نحن ندرك ماذا تريد منّا إيران فهل عرفنا ماذا نريد منها؟
تاريخ النشر: 16th, May 2024 GMT
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الشعب الفلسطيني..
وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا.
وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..
وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة "إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين عدوهم منهم.
"عربي21"، تفتح نقاشا فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..
وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد الحي عرابي، ننشر اليوم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي.
1 ـ الجدل على نحو غير مباشر
رصدتُ ما يشبه الجدل على صفحات "عربي21" بيني وبين د. عرابي عبد الحي عرابي يتعلّق بأمرين هما كتاب "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية" للباحث محمد بن مختار الشنقيطي وهجوم "الوعد الحق" الإيراني على إسرائيل. واخترت العبارة "ما يشبه"، لأنه من الجليّ أن التقاء للهموم قد جمع بيننا بحكم التفاعل مع قضايا الواقع، لا بحكم اطّلاع الدكتور عرابي على ما كتبت أو تفاعله المباشر معه. فقد سبق أن نشرت على هذه الصفحات مقالة بعنوان "السنة والشيعة في مواجهة الحروب الصليبية من الصّدام إلى التحالف".. وهي قراءة مبسطة لكتاب الشنقيطي وأخرى بعنوان" ـ "الوعد الحق" وتعثّر العقل السّني في فكّ شفرات رسائله".
أمّا ما كتب الباحث عرابي فجاء بعنوان" إيران والدول الشيعية التاريخية.. هل ثمة اتفاق في واقع الحال؟". وهي تفاعل على نحو مّا مع الكتاب نفسه. ولئن كنت قد بحثت في تشتت المسلمين بين شيعة وسنة في فترة الحروب الصليبية وهجوم الوعد الحق في موضوعين منفصلين فإن الباحث السوري قد جمع بينهما في ورقة واحدة. فأسقط صورة الماضي على الراهن بموجب التشابه في أطراف المواجهة أي الطرف الإسلامي المشتت بين سنة وشيعة أمس واليوم والآخر الغازي الصليبي بالأمس والمسيحي اليهودي اليوم. ولكن هذا الإسقاط وما صاحبه من قياس يبقى مثيرا لالتباسات عديدة. لذلك أردت أن أحوّل هذا التفاعل بالقوّة إلى تفاعل بالفعل، وأن أتبسّط في ما يستوجب التّبسط، بما يحتمله سياق هذه الورقة ومداها المحدود، وبما توجبه أخلاق المحاورة.
2 ـ كتاب "أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية"
لقد خاض كلانا في العلاقات السنّية الشيعية من منطلق التفاعل مع مؤلَّف محمد بن مختار الشنقيطي "أثر الحروب الصليبيّة على العلاقات السنّيّة الشيعيّة". والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه صيغ باللغة الإنجليزية وتولى الباحث تعريبها بنفسه، تعود بنا إلى ما كانت تعيشه الإمارات الإسلامية الناشئة من الاقتتال فيما بينها، عند قيام الحروب الصليبية. فترصد وضعا مفارقا بين الطرف الإسلامي المتناحر الذي لا يجد إلى التّحالف سبيلا لصد العدوان مقابل وحدة الصّف المسيحي. وتردّ التشتت العربي الإسلامي أثناء تلك الحروب إلى الشرخ المبكر حول موضوع الشرعية السياسية. ولكنها تنتهي إلى رصد تحوّل بين السّنة والشّيعة من الصّدام إلى التحالف على المدى البعيد. فقد شكّلا جبهة قوية انتهت إلى دحر العدوان الصليبي. ثم تشير إلى أنّ الهوة بين المذهبين ستأخذ في الاتساع من جديد عندما تمدّد التّشيع شرقا في جنوب العراق وبلاد فارس. وتعد بدراسة الخلاف السّني الشيعي في امتداده التاريخي في كتاب لاحق.
لا شكّ أن عالمنا العربي الإسلامي قد دمع خسائر اكبر بكثير مما دفعته أوروبا. منها سنوات طويلة من الاستعمار والانحطاط والاستبداد ونهب الثروات. ولا بدّ أنّ الأوان قد حان لنخبتها لتخرج من دائرة ردود الفعل العاطفية الانتقامية لتقوم بدورها للدفع نحو مقاربات عقلانية ترفع المهانة والاستضعاف عن الأمة وتنقذها من جحيم التقاتل الدّاخلي وتوجّه البوصلة نحو العمل المشترك لمواجهة الأخطار الخارجية. ولا يكون ذلك إلا بالعمل على التكامل الاقتصادي في إطار احترام حرية الضمير بدل تأجيج الصراع المذهبي في عالم لا يمنح مكانا تحت الشمس إلاّ للأقوياء. وفي الآن نفسه أبدى كلانا رأيه في تفاعل الرأي العام السّني مع هجمات إيران على إسرائيل التي حملت تسمية "الوعد الحقّ". ورغم اشتراكنا في نقاط عديدة فإن جوهر مقاربتنا للعلاقة السنية الشيعية بدا على قدر من التّباعد، بما يستوجب التأمل والتفكير.
3 ـ " إيران والدول الشّيعية التاريخية.. هل ثمة اتفاق في واقع الحال"؟
تتضمن مقالة الدكتور عرابي " إيران والدول الشيعية التاريخية.. هل ثمة اتفاق في واقع الحال"؟ توسيعا للموضوع الذي قاربه الشنقيطي ليشمل قضايا الراهن. ورغم إقراره بأنّ "التّاريخ نفسه يثبت أن أمراء من السنة والشيعة الإماميّة قاتلوا الصليبيّين معًا في معارك متعددة" فإنه يخلص إلى استنتاجات حاسمة ترمي كلّها إلى اتهام الشيعة بالتخاذل في نصرة القضايا الإسلامية. فـ"قد كانت مقاومة الصّليبيين عملًا سنيًّا بامتياز، ويثبت ذلك استقراء التاريخ".
و"حاول الفاطميون الحاكمون لمصر آنذاك استغلال وجود الصليبيّين للتوسّع على حساب السنة" و"كان الفرع النزاري من الإسماعيليّين في الشام ـ الحشّاشون تاريخيًّا ـ يؤدون دورًا دمويًّا ومخرّبًا للمقاومة السنية وذلك من خلال اغتيال قيادات بارزةٍ من السنّة كالوزير نظام الملك ومحاولة اغتيال صلاح الدين وغيره من قيادات الشيعة المتعاونين معه في مقاومة الصليبيين" أما "الدولة البويهية التي ظهرت في ديلمان ـ محافظة إيرانية الآن ـ فسيطرت على معظم بلاد فارس وصولا إلى كامل العراق وأجزاء من الحجاز واليمن حتى ظهور ما يعرف بفتنة البساسيري الذي أراد تسليم بغداد للدولة الفاطمية مما دفع السلاجقة ـ لاستغلال الفرصة ـ وبسط نفوذهم إلى بغداد وبلاد الشام".
وأمّا العلماء الشيعة العرب فقد أسهموا في "صياغة هوية ثقافية أهّلتهم -فيما بعد- ليكونوا السند الفكري للصفويين في نشر التشيع وفرضه على عامة أهل فارس مطلع القرن السادس عشر". وهكذا "اعتمدت الدولة الصفوية على العنصر التركي المتشيع في قبائل الأناضول لتقوية حضورها عسكريًّا".
على هذا النّحو تجمع الاستنتاجات كل الفكر الشيعي في ربق واحد. وتحمّله وحده مسؤولية الانتكاسة الإسلامية أيام الحروب الصّليبية.
4 ـ التّشخيص الخاطئ يفضي حتما إلى معالجة خاطئة
يعرض د عرابي في مقالته استنتاجات خاصّة أخرجت محتوى الكتاب الأصلي من المقاربة العلمية الرّصينة إلى الطّرح الإيديولوجي المتشنج. فليس الشيعة وحدهم المسؤولون على تشتت كلمة المسلمين، بل إن الإمبراطورية الإسلامية لم تكد تفرض سلطانها الكامل والنهائي على كامل الأراضي الإسلامية منذ أيام الفتنة. فقد كانت جيوب المقاومة أو التمرّد أو الانشقاق دائمة الظّهور هنا وهناك. وضمن هذا التّشرذم مثّلت الدولة الفاطمية الشيعية خلافة ثالثة تزامن وجودها مع الخلافة العباسية شرقا والخلافة الأموية الأندلسية غربا. فكانت تزحف من الغرب الإسلامي نحو الشرق، بغاية الاستيلاء على السلطة ضمن تصورها الإيديولوجي الذي يحصر الخلافة في آل البيت.
ولم تكن القاهرة في مخطّطهم سوى عاصمة مرحليّة كانوا سيتركونها إلى بغداد أو غيرها من مراكز العالم الإسلامي وقتها كما تركوا المهدية سابقا. وكانوا في صدام مستمر مع الخلافة العبّاسية قبل ظهور الحملات الصليبية. وعند قيام الحروب الصليبية كانت مختلف الإمارات الإسلامية الناشئة تعيش حالة من الاقتتال فيما بينها بصرف النّظر عن انتمائها المذهبي.
والحاصل أنّ كثيرا من التقاعس والتواطؤ وحدثا وفق عديد الدّراسات التّاريخية. ولكنّ من الخطإ أن ننسب ذلك إلى بعض الشيعة دون غيرهم. فسائر الأمراء الذين وجدوا في الهيمنة الصليبية ما يثبّت حكمهم، بصرف النّظر عن مذاهبهم، قد انخرطوا في هذا التقاعس بأشكال مختلفة. وهذا ما تتوقّف عنده أطروحة د. محمد المختار الشنقيطي طويلا.
5 ـ لنسلّم بالأطروحة القائلة بأنّ إيران خطر داهم فكيف يجب أن نواجهه؟
يقفز د عرابي إلى العصر الرّاهن فيصادر من خلال عمليات قياس تاريخية لا تخلو من تعسّف أحيانا على أنّ "التشيع الإيراني اليوم ... يسعى بما أوتي من قوة لإلغاء عقيدة الآخر وفرض عقيدته الولائية، وكأنه استمرار لحملات الدولة الصفوية الدموية لفرض مذهبها المتشيع على أهل السنة الذين حكمتهم في إيران إبان إعلان دولتهم". فقد "كانت إيران ممن فاز بالسيطرة الفعلية على أربع عواصم عربية في ظرف عشر سنوات، وعينها تمتد إلى تغيير الديموغرافيا الدينية والبشرية في المنطقة لصالحها". مستغلة فوضى الثورات العربية.
ولا ننكر أنّ في توصيف الباحث كثيرا من الحقائق التاريخية التي لا يمكننا إلا التسليم بها. ولكن ورقته لم تخل من إسقاط لما بدا له قانونا يحكم سلوك الشيعة ماضيا على الحاضر. وبناء على هذا القانون يستنتج أنّ إيران اليوم "تقود مشروعًا استراتيجيًّا للسيطرة على محيطها وإخضاعه لنفوذها" والأخطر أنها تعمل على "تغيير ديمغرافي وعقدي" وبذلك فإن خيانة الشيعة تتفاقم مع تقدّم الزّمن.ف "البعد الإيراني في موقفه من إسرائيل لا يشبه بحال من الأحوال قبول الدويلات أو العائلات الشيعية الحاكمة في محيط الإمارات الصليبية التحالف مع السنة، فهم لم يعملوا على تغيير ديموغرافي وعقَدي واسع كالذي تنتهجه إيران في سورية واليمن".
بيّن أنّ ورقة الباحث عرابي تنزع إلى تأجيج الصّراع المذهبي. فتدعو إلى مزيد من المواجهة بين الشيعة والسنة ومزيد من الحروب المدمرة التي لا يستفيد منها أحد بالنتيجة، وإن لم تصرّح بذلك. فللصدام بين السنة والشيعة في اليمن نتائجه الكارثية التي يتحمّلها الشعب اليمني وحده وحرب الخليج الأولى التي قادها صدّام حسين بتهوّر بالعنوان نفسه انتهت بالعراق إلى دمار لم تستطع التخلص من تبعاته إلى اليوم. وعليه فأولى بنا أن نفكّر في مخرجات أخرى لهذا الصّدام المذهبي بما يحفظ مصالح الدول العربية المتضررة من تفاقم الدور الإقليمي الإيراني بدل أن نصبّ الزيت على النار الموقدة في التّوتر المذهبي الذي يدفع الجميع فاتورة تفاقمه.
قد نتفهم البعد الذاتي من المسألة انطلاقا من تجربة الباحث الشخصية التي يوثقها قوله[من المؤكد لي -وأنا السوري المهجّر من بلدي- أن الميليشيات الإيرانية الرسمية وغيرها أوغلت في دماء السوريين، وأنها كانت سببًا في مقتل عشرات الآلاف منهم، وتهجير عشرات الآلاف آخرين، فهي في نطاق هذه الرؤية عدوّ يجب أن ينسحب من أرضنا كشرط لبدء حلٍّ في عودة السوريين إلى بلادهم]. ولا نملك هنا إلاّ أن نتعاطف معه. فليس المهجّر من دياره بفعل السياسة الإيرانية كالمتابع للوقائع على بعد آلاف الكيلومترات.
ولكن لا بدّ أن نفهم أنّ "التّمذهب" عامّة كان دائما محركا من محركات السياسة وأنّ "التشيع" استخدم منذ زمن ضمن حلم استعادة الإمبراطورية الفارسية. فقد كانت إيران سنّية شافعية في أغلبها. ولكنّ الصفويين رحّلوها من المذهب السني إلى المذهب الشيعي خلال القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر لمّا فرضوا التشيع الإثنا عشري مذهبا رسميا لإمبراطوريتهم لخلق هوية مذهبية مختلفة عن الدولة العثمانية حتى يضمنوا إخلاص سكانها وولاءهم للدولة ومؤسساتها ويستغلّوا المشاعر الدينية لتوطيد حكمها. وإيران اليوم تلعب الدّور نفسه فتستغل الانتماء الديني حتى تجنّد المشاعر الدينية لدى الشعوب العربية لخدمة المشروع القومي الفارسي.
أعتقد أن دور المثقفين التنويري على قدر من الأهمية في هذه المرحلة المربكة في تاريخ العالم العربي الإسلامي رغم ما تواجهه أصواتهم من إقصاء وتهميش. وبدل الاندفاع العاطفي جدير بنا أن ننفتح على التجارب المقارنة التي نجحت في تحويل الصّدام إلى تكامل. وتبقى الوحدة الأوروبية هنا أعظم التجارب وأبلغها رسالة. وليس أدلّ على ذلك من ولاء المكونات الشيعية العربية لسلطة الملالي في طهران أكثر من ولائها للأرض والوطن وقتالها بالوكالة عنها. ولا شك أنها ما فتئت تنشر الفوضى في الجسد العربي الممزق، في العراق واليمن والبحرين وتنخرط في الحرب الأهلية السّورية وتعطل الحياة السياسية في لبنان وأنها تستأنف الصدام بين الحضارة الفارسية والعربية الذي عرف بالحركة الشعوبية، ولكن من جهة الطرف المهيمن الذي يتحكّم اللعبة.
ولكن الورقة تنزع إلى تصنيف السّلوك الإيراني ضمن الصّراع المذهبي بين السنة الأخيار المدافعين عن بيضة الدين والشيعة الأشرار الخونة الذين يمثلون ورما خبيثا في الجسد المسلم. ولا أجدني هنا أميل إلى إلقاء اللوم على إيران، فتلك هي لعبة السّياسة في كل زمان ومكان، ولا إلى المذهب الشيعي، فالمعتقد وتر حسّاس يستخدم دائما للتّحكم في العقول لما له من وقع. ومن الطبيعي أن يقودنا التشخيص الخاطئ للمسألة إلى معالجة خاطئة. فالانحراف هنا سياسي أساسا.. ومن شأن مواجهته بانحراف مضاد يغذّي التوتّر المذهبي في المنطقة أن يقود إلى حروب جديدة يكون المنتصر فيها من يخسر أقل.
6 ـ هل من أفق لتحويل الصّدام إلى تكامل
أعتقد أن دور المثقفين التنويري على قدر من الأهمية في هذه المرحلة المربكة في تاريخ العالم العربي الإسلامي رغم ما تواجهه أصواتهم من إقصاء وتهميش. وبدل الاندفاع العاطفي جدير بنا أن ننفتح على التجارب المقارنة التي نجحت في تحويل الصّدام إلى تكامل. وتبقى الوحدة الأوروبية هنا أعظم التجارب وأبلغها رسالة. فالاتحاد الأوروبي اليوم يضم 28 دولة تنسّق فيما بينها ضمن هدف أسمى هو الحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا والحيلولة دون قيام الحرب في القارة العجوز مرّة ثانية. فأسهم هذا التعاون الاقتصادي الأوروبي نحو التكامل والبناء النقدي لابتكار اليورو عملة موحّدة تواجه الدولار توحّد أغلب الدول الأوروبية اقتصاديا وتضمن ازدهارها الاقتصادي وفق شراكة تضامنية. ولم تهتد أوروبا إلى هذا المعادلة القائلة بأن الدّول المتشابكة اقتصادية تتجاوز خلافاتها وتبحث باستمرار عن حلول تأخذ بعين الاعتبار مصالح كلّ الأطراف إلا بعد أن دفعت خسائر ثقيلة جدّا في الحربين العالميتين. فصدامها القومي وكلّفها خسارة نحو 60 مليون شخص من مواطنيها ودمارا هائلا وانهيارا اقتصاديا.
ولا شكّ أن عالمنا العربي الإسلامي قد دمع خسائر اكبر بكثير مما دفعته أوروبا. منها سنوات طويلة من الاستعمار والانحطاط والاستبداد ونهب الثروات. ولا بدّ أنّ الأوان قد حان لنخبتها لتخرج من دائرة ردود الفعل العاطفية الانتقامية لتقوم بدورها للدفع نحو مقاربات عقلانية ترفع المهانة والاستضعاف عن الأمة وتنقذها من جحيم التقاتل الدّاخلي وتوجّه البوصلة نحو العمل المشترك لمواجهة الأخطار الخارجية. ولا يكون ذلك إلا بالعمل على التكامل الاقتصادي في إطار احترام حرية الضمير بدل تأجيج الصراع المذهبي في عالم لا يمنح مكانا تحت الشمس إلاّ للأقوياء.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير إيران العلاقات العربي الجدل إيران علاقات عرب جدل سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العربی الإسلامی الحروب الصلیبیة ة على العلاقات الوعد الحق فی مواجهة ة الشیعی هذا الت
إقرأ أيضاً:
مجلة الحروب: تعطيل المجال الجوي التجاري استراتيجية إيران والحوثي كسلاح ضمن حربهما ضد إسرائيل (ترجمة خاصة)
سلطت "مجلة الحروب الصغيرة" الضوء على استراتيجية إيران وجماعة الحوثي الطارئة في استخدام تعطيل المجال الجوي التجاري كسلاح ضمن حربهما ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وقالت المجلة في تقرير تحليلي ترجمه للعربية "الموقع بوست" إن اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران في 13 يونيو/حزيران، عقب الضربة الاستباقية التي وجهتها إسرائيل لبرنامج الأسلحة النووية الإيراني، فتح آفاقًا جديدة لهذا النموذج الحربي.
وأضافت "استهدف الرد الجوي الإيراني في البداية مقر الدفاع الإسرائيلي في تل أبيب، لكن ردودها الجوية اللاحقة ركزت على المراكز السكانية المدنية - وهو تحول يؤكد أولوياتها التكتيكية المتطورة، بالنظر إلى تضاؤل ترسانتها الصاروخية. كيف يمكن لإيران أن تكيف استراتيجيتها ردًا على إعادة فتح المجال الجوي الإسرائيلي أمام حركة الطيران التجارية؟
ويستكشف هذا التحليل كيف أصبح الاستهداف المتعمد لحركة الطيران التجاري أداةً فعّالة في الحرب غير المتكافئة بين إيران والحوثيين.
الموقع بوست يعيد نشر نص التحليل
في 4 مايو 2025، أطلق الحوثيون صاروخًا من اليمن - مُصنّع بمكونات إيرانية - أفلت من الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأمريكية وضرب محيط مطار بن غوريون الدولي في إسرائيل.
أدّت هذه الضربة إلى سلسلة من تعليق الرحلات الجوية، مما أدى إلى توقف العديد من شركات الطيران غير الإسرائيلية عن العمل، وترك الإسرائيليين عالقين في الخارج، وعرقل السياحة وسفر الأعمال إلى إسرائيل. بين عامي 2015 و2022، خلال التدخل العسكري السعودي في اليمن بدعم من الولايات المتحدة، واجهت المملكة العربية السعودية تهديدًا مماثلًا عندما استهدف ما يقرب من 1000 هجوم صاروخي و350 هجومًا بطائرات مسيرة - نفّذها الحوثيون المدعومون من إيران - البنية التحتية الحيوية، وخاصة المطارات، مما أدى إلى اضطرابات متكررة في حركة النقل الجوي المدني. أبرزها استهداف مطار أبها الدولي جنوب غرب المملكة العربية السعودية مرتين في يونيو/حزيران 2019.
فتح اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران في 13 يونيو/حزيران، عقب الضربة الاستباقية التي وجهتها إسرائيل لبرنامج الأسلحة النووية الإيراني، آفاقًا جديدة لهذا النموذج الحربي. استهدف الرد الجوي الإيراني في البداية مقر الدفاع الإسرائيلي في تل أبيب، لكن ردودها الجوية اللاحقة ركزت على المراكز السكانية المدنية - وهو تحول يؤكد أولوياتها التكتيكية المتطورة، بالنظر إلى تضاؤل ترسانتها الصاروخية. كيف يمكن لإيران أن تكيف استراتيجيتها ردًا على إعادة فتح المجال الجوي الإسرائيلي أمام حركة الطيران التجارية؟ يستكشف هذا التحليل كيف أصبح الاستهداف المتعمد لحركة الطيران التجاري أداةً فعّالة في الحرب غير المتكافئة بين إيران والحوثيين.
ضربة صاروخية على مطار بن غوريون الدولي
على الرغم من نجاح منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية القوية في اعتراض عشرات الصواريخ التي أُطلقت من اليمن في هجمات سابقة، إلا أنه في 4 مايو/أيار 2025، أفلت صاروخ واحد من الاعتراض وسقط داخل أراضي مطار بن غوريون الدولي.
في الساعة 9:18 صباحًا بتوقيت إسرائيل، رصدت قوات الدفاع الإسرائيلية إطلاقًا، وأبلغت مراقبي الحركة الجوية على الفور، الذين فعّلوا بروتوكولات الاستجابة المُعدّة مسبقًا، وتم تحويل الطائرات المحمولة جوًا بعيدًا عن مناطق الاعتراض المحتملة. سُمح لطائرة واحدة كانت في مرحلة الاقتراب النهائي بالهبوط في الساعة 9:21 صباحًا. انطلقت صفارات الإنذار من الغارات الجوية في الساعة 9:22 صباحًا في جميع أنحاء وسط إسرائيل، بما في ذلك محيط المطار. في الساعة 9:24 صباحًا، سقط صاروخ على حقل بالقرب من طريق يؤدي إلى موقف سيارات المطار. ووفقًا لهيئة الطيران المدني الإسرائيلية، "بعد حوالي ثلاثين دقيقة من فحص المدرج، استؤنفت عمليات الهبوط".
لحماية سمائها وسكانها، تستخدم إسرائيل نظام دفاع صاروخي متعدد الطبقات تم تطويره بشكل أساسي من قبل صناعاتها الدفاعية الخاصة، بتمويل وتعاون من الولايات المتحدة. ويشمل ذلك القبة الحديدية للصواريخ قصيرة المدى والطائرات بدون طيار، ومقلاع داود للصواريخ المتوسطة، وسلسلة أرو للصواريخ الباليستية طويلة المدى، وتقنية تعتمد على الليزر لتحييد التهديدات الجوية المختلفة. ويكمل هذه الحلول المحلية نظام ثاد الذي نشرته الولايات المتحدة، والذي يعمل في إسرائيل منذ الهجوم الجوي الإيراني في 1 أكتوبر 2024.
وعلى الرغم من عدم وجود نظام يمكنه ضمان الحماية المطلقة، فإن نظام الكشف عن الإطلاق والاعتراض المتكامل في إسرائيل - إلى جانب بروتوكولات سلامة الحركة الجوية الخاصة به - يُعتبر موثوقًا وفعالًا. كانت هذه الموثوقية كافية لدعم عمليات شركات الطيران الإسرائيلية، إل عال، وأركيا، وإسرائير، وطيران حيفا. بالإضافة إلى ذلك، استأنف عدد من شركات الطيران الدولية - بما في ذلك الاتحاد للطيران (الإمارات العربية المتحدة)، والخطوط الجوية الأذربيجانية، وتاروم (رومانيا)، والخطوط الجوية الإثيوبية - خدماتها إلى إسرائيل. على عكس العديد من شركات الطيران الغربية الرائدة التي علّقت عملياتها إلى أجل غير مسمى، واصلت هذه الشركات، إلى جانب شركات الطيران الاقتصادي مثل فلاي دبي، وبلو بيرد إيرويز، وسمارت وينغز، وتوس إيرويز، وهاي سكاي، والخطوط الجوية الجورجية، والخطوط الجوية القبرصية، وإلكترا إيرويز، وخطوط هاينان الجوية، رحلاتها دون انقطاعات طويلة.
ألغت معظم شركات الطيران الدولية ذات الخدمات الكاملة رحلاتها من وإلى تل أبيب، حيث ألغت وأعادت توجيه رحلاتها في البداية مع تفاقم الأزمة في 4 مايو، ثم أعلنت عن تحديثات متدرجة لتعليق رحلات تل أبيب لمدة أسبوع أو عدة أسابيع، ثم مُدّدت مرارًا وتكرارًا، مما ترك المسافرين الذين يحملون تذاكر مؤكدة عالقين وسط سلسلة من التأخيرات وعدم اليقين المتزايدين. استأنفت دلتا رحلاتها اليومية المباشرة إلى إسرائيل في 20 مايو، بينما مددت شركات يونايتد، ومجموعة لوفتهانزا، وإير كندا، وبريتيش إير، تعليق رحلاتها.
أهداف الحوثيين المتغيرة
مشجعين بنجاحهم، تعهد الحوثيون بمواصلة إطلاق الصواريخ "الفرط صوتية" على مطار بن غوريون لفرض "حصار جوي شامل" على العدو. وحذرت الحركة جميع شركات الطيران الدولية من "الحفاظ على سلامة طائراتها" بإلغاء رحلاتها المجدولة إلى إسرائيل. استمر نمط استهداف المطار الرئيسي في إسرائيل، ورغم اعتراض الصواريخ اللاحقة، إلا أن نجاحهم في ردع حركة الملاحة الجوية التجارية أُعلن عنه. ونشر المتحدث باسم الحوثيين، يحيى سريع، تصريحات حول عمليات الإطلاق شبه اليومية، إما عبر حسابيه على تيليجرام وX أو عبر قناة المسيرة، وهي الوسيلة الإعلامية الرسمية.
يُظهر حساب "إكس" الذي ينقل رسائل من سريع، والنشط منذ عام 2020، أن تصريحاته احتفت سابقًا بالهجمات على المطارات والمنشآت النفطية السعودية والإماراتية. بعد انضمامهم إلى الحرب بين إسرائيل وحماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، دعمًا لحماس، حوّل الحوثيون تركيزهم المعلن إلى الأهداف الاقتصادية الإسرائيلية، وأبرزها قطاعي الشحن والطيران.
لكن إعلانًا مُثبّتًا على حسابه منذ 18 يناير/كانون الثاني 2022، يتباهى باستهداف مطاري دبي وأبو ظبي بالصواريخ الباليستية، ويُحذّر "دول العدوان": الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة. لفهم تطور استهداف الحوثيين من الدول العربية الإسلامية إلى الدولة اليهودية، ننتقل الآن إلى أصول حركة الحوثي والسياق الأوسع للديناميكيات الإقليمية.
الديناميكيات الإقليمية
نشأت حركة أنصار الله - المعروفة باسم الحوثيين - كحركة معارضة في شمال اليمن، ثم برزت كحركة تمرد محلية سيطرت في النهاية على ما يقرب من نصف البلاد. في أكتوبر/تشرين الأول 2023، برزت إيران على الساحة العالمية كمجموعة تقف وراء الهجمات على الطرق البحرية المدنية في البحر الأحمر. ويخيم على الصراع الداخلي في اليمن صراع جيوسياسي أوسع نطاقًا بين إيران والمملكة العربية السعودية. فبينما وقفت السعودية إلى جانب النظام المعترف به دوليًا، كانت إيران راعية معسكر المتمردين الحوثيين الزيديين، محولةً الصراع الأهلي إلى ساحة معركة لصراع بالوكالة بين المتنافسين الإقليميين.
يُعدّ الصراع بالوكالة في اليمن جزءًا من حرب باردة أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط، خاضتها إيران والمملكة العربية السعودية عبر عدد من الوكلاء في ساحات قتال مختلفة. وقد نشأ هذا الصراع عندما انتهزت إيران الفرصة لإنشاء منطقة نفوذ في عراق ما بعد صدام، معززةً روابطها الثقافية والدينية والتجارية مع الأغلبية الشيعية، داعمةً الميليشيات الشيعية في قتالها الطائفي ضد السنة بشكل خاص، ومؤيدةً مقاومة الاحتلال الأمريكي بشكل عام.
وبفضل نجاحاتها، واصلت إيران إبراز قوتها في جميع أنحاء المنطقة، مستخدمةً نفوذها في الصراعات الفصائلية والطائفية في لبنان واليمن والساحة الفلسطينية. في كلٍّ من هذه الساحات، وجدت الحكومات والفصائل المدعومة من الدول العربية السنية والمتحالفة مع الغرب نفسها غارقة في صراعات طائفية دامية مع الفصائل المدعومة من إيران. ومع تفاقم الأزمة الإقليمية، كثّفت الولايات المتحدة تدخلها من خلال تولي دور قيادي تنسيقي بين حلفائها وشركائها في المنطقة الذين عارضوا دور إيران الإقليمي المتنامي والمزعزع للاستقرار.
أصبح اليمن ساحة معركة مركزية للصراع بين المحور الذي تقوده إيران والمحور الذي تقوده الولايات المتحدة عندما استولى الحوثيون المدعومون من إيران على العاصمة اليمنية صنعاء، إلى جانب مساحة كبيرة من الأراضي في سبتمبر/أيلول 2014، ثم أجبروا الرئيس اليمني المدعوم من السعودية على الاستقالة بعد أربعة أشهر.
وفّر استيلاء الحوثيين على الحديدة (مدينة ساحلية تقع على بُعد 200 كيلومتر جنوب غرب صنعاء) وفي مارس/آذار 2015 أيضًا على عدن، الواقعة على الطريق المؤدي إلى مضيق باب المندب، للحوثيين الذين كانوا في السابق غير ساحليين خطوط إمداد تمكّنوا من خلالها من تلقي مساعدات عسكرية مباشرة من إيران. إن حصول إيران على موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية من خلال دعمها للحوثيين في اليمن كان في نهاية المطاف بمثابة السبب وراء التدخل العسكري بقيادة السعودية ودعم الولايات المتحدة في عام 2015 والذي لعبت فيه الإمارات العربية المتحدة أيضًا دورًا بارزًا.
المطارات السعودية في مرمى النيران
نسقت المملكة العربية السعودية حملة عسكرية متعددة الجوانب ضد الحوثيين المدعومين من إيران، والتي شهدت رد الحوثيين بإطلاق ما يقرب من 1000 صاروخ و350 طائرة مسيرة مسلحة على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بين عامي 2015 و2022. استهدف الحوثيون مجموعة من البنى التحتية الاستراتيجية في الخليج، وخاصة المطارات.
سنّت الحكومة السعودية نظام مراقبة الطوارئ الأمنية للحركة الجوية الذي يغطي المجال الجوي فوق محافظاتها الجنوبية الغربية، بما في ذلك المجال الجوي حول جدة - وهي مركز رئيسي للحجاج. هدد تعطيل هذا المجال الجوي تدفق ملايين الحجاج وإيرادات السياحة المرتبطة به. أدى وصول الحرس الثوري الإيراني إلى اليمن الخاضع لسيطرة الحوثيين ونقل التكنولوجيا المتطورة إلى توسيع نطاق التهديد الحوثي العابر للحدود وشدته.
في نوفمبر 2017، تم اعتراض صاروخ إيراني أطلقه الحوثيون من اليمن بالقرب من مطار الملك خالد الدولي بالرياض، وفي يونيو 2019، أصاب صاروخ كروز أطلقه الحوثيون مطار أبها الدولي - وهو مركز إقليمي رئيسي في جنوب غرب المملكة العربية السعودية. وأسفرت الضربة الصاروخية على صالة الوصول عن إصابة 26 شخصًا.
وبعد يومين، أسفرت ضربة بطائرة مسيرة على المطار نفسه عن مقتل شخص وإصابة 21 شخصًا. مثّلت هذه الضربات خللًا نادرًا في نظام دفاع درع السلام الفعّال. فعندما شكّلت تهديدات إطلاق الصواريخ أو الطائرات المسيرة خطرًا على المجال الجوي السعودي، قامت القوات الجوية السعودية برصد وتتبع واعتراض التهديدات الواردة بالتنسيق مع الهيئة العامة للطيران المدني لتحويل الرحلات القادمة ووقف المغادرة وإعادة توجيه الرحلات الجوية. وغالبًا ما أدت هذه الإجراءات إلى توقف حركة الطيران التجاري لساعات حتى يتم تحييد التهديدات ورفع القيود والسماح للطائرات المتوقفة بالهبوط وتسيير رحلات المغادرة المتأخرة.
مهدت الاتفاقية السعودية الإيرانية المبرمة في 10 مارس 2023 الطريق أمام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لتقليص عملياتهما العسكرية في اليمن، إلا أن اندلاع الحرب في غزة بعد 7 أكتوبر 2023، وتطورها الإقليمي السريع، أعاد إلى دائرة الضوء خط الصدع الإقليمي الذي وضع إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على نفس الجانب من الحرب الباردة الإقليمية. ففي أعقاب الهجوم الوحشي الذي شنته حماس في 7 أكتوبر 2023، شنت إسرائيل حملة عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة. وردًا على ذلك، بدأت الوكلاء المدعومون من إيران - حزب الله اللبناني، وجماعات "المقاومة الإسلامية" في العراق، والحوثيون اليمنيون - في إطلاق الصواريخ على إسرائيل، مما حوّل الصراع إلى صراع أوسع نطاقًا متعدد الجبهات.
وقد عززت عمليات الانتشار الأمريكية وإعادة التموضع الاستراتيجي الوفاق الإسرائيلي العربي من خلال مجموعات حاملات الطائرات الضاربة قبالة سواحل لبنان، وأنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في الخليج، ونشر القوات في الأردن.
سلّطت الأحداث المحيطة بالهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل في 13 أبريل/نيسان الضوء على التفاهم الجديد في الشرق الأوسط برعاية الولايات المتحدة، حيث خاطرت جيوش الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر بالرد الإيراني، وعملت جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في تعقب واعتراض أكثر من 300 طائرة مسيرة وصاروخ إيراني أثناء توجهها عبر أجوائها نحو إسرائيل. ووصفت معظم التحليلات هجوم إيران بأنه مكلف وغير فعال.
دليل إيران الجديد: تسليح تعليق الرحلات الجوية
بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2024، أدركت إيران أن الضربات الفعلية غير ضرورية، فمجرد التهديدات والتأثير المتتالي لإلغاء الرحلات الجوية يمكن أن يُنهك السكان الإسرائيليين ويُعمّق عزلة إسرائيل الاقتصادية من خلال تثبيط السياحة وسفر العمل (انظر الشكل 1).
تجلى هذا الدرس جليًا خلال الأحداث التي أعقبت اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية، الزعيم السياسي لحركة حماس - وهي جماعة تُشكل جزءًا من المحور الإقليمي لإيران - في طهران في 31 يوليو/تموز 2024. هددت إيران بالرد - وهي خطوة فُسِّرت على نطاق واسع على أنها مقدمة لهجوم جوي آخر - مما دفع معظم شركات الطيران الدولية إلى إلغاء رحلاتها إلى إسرائيل. علّقت شركات الطيران رحلاتها في البداية لمدة أسبوع، ثم مددت فترة التعليق مرة أخرى قبل أيام قليلة من استئنافها المقرر - وهو نمط تكرر مع تريث إيران قبل توجيه الضربة.
يستخدم الشكل أدناه بيانات من تقارير نشاط المطار لتوضيح إجمالي حركة الركاب عبر مطار بن غوريون الدولي. ويقارن مستويات ما قبل الجائحة (وما قبل الحرب) الأساسية بحركة المرور المسجلة قبل وبعد تهديد إيران بهجوم جوي في 31 يوليو/تموز 2024.
الشكل 1. حركة الركاب > بيانات مستمدة من تقارير نشاط مطار بن غوريون الدولي الإسرائيلي (تاريخ الوصول: 27 مايو 2025). رسم بياني من إعداد بريان بيرنهاردت باستخدام بايثون (الإصدار 3.11.8).
جاء الهجوم الجوي المتوقع بعد شهرين. ونظرًا لضعفها العسكري، كان من المتوقع أن تستفيد إيران من استمرار حالة عدم اليقين أكثر من ضربة فورية، حيث أدى التهديد الوشيك إلى شلل حركة الطيران التجاري والسياحة في إسرائيل.
وأخيرًا، وقع الهجوم في 1 أكتوبر 2024. أُغلق المجال الجوي الإسرائيلي، وكذلك المجال الجوي لإيران والعراق ولبنان والأردن، خلال الهجوم الجوي الذي استمر حوالي ساعة. وبدعم حيوي من تحالف الدفاع الجوي في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة، والذي تُعد إسرائيل عضوًا فيه، تمكنت من تتبع واعتراض ما يقرب من 180 صاروخًا باليستيًا، إلى جانب عدد إضافي من الطائرات المسيرة.
أعادت إسرائيل فتح مجالها الجوي أمام حركة الطيران المدني في نفس الليلة؛ ومع ذلك، استمرت معظم شركات الطيران الدولية في تمديد إلغاء رحلاتها، تاركة رحلاتها إلى تل أبيب معلقة حتى منتصف عام 2025. على الرغم من أن الهجمات الجوية لم تُلحق أضرارًا مادية جسيمة بإسرائيل، إلا أن إيران ووكلائها أدركوا أن تعطيل أجواء الخصم قد يُطلق سلسلة من ردود الفعل: تواجه شركات الطيران مخاطر أمنية متزايدة، والتزامات تعويض تنظيمية باهظة، وارتفاعًا هائلاً في أقساط التأمين، وضغوطًا شديدة من أطقم الطيران ونقاباتهم لوقف الخدمة لأسابيع أو حتى أشهر. هذا التقاء الضغوط التشغيلية والمالية، بالإضافة إلى المخاوف الأمنية المرتبطة بمناطق النزاع، يُثني المسافرين عن السفر ويعزل الدولة المستهدفة فعليًا.
في أعقاب مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنت إسرائيل حربًا على قطاع غزة بهدف القضاء على حماس، وردًا على قصف حزب الله الصاروخي المتواصل على شمال إسرائيل في خريف 2024، شلّ حزب الله واغتال قيادته. علاوة على ذلك، فإن تفكيكها العدواني للبنية التحتية للإرهاب الإيراني في سوريا لم يضعف الدعم الإيراني الذي دعم نظام الأسد فحسب، بل مهد الطريق أيضًا عن غير قصد للتحالف المناهض للشيعة وإيران بقيادة هيئة تحرير الشام للإطاحة بنظام بشار الأسد في دمشق. كسر تغيير النظام في سوريا "حلقة النار" الإيرانية حول إسرائيل. وباعتبارها ردع إيران الضعيف فرصة، أصدرت إدارة ترامب إنذارًا نهائيًا لطهران: إما الاستسلام لبرنامج الأسلحة النووية على طاولة المفاوضات أو مواجهة ضربة إسرائيلية مدعومة من الولايات المتحدة على المنشآت النووية. وللحفاظ على التهديد الموثوق باستخدام القوة، شنت إدارة ترامب في الوقت نفسه غارات جوية عقابية على أهداف الحوثيين في اليمن. لم يتطرق إعلان ترامب في 6 مايو 2025 عن هدنة مع الحوثيين - بهدف دفع التقدم مع إيران على طاولة المفاوضات - إلى إطلاق الصواريخ المستمر باتجاه مطار بن غوريون الدولي، والذي استمر دون هوادة.
إسرائيل وإيران في حرب
أدى الهجوم الإسرائيلي الذي شنته إسرائيل صباح 13 يونيو/حزيران على برنامج الأسلحة النووية الإيراني إلى صراع شامل بين إسرائيل وإيران. ردًا على ذلك، شنت إيران ضربات صاروخية جوية يومية متعددة، بمشاركة محدودة من الحوثيين. تضمنت هذه الضربات الانتقامية نشرًا متوسطًا لنحو 100 صاروخ باليستي وأعدادًا متفاوتة من الطائرات المسيرة؛ إلا أن حجم إطلاق الصواريخ الإيرانية لم يرق إلى مستوى التوقعات نظرًا للتدهور الكبير في ترسانة إيران ومنصات إطلاقها. وبينما استهدفت الدفعة الأولى من الصواريخ الانتقامية الإيرانية مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، استهدفت الدفعات اللاحقة السكان المدنيين. فبدلًا من إنفاق موارد الصواريخ الشحيحة على أهداف عسكرية عالية القيمة - وهو خيار لم يُسفر تاريخيًا إلا عن أضرار سطحية - اختارت إيران بشكل متزايد استهداف المراكز السكانية المدنية. ويطرح السؤال نفسه: كيف يمكن لإيران أن تُكيّف استراتيجيتها ردًا على إعادة فتح المجال الجوي الإسرائيلي أمام حركة الطيران التجاري؟
أدى اندلاع الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى إغلاق المجال الجوي للشرق الأوسط أمام حركة الطيران المدني، وأُلغيت الرحلات الجوية من وإلى إسرائيل والأردن ولبنان وسوريا والعراق وإيران. في الأيام التي تلت ذلك، ظل مطار إسرائيل مغلقًا إلى أجل غير مسمى، بينما أعلنت مطارات أخرى في الشرق الأوسط، بما في ذلك بعض المطارات في إيران، عن استئناف عملياتها وحققت نجاحًا متفاوتًا في استقطاب شركات الطيران التجارية. وعلى عكس جيرانها، تواجه إسرائيل تحديًا إضافيًا يتمثل في كون مجالها الجوي التجاري هدفًا متعمدًا. ففي غياب استسلام إيران بشأن برنامجها النووي - وهي نتيجة مستبعدة - أو انهيار النظام، وهو أمر لا يزال واردًا، من المرجح أن تعتمد القيادة المحاصرة بشكل متزايد على الحرب غير المتكافئة. ومن الأسلحة التي قد تستخدمها التعطيل المتعمد لحركة الطيران التجاري الإسرائيلي - وهي استراتيجية مصممة لتعويض ضعف قدرات إيران من خلال عزل البلاد، وإرهاق السكان، وإلحاق أضرار اقتصادية.
الخلاصة
يُظهر الاستهداف المتعمد للمجال الجوي المدني اتجاهًا ناشئًا في استخدام الحرب غير المتكافئة من قبل إيران ووكلائها. إنها وسيلة فعّالة من حيث التكلفة لتهديد حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. ومع استمرار الجهات الفاعلة الخبيثة في بناء خبراتها العملياتية، من المرجح أن يكتسب هذا النهج زخمًا وقد يصبح أداةً فعّالةً بشكل متزايد في استراتيجيتها الأوسع. في حين أن هياكل الدفاع الجوي المتكاملة - كتلك التي تستخدمها إسرائيل والمملكة العربية السعودية - توفر حمايةً فعّالة للغاية، إلا أنها ليست حلاً شاملاً. تعمل هذه الأنظمة ضمن إطار تفاعلي، ولا تعالج سوى أعراض تحدٍّ استراتيجي أوسع. إن اعتماد إيران ووكلائها على الحرب التكيفية وغير النظامية يستغل نقاط ضعف لا تستطيع الدفاعات العسكرية المتطورة وحدها تحييدها بالكامل.