لقاء الديمان: الملاقاة بين الواجبات والحقوق وصولا إلى العدالة
تاريخ النشر: 29th, August 2024 GMT
كتب مجد بو مجاهد في" النهار": المناداة بالحقوق من الصرح البطريركي في الديمان أولوية اختصرت اجتماعاً اتخذ طابعاً مغلقاً لكن مع آفاق. تبتعد أوساط البطريركية المارونية كلّ الابتعاد عن التداول في التطوّر التحركيّ الذي شكّله ذلك الاجتماع الذي سرّب إعلامياً ما أثار بعضاً من امتعاض على مستوى كنسيّ بحسب معطيات "النهار"، ذلك أنّ ما جرى التداول به لا يمثّل البطريركية المارونية ولا ينطلق من آراء كلّ الذين حضروا في اللقاء الذي اتخذ فحوى تشاورياً من دون أن يلغي مصطلحات بارزة صدرت في أروقة سياسية واقتصادية على أثره.
تأكد أنّ المشاورات التي شهدها الصرح البطريركيّ تركّزت خصوصاً على أهمية المساواة بين مطالبة الدولة بواجبات المواطن اللبنانيّ تجاهها في موازاة أن يطالب ذلك المواطن بما له من حقوق أيضاً، فيما لا يمكن العمل على إرهاق الملتزمين ضريبياً بالضرائب والرسوم وفواتير الخدمات العامة الباهظة من دون تقديم الممكن لهم. وتطرّقت المحادثات إلى مسألة الاقتصاد غير الشرعي الذي يعاني من تبعاته اللبنانيون الذين يحرصون على التزامهم دفع رسومهم والذين يشكّلون فئة واسعة من المواطنين لا يزالون متمسّكين في وجود خزينة مركزية لا يجب منع الأموال الضريبية عنها أو التهرّب من دفع الضرائب فيما لا يمكن القبول بمنافسة غير متكافئة. لكن، لم يبلور اجتماع الديمان توصيات أو أجوبة حول الحلول التي في المقدور انتهاجها في مرحلة لاحقة في انتظار ما يمكن أن يترتّب عن مداولات إضافية آتية.
وكان الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي من بين الحاضرين في اجتماع الديمان، وعندما تسأله "النهار" عن بعض الاستفهامات يفضّل التحدّث انطلاقاً من توجّه شخصيّ بحت رغم أنّه كان موجوداً في اللقاء لكنّه لا يصرّح باسم المجتمعين إنما ينطلق من زاوية شخصية خاصّة بعناوين اقتصادية جرى بحثها ومن بينها مصطلح "خطر الاقتصاد الموازي على الكيان والعيش المشترك". يقول يشوعي إنّ "المواطنين يتعاملون بالطريقة نفسها في كلّ دولة ذلك أن كلّ المقيمين من أبناء أي بلد عليهم واجبات تجاه دولتهم كما أنّ دولتهم عليها واجبات تجاههم. كنت أطالب وزير المال أن ينشر ماذا تدفع كلّ محافظة لبنانية سنوياً من ضرائب ورسوم شمولاً في الضريبة الجمركية والضريبة على القيمة المضافة والضرائب العقارية وعلى الأملاك المبنية وكلّ أنواع الرسوم والضرائب. وكذلك، بالنسبة لنفقات الدولة أيضاً وماذا دفعت كلّ محافظة إضافةً إلى ما أنفق عليها من تمويل لمشاريع إنمائية". وتكمن الطريقة الممكنة للتصدي للاقتصاد الموازي التي يفضّلها يشوعي، من خلال "مبدأ المعاملة بالمثل ومكافحة التهريب على الحدود مع سوريا ما يحتاج وجود عديد إضافيّ من الجيش اللبنانيّ".
وينطلق مصطلح آخر تشاور خلاله المجتمعون في الديمان من "الملاقاة بين الواجبات والحقوق" من دون أن يشكّل ذلك شكلاً من الحثّ على العصيان بحسب يشوعي، إنما لا بدّ من التنديد بمن هو خارج عن كلّ القوانين ويعمل في لبنان كجغرافيا ولا يعترف بوجود دولة، في موازاة التأكيد على حقوق من يدفعون الضرائب والرسوم في الحصول على الخدمات بعيداً عن أي غبن أو ظلم. ثمة منطلق خاصّ ليشوعي في موضوع أساسيّ متعلّق بالعدالة، يستند إلى "مبدأي المساواة أمام القانون وأمام الضريبة أو ما يسمى بواجبات الدولة تجاه المواطن إذا كان يقوم بما عليه تجاه دولته، فيما لا استطاعة لأحد أن يكون ظالماً مع فئة ومتغاض مع أخرى". باختصار، إن هذا المصطلح فحواه عدم دفع المواطن اللبناني للرسوم والضرائب إذا لم يحصل على حقوقه، فيما لا يمكن استمرار القيام بكامل الواجبات من دون الحصول على الحقوق. في المحصلة، إنّ لقاء الديمان هو بمثابة بداية تشاورية يمكن أن تتوسّع مساحتها مع طرح للكثير من التفاصيل التي بقيت داخل أروقة الاجتماع.
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
التراث هوية..هل يمكن التملُّص منها؟
من البديهي أن ما وصل إليه البشر من نتاج معرفي (إنساني أو تجريبي) ما هو إلا تراكم خلّفه الناس -وما زالوا-؛ إذ من الطبيعي ألا يُنجِزَ كلَّ التجارب ونتائجها فردٌ بذاته، ولا يُحمَد -ما وصلنا إليه من رخاء وسهولة عيشٍ- إلا تلك التجارب المتراكمة التي تضفي على الرخاء رخاء فوقه، وعلى اليسرِ يسرا عليه.
وعند الرجوع إلى التجارب المتراكمة من آبائنا -آباءِ كلِّ البشرِ- فليس كلها مما نعيش منه رخاء أو حتى فكرة ملهِمَة؛ إلا أن كل تلك التجارب -بشكل مباشر أو غير مباشر- ساهمت في تشكيل ما وصلنا إليه من وعي؛ فضلا عن مساهمتها في جعل الوعي ذلك عيشا سهلا، ولا تزال السهولة تتراكم بمرور الوقت ومرورنا.
عند إلقاء نظرة عامّة على موقف الناس من التراث؛ يتبادر إلى الذهن حالان متضادَّان: (الآخذ له كلَّه)، و(المهمل له بما حَمَل واشتَمَل)، ولا يخفى عليك ما لأخذِ الأمور بحدّية من نتائج مذمومة... فالآخذ للتراث كلِّه لا يسلم من مغبّة الوقوع في وهم أنَّ ذلك التراث بكلِّيَته يصلح له الآن؛ فيصطدم بواقعه اصطداما غير محمود العواقب، ويعيش فصاما يجعله «لا هو نال من التراث جمالَه، ولا من الواقع يسرَه».
أما المهمِل للتراث بما حمل واشتمل، فغالبا ما يعيش حالةَ غُربةٍ في الهوية، يرجو من أصل غيره ليحتويه، وجذر -لذاك الغير- ينبت منه، كمن يبحث عن ظله عند غيره؛ فاستحالة أن تختار بطنا يلدك، تماما كاستحالة التنكر لتراثك وتجربة آبائك؛ فواقعك الكائن فيه بما خلَّفه لك من تراث لا سبيل منه سبيلا حسنا ذا فائدة إلا بأخذك المفيد منه، وردك الفاسد إليه، ولا تتعجّل في ردِّ -ما تظنه فاسدا- فقد يكون ذا نفع لسابقك بظروفه هو، وظروفك لا تسمح به؛ فتمهل.
وواقع الحال أن تمظهرات رؤية الناس للتراث في واقعنا العربي الإسلامي قد تظهر في أمرين -ظاهرهما متصل إلا أنني فصلتهما تسهيلا لقراءة الوضع- هما: الأول (تربية النشء)، والثاني (التنظير الفكري)، فتربية النشء مرجعها الخلفية الفكرية لأبويه أو لمحيطه القريب؛ فعند تنشئة الصغير على ثقافة لا تتصل بواقعه المتراكم وجذوره البعيدة، فإنه يصطدم عندما يكبر بأنه لا استمسك بأصله، ولا الآخر قَبِل به في هويته التي استوردها منه؛ فيعيش حالة من اللهث بما عند الآخر والجري وراءه، وحال النشء المتربي في بيئة تجعل من الموروث مقدَّسا كله، لا مساس فيه ولا نقد، يكون ردة فعل لاحقة كون الواقع يصدمه بأن تلك القداسة لا تصمد، بل ويمكن نقضها.
أما ما يتعلق بالتنظير الفكري؛ فإن أمر الناس فيه يتطابق في الضدين، إما بالأخذ للتراث كله أو إسقاطه كلّه، وهنا أود الحديث أكثر عمَّن تكون له نظرة الإهمال والإسقاط للتراث، ويراه عبئا ينبغي التخلّص منه، بل يراه مانعا لأَنْ يتقدَّم، وهذا النوع يعيش وهما لبرهة -طويلة أو قصيرة- لا يصحو منه إلا ببيان أن الآخر لا يقبلك إلا إن كنت من بني جلدته ولونه، بل الآخر يتطلَّع -والعالم كله اليوم- إلى ما هو مختلف وذو خصوصية، وهذا ليس مبررا لترجع إلى تراثك، بل ذلك دافع ما من أحد الدوافع، والدافع الأهم أنك لن تجد مكانك في هذا العالم -فردا كنت أو جمعا- إلا بالبناء على جذرك، والانطلاق من أصلك؛ بالاستفادة منه والبناء إلى ما انتهى إليه، هذا بدون أدنى شك مع استفادتك من الآخرين لكن شريطة ألا تتماهى معهم.
اختلاف الناس وتباين رؤاهم (ولذلك خلقهم ولا يزالون مختلفين)، هو الثراء للبشرية، وهو سر التدافع الذي به تتقدم البشرية للوصول إلى عيش أكثر رخاءً واستقرارا؛ فما من دين أو مذهب أو اتجاه ما إلا وُجِدَت فيه خلافات من أتباعه بل وحتى من مؤسسيه، وعند تأملنا -بنظرة شاملة- في ذلك لا نجد إلا الثراء في ذلك الاختلاف الذي يشكل توازنا؛ لئلا يطغى طرف على آخر (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).