لجريدة عمان:
2025-05-09@08:26:31 GMT

فَــكُّ ارتـبـاطٍ مـفاهيـمـيّ

تاريخ النشر: 3rd, July 2024 GMT

الـثّـقـافـة، المعـرفـة، الإيـديـولوجيـا مفاهـيم ثـلاثـة شـديـدةُ الحضـور والاستـخـدام في مياديـن المعرفـة والإنـسانـيّـات. لكنّ الحـدود بينـها قـلّـما كانت واضحـةً لـدى قسـمٍ كبيـر من مستـعـمليـها؛ وسـواء أكان هـؤلاء يتحـرّكـون في حـقـل الفلسـفة ونـظريّـة المعرفـة أو في العـلوم الاجتماعيّـة والإنسـانيّـة، فـإنّ الغالـب على عـلاقـتـهم بتلك المفاهيـم الاستبداد والتّسليـم! والمثـيـر للانـتبـاه، في المعـرض هـذا، أنّـه على رغـم كـثـافـة استـعـمالـها في الـتّـأليف والمناظـرة من قِـبَـل دارسيـن متخصصين، إلاّ أنّ الكـتـابـةَ عـنهـا تـنـظيـرًا، أو بـلـغـةٍ نظـريّـة، أمـرٌ نـادر فـي العـقـود الأخيرة على صعـيد الفـكـر الإنـسانـيّ المعاصـر كـلِّـه.

وعـنـدي أنّ اسـتقـامـةَ العـمـل بأيّ مـفـهـومٍ وقْـفٌ على تجلـيـةِ دلالاتـه تجـليـةً نظـريّـة تَـقـي مستـخـدميـه مـن الـزّلل في إعـمالـه في عـمليّـة الـتّـفـكـير والبحـث. والحـقّ أنّ الأغلـب الأعـمّ من المصادر الـفـكريّـة المرجـعـيّـة في هـذه المـفاهيـم يـعـود صـدورُه إلى ما قبـل أربـعيـن عـامًا، والسّـوادُ الأعـظـم من فـلاسفـة اليـوم، وعـلمـاء الاجتماعيّـات والإنسانـيّـات، عالـة على تـلك المصـادر القـديـمة -نسـبـيًّا- لـم يـكـد أحـدٌ مـنهـم يضيـف إليها شيئـًا ذا بـال مـن زاويـة الـتّـنـميـة النّـظـريّـة والـتّـأصيـل الفـلـسـفيّ.

يـزيـد الطّـيـن بِـلّـةً أنّ هـذه المفاهيـم -كما غيـرها الكثيـر- صـارت مـفاهيـمَ سيّـارةً وشـائـعـة في الحـقـل الـتّـداولـيّ العـامّ، تـمـتـدّ إليها أيـدي غـيـرِ المـتـخـصّـصين فـتُـعْـمِـل هـذه فيها استـخـدامـًا في المكـتـوبـات والمسمـوعـات والمرئـيّـات، على نحـوٍ غيـرِ مـأْبُـوهٍ فيه بما يعـنيـه كـلُّ واحـدٍ منـها في وضْـعـه الـنّـظـريّ الاعـتـبـاري؛ أي كـما لـو أنّـها واضحـةٌ بـذاتـها وجـاهـزة للـتّـوظيـف! هـذه حـالة مفـاهيـم أخـرى ذاتُ حُـرمـةٍ مـعرفـيّـة سرعـان مـا تُـنْـتَـهـك حرمتُها تلك وتُـبْـتَـذَل وتُـرَذَّل مـا إنْ يقع إخراجُها، إخراجـًا متـعسِّـفًا، مـن حيِّـزاتـها المعـرفـيّـة إلى حيث تصيـر إلى تـداولٍ عـامّ مطبـوعٍ، في الـغالـب، بالفـوضـى والاعـتسـاف.

والحـقّ أنّ مشـكلـتيـن تـعـترضـان الباحـث في هـذه المـفاهيـم الثّـلاثـة، أو المـتـوسِّـلَ إيّـاها في الـتّـفـكـير والكـتـابـة؛ تـتـعـلّق أُولاهـمـا بمسـألـة وضـع حـدودٍ للـتّـميـيز بين معـناها، وخاصّـة تلك التي قـد تـتـشابـه في المعـنى أو في دوائـر الدّلالـة مـثـل مـفـهومـي الـثّـقـافـة والمعرفـة؛ وتـتـعلّـق ثـانيـهـما بالحـدود الفـعلـيّـة التي يـتـوقّـف عنـدهـا الاخـتـلافُ والتّـمـايُـز بين مفـهـومٍ وآخَـر، خـاصّـةً بين مـفـهـومي المعرفـة والإيـديـولوجيـا وبـمدى دقّـةِ افـتـراض التّـبـايُـن القـاطـع بيـنـهـمـا كـمـفهـوميـن: وهـو الافـتـراض الذي يـرتـفـع -عنـد كـثـيـرين- إلى حيث يسـتحـيـل يـقيـنـيّـةً لا مِـرْيـة فـيها.في المسـألـة الأولـى مسـاحـةٌ واسـعـة من إمكـان التّـميـيـز بين مـفـهوميـن لا يـبـدِّد التّـشـابُـه بيـنـهـما حـقيـقـةَ اخـتـلافِ مـصـدريّـة كـلٍّ منـهـما. الـثّـقـافـةُ أوسـعُ دلالـةً من المعرفـة، أمّـا الأخيـرةُ فصـعيـدٌ جـزئـيّ من الأولـى، يـتـعـلّق بـعـملـيّـات الفـكـر وآليـاتِ الـتّـفـكـير ومنـتـوجِـه الذي نـطـلق عليه عبـارة المعرفـة. ومبْـنى المعرفـة كان، في عهود الفـكر كلِّـها، وما بَـرِحَ على مـطْـلَـبٍ فـكـريّ هـو إدراك حـقـيقـة المـوضـوع المـدروسِ أو الـمـفـكَّـرِ فيه. لذلك هـي مـدعـوّة، دائـمًا، إلى اعتـمـاد أدواتٍ تـجـريـبيّـة أو نظـريـة؛ مـن بـناءٍ فـرضـيّ وتـحليلٍ واستـقـراءٍ واسـتـنـتاج وقَـوْنَـنَـةٍ للـظّـواهـر ومَـفْـهَـمَـةٍ وما شـاكـل؛ وهـذه جميـعُـها فـاعـليّـاتٌ ذهـنيّـة صـرف. وإلى ذلك تَـنْـشُـدُ المعرفـةُ غايـةً -مـثـلما تُـقاس أو تـوزَن بـها- هـي المـوضـوعيّـة؛ أي حيـادُ الذّات (الـدّارِسـة) تـجاه مـوضوعهـا المـدروس والحرصُ على عـدمِ التّـدخّـل فيـه؛ لأنّ ذلك شـرطٌ لازِبٌ كـي تـكون معـرفـةً متـحـقّـقـةً بالـرّوح العلـمـيّ. معـنى هـذا أنّ مَـن ينـتـمون إلى حـقـل المعرفـة لا يـمكن إلاّ أن يـكونـوا قُـلاًّ من المـتـخـصِّــصين، أو مـن الذين يحـتازون المـواردَ الـفـكريّـة والأدوات المناسبـةَ للبحـث وإنتـاج المعرفـة، لا جمهورًا عرمـرمًا من أهل الرّأي.

في المـقابـل، نُـطلـق عبـارةَ الـثّـقـافـة على كـلّ أثـرٍ -مكـتوبٍ أو منـقـوشٍ أو مـرسـومٍ أو حـركـيّ أو مـرئيّ ...- من طبيـعة تـعـبيـريّـة؛ ذلك أنّ مبْـنى الـثّـقافـة على التّـعبيـر عـن الـذّات لا على إدراك حـقـيقـة الأشيـاء؛ والـتّعـبيـر يمكن أن يَـركـبَ لـنـفسـه وسائـطَ مـتـعـدّدةً ومتـبايـنـة ليسـتِ الكـتابـةُ إلاّ وجْـهًا واحـدًا منـها. لذلك يَـسَـعُ جمهـورًا أكبـر أن يشـارك في الإنتـاج الـثّـقـافـيّ يجـاوِز كـمًّا، وبـآلاف الأضـعـاف، جمهـور العلـماء والباحثيـن الذين تضـويهـم دائـرة المعرفـة وميادينها المتخصّـصة. وهـذا في أساس تميـيـز الأنـثـروپـولوجـيـا الـثّـقافـيّـة بين دائـرتيـن من الـثّـقافـة مـتـمايـزتيـن: الـثّـقافـة العالِـمـة، وهـي ثـقافـة النّـخـب، والـثّـقافـة الشّـعبـيّـة، وهـي ثـقـافـة الشّـعـب. أمّـا إنْ أدخـلـنا المعرفـة في عـدادِ الـثّـقافـة - بحسـبان الـثّـقافـة العِـلميّـة أو النّـظـريّـة جـزءًا من منتـوجـات الـثّـقافـة - فـتـكون، حينـها، في جملـة ما يـنـتـمي إلى الـثّـقافـة العالِـمـة ويشـكّـل صـعيـدًا من أصـعـدتها الكـثيـرة.

أمّا في المسـألـة الثّـانيـة فإنّ مسـاحـة التّـمـايُـز والاختـلاف المـاهـويّ بين الإيـديـولوجيـا والمعرفـة -وهـو الاعـتـقـاد السّـائـد عن العـلاقـة بيـنـهـما- ليست شاسـعةً إلى الحـدّ الذي يـفـتـرضـه الكثيـر من الذيـن يناصبـون الإيـديـولوجيـا شديـدَ العـداء ويُـغالون في القَـدْح فيها. نـعـم، صحيح أنّ مـبْـنـى كـلٍّ منـهـما على قـاعـدةٍ خاصّـة (الإيـديـولوجيـا على المصلحـة والمعرفـة على الحـقـيقـة)؛ وصحـيح أنّ أدواتـهمـا ومفاهيمهمـا ليست واحـدة. مع ذلك، لا نَـعْـدُم وجـودَ ضـروبٍ عـديدة ومتبايـنـة مـن تَـخَـلّـل الواحـدةِ منهـما للأخـرى وتَـلَـبُّسِـها بـها، بـل واستـعارتِـها أدواتـها أحيـانـًا. من ذلك، مـثـلًا، ميْـلُ الإيـديـولوجيـا إلى محاكـاة المعرفـة وإلى تـقديم نفسـها في صـورة معـرفيّـة أو، قُـل، تـقـديـمَ نفسـها تـقـديـمًا مـقـنِـعًا بـتـوسُّـل أدوات المعرفـة وطرائـقـهـا. ومـن ذلك، أيـضًا، خيانـةُ المعرفـة لـمبـدأ المـوضوعيّـة والحيـاد فيها من طـريق تـدخُّـل الـذّات العارفـة في مـوضوعها، بالانحيـاز لـه أو الانحيـاز ضـدّه؛ وهـو ما قـد يحـدث على نـحوٍ واع أو غيـر واع. وليست نـزعـةُ الـعِـلْـمـويّـة في الفـكـر أكـثـر من تـعـبيـرٍ عن ذلك الاختـلاط الذي تـنـهار بـه الحـدود «الفاصـلـة» بين المعرفـة والإيـديـولوجيـا.

على أنّ أكـثـر ما يـطـعن على هـذا التّـميـيز القاطـع بين المعـرفـيِّ والإيـديـولوجيِّ هـو ما يـكْـمَـن في أنّ مبـدأ المـوضـوعـيّـة في المعرفـة (وهـو ما يميّـزها عن الإيـديـولوجيـا) نـسـبـيٌّ إلى حـدٍّ بعيـدٍ لا يسمـح بالاطـمئـنان إلى حُجِّـيّـةِ ذلك التّـميـيـز القـاطـع. تـبـدّت نسـبـيّـته في العـلـوم الطّـبيـعيّـة والعـلـوم الرّياضيّـة، لمناسبـةِ ما عُـرِف باسـم أزمـة أُسُـس العلـوم، فـكيـف لا تـتـبـدّى أضـعافـًا في حالـة الإنسـانيّـات والاجـتـماعيّـات؛ أي في حـالة علـومٍ يـكـون فيها الدّارسُ هـو عينُـه المـدروس (= الإنسـان)، فيـضيـق معـه هامـش الحيـاد العـلـمـيّ؟

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

تقرير: أوكرانيا تراجع ارتباط عملتها الرسمية بالدولار وتدرس التحول إلى اليورو

كجزء من إعادة التموضع الجيوسياسي، أعلن محافظ البنك المركزي الأوكراني أندريه بيشني أن بلاده بدأت تدرس بشكل جدي إمكانية التحول من اعتماد الدولار الأمريكي كعملة مرجعية للهريفنيا الأوكرانية إلى اليورو، في ظل تنامي الروابط الاقتصادية والسياسية مع الاتحاد الأوروبي. اعلان

وأوضح بيشني في مقابلة مع وكالة رويترز أن الانضمام المحتمل لأوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، إلى جانب تصاعد الدور الأوروبي في دعم القدرات الدفاعية للبلاد، يحتم على البنك المركزي الأوكراني إعادة النظر في الإطار النقدي القائم.

وقال: "الجدل المتنامي حول استقرار الأسواق واحتمال تفكك سلاسل التجارة العالمية، تدفع باتجاه إعادة تقييم دور الدولار كمرجعية للهريفنيا مقابل اليورو". ولفت إلى أن هذا التغيير يتطلب "ترتيبات معقدة وإعدادًا متقنًا"، دون أن يقدم تفاصيل إضافية حول الخطوات المحتملة.  

ورغم استمرار هيمنة الدولار على حركة التداول في سوق الصرف الأجنبي، قال بيشني إن حصة اليورو بدأت بالارتفاع، وإن كان ذلك لا يزال محدودًا.

وتجدر الإشارة إلى أن مولدوفا، التي تسير في المسار ذاته نحو أوروبا، عمدت في 2 كانون الثاني/ يناير إلى ربط عملتها الوطنية "الليو" باليورو بدلًا من الدولار، ضمن خطوات استباقية تمهد للاندماج الأوروبي.

مكتب صرافةPavel Bednyakov/ APالدولار يفقد زخمه

تاريخيًا، ظل الدولار يحتفظ بمكانته كعملة مهيمنة عالميًا، مدعومًا بالتحالفات الأمنية والعلاقات العسكرية التي تربط الولايات المتحدة بعدد كبير من الدول.

لكن سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب، وعودته الثانية إلى البيت الأبيض، أدت إلى تعميق الشكوك حول مستقبل الدولار كعملة احتياطية. إذ أطلق الرئيس الجمهوري خلال ولايته السابقة حربًا تجارية شرسة فرض فيها رسومًا جمركية غير مسبوقة، مما دفع بعض الخبراء إلى التساؤل عن مدى استدامة هذا الدور.

وفي هذا السياق، فقد مؤشر الدولار أكثر من 9% من قيمته مقابل سلة العملات الرئيسية، نتيجة عزوف المستثمرين عن الأصول الأمريكية.

ومع أن بعض المحللين يحذرون من المبالغة في ربط قوة الدولار بوضعه كعملة احتياط، فإن بيشني يشير بوضوح إلى تحول تدريجي في المشهد النقدي العالمي، تتفاعل معه أوكرانيا عبر مراجعة خياراتها.

إصلاحات اقتصادية وترقّب لمآلات الحرب

منذ إطلاق عملتها الوطنية "الهريفنيا" عام 1996، اعتمدت أوكرانيا الدولار كعملة مرجعية. وبعد بدء الغزو الروسي في شباط/ فبراير 2022، فرض البنك المركزي الأوكراني ضوابط على رأس المال وحدد سعرًا رسميًا للهريفنيا بنحو 29 مقابل الدولار، قبل أن يضطر لاحقًا إلى خفض قيمة العملة بسبب تفاقم الاختلالات المالية.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2023، انتقلت السياسة النقدية من تثبيت سعر الصرف إلى "نظام سعر الصرف المُدار" الذي يستند إلى الدولار لتقييم تدخلات السوق وضبط التقلبات.

قبل نحو عام، بدأت أوكرانيا ومولدوفا محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في عملية طويلة تتطلب التزامًا بإصلاحات شاملة في النظامين السياسي والقضائي.

Relatedتحذير إسرائيلي من تداعيات الرسوم الأمريكية: خسائر بمليارات الدولارات وتأثيرات اقتصادية خطيرةهل يدمّر ترامب الدولار؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة لليورو؟تراجع الأسواق العالمية بسبب رسوم ترامب وخسارة بتريليونات الدولارات أواخر الأسبوع

وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد أعربت في شباط/ فبراير الماضي عن أملها في أن تنضم أوكرانيا إلى الاتحاد بحلول عام 2030، شرط المحافظة على وتيرة الإصلاحات الحالية.

اقتصاديًا، يعوّل بيشني على تعافي تدريجي في الاستثمار والنشاط الاستهلاكي نتيجة تعميق الروابط مع أوروبا، متوقعًا نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 3.7 و3.9% خلال العامين المقبلين. لكنه يشدد على أن مصير هذا التعافي يبقى مرهونًا بمسار الحرب.

ويختم بالقول: "نهاية سريعة للحرب ستكون سيناريو إيجابيًا إذا اقترنت بضمانات أمنية. لكن الفوائد الاقتصادية لإنهائها قد تستغرق وقتًا حتى تظهر بشكل ملموس".

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • تقرير: أوكرانيا تراجع ارتباط عملتها الرسمية بالدولار وتدرس التحول إلى اليورو
  • غوميز للشلهوب: هوية الهلال مرتبطة ارتباط وثيق بك