مدة طويلة قضاها عبدالنبي في عُمان، لا أذكر عدد السنين بالضبط، ولكن يكفي أن أقول إنه في ذاكرتي مذ كنتُ ألعب الكرة صبيًّا في مزرعتنا بالردة، وكانت الكرة تدخل أحيانا بالخطأ المزرعةَ المجاورة التي كان يعمل فيها، فيعيدها عبدالنبي بركلة قوية بعد أن يتراجع خطوات إلى الوراء ثم يَكُرُّ على الكرة راكضًا على طريقة البرازيلي روبرتو كارلوس.
كل من نسِيَ عبدالنبي في الردة بسبب تراكم السنين، وكل من لم يعرفه سابقًا في عُمان، عرفه خلال الأيام الماضية، بعد أن انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في البترول، فيديو مدته دقيقة ونصف يظهر فيه عبدالنبي بالصورة وهو يدافع عن انتمائه إلى عُمان، بعد أن قرر ــ دون انتظار وثائق رسمية أو قرارات سيادية ــ أن يُصبح عُمانيًّا، بل واختار لنفسه اللقب العائلي الذي يحبّ. طوال مدة الفيديو يوبخه صوتان عُمانيان لا يظهران في الصورة، وبطريقة تقترب من التنمّر، على هذا الخيار. يخبره الأول أن أفراد القبيلة التي اختار أن يتسمّى بها غاضبون منه لأنه لا ينتمي إليها، وليس عُمانيًّا أصلًا، أما الآخر فيطلب منه بطاقته الشخصيّة ليتأكد من اسمه فيها، مضيفًا: «أنتم البنجاليين لستم عربا». هنا يردّ عبدالنبي: «لا حول ولا قوة إلا بالله. كيف ما عرب؟ قول لي». يرد عليه الصوت: «لأنك بنجالي»، فيتساءل عبدالنبي باستنكار: «أنت حالك رب موجود وأنا ما حالي رب؟!!».
تُحيلني هذه المناظرة على أسئلة الهُويّة الشائكة: ما الذي يحدد بشكل قاطع جازم انتماءنا إلى هذا الوطن أو ذاك، إلى هذه الأرض أو تلك، إلى أولئك القوم أو غيرهم؟ هل يكفي أن نولد في أرضٍ ما لنحمل اسمها؟ وهل تكفي ولادتنا بين جماعة من الناس كي نصير محسوبين عليهم؟ هل العربي فقط هو الذي يولد في بلد عربي؟ فماذا عن سيبويه الفارسي مثلًا، الذي نتعلم اللغة العربية من «كتابه»، أو البخاري (الخراساني) الذي حفظ لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟
يخبرنا سارتر في فلسفته الوجودية أن الإنسان محكوم بالحرية، وأنه ليس ثمة جوهر معين يحدد هويته، بل إن الإنسان هو من يحدد هويته من خلال اختياراته وأفعاله. وهذا ما فعله عبدالنبي بالضبط. لقد اختار. هذا كل ما في الأمر. إذ وجد أن البلد الذي آواه نصف عمره تقريبا، ووفر له الرزق والحماية، يستحق أن يعتبره وطنًا، دون أن يعني هذا تنكُّره لوطنه الأصلي الذي وُلِد وترعرع فيه.
يمكنني تشبيه عبدالنبي هنا - مع الفارق - بأمين معلوف؛ الأديب اللبناني الأصل، الذي هو اليوم واحد من أهم الشخصيات الثقافية الفرنسية. ينتمي معلوف؛ كما يخبرنا في كتابه «الهويات القاتلة» إلى أسرة تنحدر من جنوب الجزيرة العربية، استقرت في جبل لبنان منذ قرون، وانتشرت لاحقًا عبر الهجرات المتعاقبة في مختلف بقاع الأرض؛ من مصر إلى البرازيل، ومن كوبا إلى أستراليا. يبلغ الآن من العمر 75 عامًا، قضى 48 منها في فرنسا منذ وصوله إليها عام 1976م فارًّا من الحرب الأهلية في لبنان. آوته فرنسا واحتضنته، ووفرت له أسباب العيش الكريم، ومنحته جنسيتها، كما أنها كرمته بأهم جوائزها الأدبية: «غونكور»، ومنحته مقعدًا في الأكاديمية الفرنسية كان يشغله قبله كلود ليفي ستروس، وغيرها من التكريمات. من هنا أفهم رد إحدى شخصيات روايته «التائهون» على مقولة الرئيس الأمريكي جون كينيدي: «لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك» بجواب مؤثر سبق أن استشهدتُ به في مقال سابق: «من السهل قول ذلك حين يكون المرء مليارديرًا، وقد انتُخِب للتو، في الثالثة والأربعين من العمر، رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية! أما حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة، ولا تلقّي الرعاية الصحية، ولا إيجاد المسكن، ولا الاستفادة من التعليم، ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي، بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك، فما قيمة قول جون كينيدي؟ لا شيء يُذكر!».
وإذن، فإن الوطن لدى معلوف وعبدالنبي هو الذي ترفع رأسك فيه (بالعيش الكريم)، أكثر منه الذي يسقط رأسك فيه (بالولادة). الفرق أن الأول ذهب إلى فرنسا صحفيًّا، في حين جاء عبدالنبي إلى عُمان فلّاحًا في مزرعة العمّ سيف بن محمد. وحين أجدبت الأرض ولم يعد بالإمكان فلاحتها، بدّل مهنته والكفيل لكنه لم يترك المكان، بل إنه أحضر عائلته لتكون بجواره (أحد ابنيه يعمل في محل تجاري كبير بالردة، والآخر ما زال يبحث عن عمل). إن لسان حال معلوف وعبدالنبي هذان البيتان البليغان للشاعر علي بن الحسن البغدادي الشهير بــ«صَرَّ دُرّ»:
هذه الأرضُ أمُّنا وأبونا / حملتْنا بالكره ظَهرًا وبطنا..
إنما المرء فوقها فهو لفظٌ / فإذا صار تحتها فهو معنى.
وإذا كان أمين معلوف يرى في «الهويات القاتلة» أن «نظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم» فإنني أزعم أن ما قدمه
عبدالنبي لعُمان خلال سنين مكثه فيها يفوق بأضعاف ما قدمه بعض العُمانيين الذين يتحدثون بحب الوطن في كل مناسبة، بينما هم لم يقدموا شيئا ، ولو كان الأمر بيدي لمنحته الجنسية دون تردد.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
محمد صلاح يكشف طبيعة علاقته بـ ساديو ماني:«علاقتنا كانت متوترة.. لم نكن قريبين خارج الملعب»
تحدث النجم المصري محمدصلاح، مهاجم ليفربول الإنجليزي، على علاقته بالدولي السنغالي ساديو ماني، مهاجم النصر السعودي، أثناء لعبهما سويًا في الريدز،
وقال محمد صلاح في حواره مع «فرانس فوتبول» الفرنسية عن علاقته بماني:« نعم كانت هناك علاقة متوترة، لكن يجب أن يعرف الجميع أننا ظللنا محترفين حتى النهاية».
وأضاف:« لا أعتقد أن ذلك أثّر على الفريق، ساديو منافس شرس، وأنا أتفهم ذلك. لكن خارج الملعب لم نكن قريبين جدًا، ومع ذلك كنا نحترم بعضنا دائمًا».
ويستضيف الفريق الأول لكرة القدم بنادي ليفربول، نظيره فريق آرسنال، في قمة الدوري الإنجليزي، وذلك خلال الموسم الكروي الجاري 2024-205.
ويحتضن ملعب «الآنفيلد» معقل الريدز، مباراة ليفربول وآرسنال، في اللقاء الذي سيقام ضمن منافسات الجولة الـ36 من بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز «البريميرليج».
ويطمح ليفربول للحفاظ على سلسلة انتصاراته على ملعبه ضد كبار الدوري الإنجليزي، حيث تمكن الريدز في آخر 6 جولات من تحقيق الفوز، فضلا عن رغبته في إنهاء الموسم بأفضل شكل ممكن.
يتواجد فريق ليفربول على صدارة ترتيب الدوري الإنجليزي هذا الموسم بواقع 82 نقطة، فيما يأتي آرسنال في المركز الثاني برصيد 67 نقطة.
تقام مباراة ليفربول وآرسنال، مساء غدًا الأحد، وذك في تمام الساعة السادسة والنصف مساءً بتوقيت القاهرة ومكة المكرمة، والساعة السابعة والنصف مساءً بتوقيت أبو ظبي.