليوم هو أسوأ بكثير، خاصة في الشمال المحاصَر.

أجواء قاسية

يقول الدكتور زهير إن الناس في جنوب القطاع المحاصر يعيشون في جو غير صحي تماما، حيث ترتفع نسبة التلوث، مع طفح الصرف الصحي، وتعدد البرك الآسنة، وهي ظروف مثالية لتكاثر الجراثيم وانتشار الأوبئة.

فمصالح الشؤون البلدية عاجزة تماما عن التعامل مع هذه الكوارث بسبب تدمير الاحتلال للبنية التحتية، واستهدافه لكل من يتحرك، بحيث لا يستطيع أحد نقل القمامة -على سبيل المثال- إلى المكان المخصص لحرقها كما في السابق؛ لأن صواريخ الاحتلال تتربص بهم في كل مكان.

وحيثما ولّيت وجهك في رفح ومناطق الجنوب تجد خيمة تحتضن نازحين، وهي خيم بسيطة تؤوي الناس ولا تكاد تسترهم، وتنعدم فيها الشروط الأساسية للكرامة الإنسانية، ما يضع العائلات في وضع محرج صعب. فمئات الآلاف نزحوا إلى رفح، هربا من صواريخ الاحتلال التي أريد لها ألا تفرق بين خيمة ومبنى، فتدمر كل ما تجد في طريقها.

صواريخ تسحق العظام، وتتسبب في بتر أطراف، وفي حروق تسلخ الجلد وتفتت اللحم، ما يضطر الأطباء لإجراء عمليات في ظل ظروف قاسية لم تدرّس في الكليات الطبية، تكاد تنعدم فيها أدوية التخدير والتعقيم، يوضح الدكتور زهير لهنا.

ويتابع محدثنا بأن معظم الإصابات التي تصل للهيئات الصحية خطيرة جدا، إذ غالبا ما تكون في المناطق الحيوية بالجسم؛ مثل: الرأس أو الصدر، وهي إصابات تتطلب عادة تجهيزات طبية متطورة وطواقم طبية متخصصة، لكن في مؤسسات خدمات صحية تعمل تحت القصف، وتغيب عنها الأدوية الأساسية والأجهزة الضرورية، ويعيش داخلها نازحون هاربون من الموت، يكون الاستشهاد مصير أغلبية الحالات، وعددها كبير جدا.

مخاوف

أوضاع كارثية يعيشها الناس في رفح -يؤكد الدكتور زهير- في ظل انعدام الأمان، وشح الموارد الغذائية، والمخاوف المستمرة من القصف الذي قد يضرب في أي مكان. وما أصعب أن تعيش تفاصيل حياتك اليومية وأنت تتذكر في كل ثانية أنك قد تُقتل في أي وقت بصاروخ يتلذذ عسكري هناك بإطلاقه إهداء لابنة في عيد ميلادها، أو احتفالا بذكرى الزواج من حبيبة.

وفي ظل تنامي تهديدات الاحتلال بغزو رفح وقصفها من السماء والأرض، تزداد الصورة سوداوية في أعين الغزيين، الذين أكدوا للطبيب المغربي أنهم لم يعودوا يأملون في أي نوع من أنواع الدعم من الأنظمة العربية أو الغربية على حد سواء، وكل أملهم مرتبط بالله وحده، أن يعجّل بالفرج، وألا تعتاد الشعوب مشاهد قتلهم وتجويعهم وذبحهم صباح مساء.

فأهل غزة يحبون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا، وهم متشبثون بأرضهم، ويأملون في العودة إلى بيوتهم المهدمة فيعيدون بناءها، ويشترطون لذلك فقط أن يظلوا على قيد الحياة.

لقد استشهدت تلك السيدة الغزية خلال إجراء عملية قيصرية في بيئة دمَّر الاحتلال منظومتها الصحية، لكن شاء الله أن ينقذ الأطباء جنينها قبيل استشهادها، ليواصل الرحلة مع أبيه وإخوته الأربعة، ويحكي لاحقا قصة أمه، وربما يساعد في إعادة بناء بيته، وبناء غزة من جديد، مع من سينجو من الإبادة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

٢٥٠ شهيدا في مجازر للاحتلال بغزة في يومين

#سواليف

أكدت مصادر طبية أن أكثر من 200 شخص استشهدوا أو فقدوا في #غارات_إسرائيلية على قطاع غ#زة منذ فجر اليوم الجمعة، لترتفع #حصيلة_الشهداء إلى 250 خلال يومين، في تصعيد جديد للعدوان اعتبرته مصادر إسرائيلية تمهيدا لتوسيع للعمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع.

وقالت مصادر طبية للجزيرة إن 75 شهيدا سقطوا في غارات إسرائيلية على قطاع غزة منذ فجر اليوم، 64 منهم شمالي القطاع.

وقال مدير #المستشفيات الميدانية في غزة للجزيرة إن هناك 120 مفقودا جراء #القصف_الإسرائيلي على القطاع اليوم.

مقالات ذات صلة “ذخائر ضخمة” وعمليات استدراج.. إسرائيل ترصد تغيرا في تكتيكات حماس 2025/05/16

واستهدفت الغارات منازل مأهولة في بيت لاهيا ومخيم جباليا شمالي قطاع غزة منذ فجر اليوم.

وأظهرت صور خاصة للجزيرة اللحظات الأولى لارتكاب جيش الاحتلال الإسرائيلي #مجزرة بحق #النازحين بعد إجبارهم على إخلاء المناطق الغربية لبيت لاهيا، حيث قامت المدفعية الإسرائيلية باستهدافهم في أثناء نزوحهم.

وأظهرت الصور طواقم الدفاع المدني وفرق الإسعاف وهي تحاول انتشال جثامين الجثث وإنقاذ المصابين في ظل النقص الحاد في التجهيزات.


تكدس جثامين الشهداء

كما أظهرت صور من داخل مستشفى الإندونيسي (شمالي القطاع) تكدّس جثامين الشهداء على الأرض، بعد سلسلة غارات على بيت لاهيا ومخيم جباليا.

وأوضح جهاز الدفاع المدني أنه خلال تفقده منزلا قصفته إسرائيل في مخيم جباليا تبين أن المنزل يتكون من طابقين وأن من بداخله دفنوا تحته ولم يعثر لهم على معالم.

وقال الناطق باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل للجزيرة إن قوات الاحتلال تستهدف كل من يتحرك في شمال قطاع غزة، وأضاف أن هناك مفقودين لا تستطيع طواقم الدفاع المدني الوصول إليهم، وأوضح أن كل أنحاء القطاع تتعرض لاستهداف وعمليات قتل ممنهج.

وفي جنوب القطاع، استشهد فلسطيني وأُصيب عدد آخر، أحدهم وصفت حالته بالحرجة، في غارة إسرائيلية على خيمة تؤوي نازحين في حي الأمل غرب مدينة خان يونس.

وتأتي هذه التطورات بعد يوم من استشهاد أكثر من 127 فلسطينيا في قطاع غزة، في استمرار لتصعيد يعتبر الأعنف منذ أسابيع، إذ قصف جيش الاحتلال مستشفيين بشكل مباشر، إلى جانب 6 مدارس و3 مراكز تؤوي نازحين منذ الثلاثاء الماضي.

وقال وزارة الصحة في غزة إن ٢٥٠ شهيدا سقطوا في الغارات الإسرائيلية على القطاع خلال يومين.

وقال المدير العام للوزارة منير البرش إن القطاع يشهد أبشع مجازر التطهير العرقي.

وأضاف في مداخلة مع الجزيرة أن الاحتلال يستخدم أسلحة حديثة ومحرمة دوليا في استهداف المنشآت المدنية، ودعا إلى تحقيق دولي في ذلك، مؤكدا زيادة عدد حالات الأجنة المشوهة كأثر للأسلحة التي يستخدمها الاحتلال.

وقالت القناة الـ13 الإسرائيلية إن جيش الاحتلال يستعد لتوسيع نطاق القتال في غزة، في حين نقلت صحيفة معاريف عن مصدر في الجيش الإسرائيلي أن الهجمات الجوية الواسعة في مختلف أنحاء قطاع غزة تعَدّ إجراءات تحضيرية لنشاط مستقبلي.

ووافق المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر الإسرائيلي في وقت سابق من الشهر الجاري على خطة تهدف إلى “السيطرة على القطاع والاحتفاظ بالأراضي” لتكثيف الضغط على حركة حماس ودفعها للإفراج عن المحتجزين في غزة.

وترتكب إسرائيل بدعم أميركي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت نحو 173 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.

مقالات مشابهة

  • مدير مستشفى العودة بغزة: مهددون بكارثة محققة في حال استمر الوضع لأيام
  • الرائد بصل: مئات المفقودين لا يزالون تحت الأنقاض بغزة ولا نستطيع انتشالهم
  • إسرائيل تبحث اليوم إدخال المساعدات والغذاء إلى قطاع غزة
  • إعلام عبري: انتحار 35 جنديا إسرائيليا منذ بدء الحرب بغزة حتى نهاية 2024
  • نقص الإمدادات يهدد عمل سيارات إسعاف مستشفى العودة بغزة
  • قادة 7 دول أوروبية: لن نصمت أمام الكارثة التي تجري في غزة
  • مقال «الأسبوع» يزلزل الاحتلال.. مرصد إسرائيلي يتهم الدكتور محمد عمارة بالتحريض ضد إسرائيل
  • ٢٥٠ شهيدا في مجازر للاحتلال بغزة في يومين
  • بوتين يتحدى العالم: مستمرون في الحرب والعقوبات الاقتصادية لا تؤثر
  • الحوثي يواصل إطلاق الصواريخ صوب إسرائيل