الوطن:
2025-05-11@07:45:06 GMT

د. عاصم عبدالقادر يكتب.. التصوف في مواجهة التشدد

تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT

د. عاصم عبدالقادر يكتب.. التصوف في مواجهة التشدد

يجد البعض حساسية فى الحديث عن التصوف الإسلامى، وإذا ما وجد فى نفسه داعية الحديث أو ألجأته الحاجة إلى الكلام عنه حام حوله دون أن يذكره باسمه المصطلح عليه فيقول مقام الإحسان أو علم السلوك أو التزكية أو غير ذلك، من الأسماء فى محاولة منه أن يكون بمأمن من النقد أو التصنيف أو غير ذلك.

ولعل السبب فى ذلك هو الخلط والاضطراب فى فهم المصطلح أو عدم تحرير معناه على الوجه الأمثل، أو الصورة الذهنية السلبية التى صُنعت بليل وتم الترويج لها بفعل فاعل أو بسبب تراكم بعض الأخطاء التى تقع من بعض منتسبيه.

والتصوف، بعيداً عن المصطلحات التى جاءت فى بطون الكتب المعنية بهذا الأمر، يدور حول معنى هو الأسمى وهو المراد، وهو تهذيب النفس الإنسانية وتزكيتها والعكوف على إصلاح خللها وضبطها على منهج الوحى الصادر عن الله ورسوله.

وإن أكثر ما يؤرق الخطاب المتطرف هو خطاب الرحمة الذى يفيض من جنبات الشرع الشريف فى أوامره ونواهيه الصادر عن النفوس الزكية المتجردة لله ورسوله والتى أبانت عن أن خطاب التشدد والكراهية لم يكن يوماً ما خطاباً إلهياً أو نبوياً معصوماً، بل خطاب عقول متحجرة ونتاج أفئدة مظلمة لم تتلمس مكامن الرحمة والنور فى نصوص الشرع الشريف، ففهمت الشىء على هواها، وبلَّغت عن الله ورسوله غير مراده، وتسلَّطت بفهم سقيم خارج عن قواعد العلم والأدب وحسن الظن، وغالت فى الأمر، فمنحت بعض خلق الله صك الإيمان، بينما حجبته مُخالفها، ورمته بكل منقصة، واغتالته معنوياً بوصمة الكفر والشرك والابتداع.

وقد لمح النبى ما قد يقع من بعض أفراد هذه الأمة فأخبرهم بأن الدين يسر وأنه لن ينازع الدين أحد إلا صرعه وغلبه، كيف لا وهو الذى قال لأصحابه وللأمة من بعده (بعثت بالحنيفية السمحاء)؟! ولم يقف الأمر عند هذا الإخبار، بل تعداه إلى الأمر الصريح الواجب النفاذ حين خاطبهم وخاطبنا معهم (بَشِّروا ولا تُنفِّروا ويَسِّروا ولا تُعسِّروا) و(إن خير دينكم أيسره) و(إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة).

وقد حسم النبى أمر الإيمان والكفر، وأخبر -وهو المعصوم- أنه ما خاف على أمته الشرك بقدر ما خاف عليهم من أمر الدنيا، لكن قُطاع الطريق على السالكين عقدوا الأيمان على تعكير صفو حياة الناس، فما من مناسبة إلا تركوا ما فيها بمن فيها وتفرغوا للقدح، فلهم فى كل حدث وقفات، وبات عندنا قضايا موسمية تتجدد بتحدد المناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية، وأصبحت فى مواجهة عقول لم تعرف من الدين إلا رسمه، ولم تفقه عن الله مراده، وإذا ما حاججتَهم بمعاييرهم زاغوا وراغوا منك كما يروغ الثعلب.

إننا ننشد التصوف الراشد القائم على العلم والعمل، المتسق مع الفهم الصحيح لخطاب الشرع الشريف الذى لم يحرّف ولم يبدّل، وإنما يحقق مقاصد الشرع ويراعى مصالح العباد ويستخرج من النصوص ما يرفع الحرج عن الأمة التى بات واقعها متغيراً نظراً للتحولات الاجتماعية والمتغيرات الإقليمية والدولية، حيث يجب على الإنسان أن يتفاعل مع أحداث الحياة السريعة فى أخذ ورد وفى تناغم من غير تصادم.

لم يبق أمامنا إلا التصوف الراشد بأدبياته وما يرسخه فى الإنسان من سلام مع الإنسان وسائر الأكوان بعدما فشلت حركات الاستبداد والاستعلاء بالإيمان فى طرح خطاب راشد يعمل على المشترك وينحِّى المختلف فيه.

لقد كشفت الأيام لنا أننا أمام مدرستين، مدرسة تربى أبناءها على الانكسار لله وخفض الجناح لعباده، أحد أدبياتها ما ترجمه ابن عطاء الله السكندرى فى حكمته «ادفن نفسك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه»، وبين مدرسة تُلقن صغارها وهُم فى المهد «أنت أستاذ هذا العالم وسيده»، فينتفخ الصغير كبراً وصلفاً، ويتعالى على عباد الله فيشبّ وقد رأى أنه هو ولا شىء غيره، فإما أن تكون من بنى جلدته وحزبه، وإما أن تكون فى مرمى الإقصاء والسب والاغتيال المعنوى، بله القتل والسفك بلازم فهمه السقيم، وبدعوى إقامة الحق وتمكين الشرع، والحق والشرع من هذا كله براء.

لقد سادت الأمة بفهم علمائها من فقهاء ومُحدثى الصوفية، فدونكم الشاذلى وابن عطاء الله وزكريا الأنصارى والدردير وغيرهم ممن لا يقع ذكرهم تحت حصر، حيث العلم والعمل والمشاركة فى أحداث الحياة وصناعة الإنسان والبنيان فى قناعة بأن المنهج الحق هو التعمير لا التدمير، وهو الإنارة لا الإثارة، وهو الرحمة لا التشدد.

عندما غُيِّبت هذه المعانى وغُيِّب التصوف وغُيِّبت معه مناهج التزكية التى كانت قرينة علوم الشريعة، والتى يمتاح جميعها من معين واحد، أطل التطرف برأسه، وسكن الرؤوس، وعشعش فى القلوب، وغزا كل المستويات والشرائح الاجتماعية المختلفة من دون تفرقة.

نعم، غاب التصوف فظهر التشدد، وظهرت معه أدواته من انغلاق الفهم وضيق الأفق وضبابية الرؤية وعدم النظر فى مآلات الخطاب، وتنحَّى النفَس المحمدى الرحيم الذى يفيض حناناً وشفقة بالخلق، فنتج عن ذلك تعطيل لمقاصد الشرع، وتضييق على مصالح العباد، وفهم الأمور على غير مرادها، وفهم الوحى على غير مقاصده، وانتقلنا من محل النزاع، وتصدَّر للبلاغ عن الله من ليس أهلاً، وفُهمت النصوص من غير تمكُّن من أدواتها -كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح- وانتُزعت بعيداً عن سياقاتها ولم ينظروا فى سباقها ولحاقها ومساقها، وجعلوا الظنى فى مقام القطعى، والقطعى محل الظنى، وسحبوا مسائل الفقه المتفق عليها الدائر الحكم فيها بين الجواز وعدمه والحِلِّ والحُرمة إلى مسائل العقيدة التى تدور حول الإيمان وعدمه، فضاعت مفاتيح النصوص، وأبت النصوص أن تفيض بمكنونها، فصرنا إلى حال بئيس نحتاج إلى فيض مدد إلهى يُخرجنا من هذه الكبوة.

إن الأمة بحاجة إلى إحياء فقه التصوف الراشد وتحويله إلى سلوك يسرى فيها كما يسرى الماء فى الورد فنستعيد الخطاب المحمدى الرحيم بما يحمله من حنان وشفقة تنعقد معه الجمعية بين الحق والخلق فى إقرار وإذعان بأن العبد عبد والرب رب مستوجب للعبادة فتتجلى عطاءاته وفيوضاته على عباده، فاللهم أدركنا واسلك بنا سبيل عبادك الذين منحتهم حُسن الفهم عنا فكانوا لك وكنت لهم ولياً ونصيراً.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: التصوف التسامح اليسر التشدد عن الله

إقرأ أيضاً:

فوق السلطة: الشرع يحترم نصر الله وبولندا تتبنى علموا أولادكم الرماية

جاء ذلك ضمن ما تناوله برنامج "فوق السلطة" -في حلقته بتاريخ (2025/5/9)- إلى جانب جملة من قضايا فلسطينية وعربية ودولية شغلت الرأي العام العربي والعالمي.

وعرضت الحلقة فيديو لرئيس التحرير في قناة الميادين عبد الله شمس الدين يقول فيه إن الشرع تطرق خلال لقائه مع القيادة الدينية والشعبية للشيعة في سوريا إلى نصر الله.

ووفق شمس الدين، فإن أشخاصا أبلغوه بأنهم فوجئوا بحديث الشرع عن نصر الله خلال اللقاء، ونقلوا عنه أن "نصر الله كان صادقا مع قضيته"، لكنه يختلف معه في تدخله في الشأن السوري ومساندة قوات نظام بشار الأسد.

وأشار الشرع -حسب المتحدث- إلى معرفته بتعليق شيعة سوريا صورا لنصر الله في بيوتهم، مؤكدا أنه يحترم كل الطوائف الدينية في البلاد، ولا يتدخل في شعائرها وما تقوم به.

وكانت إسرائيل قد اغتالت نصر الله يوم 27 سبتمبر/أيلول 2024 بسلسلة غارات عنيفة استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت، في الحرب الأخيرة التي انتهت باتفاق وقف إطلاق النار أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

تكايا غزة

وفي موضوع آخر، تناولت الحلقة استقواء إسرائيل على التكايا الخيرية في قطاع غزة، في ظل حرب التجويع التي تفرضها على سكان القطاع المحاصر واستخدامها الغذاء سلاحا.

إعلان

وبشكل ممنهج، استهدف الاحتلال الإسرائيلي في الأشهر الماضية التكايا الخيرية في مختلف أنحاء القطاع، إذ يتكئ الغزيون عليها لمواجهة حرب التجويع ونقص المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية في ظل إغلاق المعابر.

وقال مقدم البرنامج نزيه الأحدب إن إسرائيل "أرادت سحب هذه القشة من أنفاس الغزيين، فاستقوى طيرانها الحربي على التكايا وعلى الصبايا اللواتي يحملن القدور الفارغة عند أبوابها".

وتعد التكايا من المؤسسات الاجتماعية الإسلامية التي نشأت في زمن الدولة العثمانية بهدف فتح مساكن ومطاعم مجانية للفقراء والمحتاجين وعابري السبيل وطلاب العلم المنقطعين عن العمل.

وفي موضوع ذي صلة، سلط السياسي الإيطالي أليساندرو دي باتيستا الضوء على ما اعتبره تجاهل الإعلام الغربي وصمته عن مجازر أطفال فلسطين رغم اعتراف منظمة العفو الدولية بالإبادة الإسرائيلية، وقال إن هذا الإعلام يتجاهلهم لأنهم مسلمون.

وتساءل مقدم البرنامج: "هل يتكرم البابا ترامب والماما أوروبا باعتبار المسلمين في الشرق الأوسط أقليات دينية ويتدخلون لحمايتهم؟".

"علموا أولادكم الرماية"

وفي أوروبا، دفعت الحرب الروسية الأوكرانية بولندا إلى توسيع منهجها الدراسي ليشمل تدريبات عملية لطلابها على استخدام الأسلحة وكيفية التصويب.

ويجسد التوجه البولندي الجديد رسميا مقولة الصحابي عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل".

وتناول البرنامج عددا آخر من المواضيع وهذا أبرزها:

انقسام حاد بين إسرائيلية موفق طريف وعروبة وليد جنبلاط. لقبوهم بجماعة التكفير والهجري، دروز يُهدرون دماء دروز. البابا ترامب يعرض خدماته على الفاتيكان لترؤس الكنيسة. 9/5/2025

مقالات مشابهة

  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (الزمان الأخرس يخطب)
  • حسين خوجلي يكتب: العرب يتألمون والعجم يتأملون
  • صلاة الاستخارة.. تعرف على حكمها وكيفية أدائها والدعاء المخصص لها
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (نفكر…)
  • فوق السلطة: الشرع يحترم نصر الله وبولندا تتبنى علموا أولادكم الرماية
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: ( نفكر…)
  • عاصم منير أحمد شاه | جنرال باكستان القوي ولاعب الكريكيت الملتزم
  • الأمر لم ينتهِ.. أنهض .. الفشل جزء من النجاح
  • لمياء شرف تكتب: الأمر لم ينتهِ.. انهض.. الفشل جزء من النجاح
  • إعلام إسرائيلي: ترامب ترك تل أبيب وحيدة في مواجهة الحوثيين