جدل المليشيات والوطنية المفترى عليها
تاريخ النشر: 10th, August 2023 GMT
هل كتيبة البراء بن مالك التي تقاتل الان الدعم السريع وغيرها من كتائب الظل الكيزانية مليشيات ام جيوش نظامية؟ وما هو مكانها من الإعراب بمنطق النظامية والضبط والربط العسكري؟
ولو انتصر الجيش وحل الجنجويد هل سيكون من حقنا حينها ان نهتف العسكر للثكنات وكتيبة البراء ابن مالك تنحل او كل كتائب الظل تنحل؟ ام سيكون هذا الهتاف خيانة عظمى وكفر ينافي التوحيد ويخرج صاحبه من الملة؟
ام سيخرج علينا قائد الجيش ( غالبا سيكون كوز) ويقول لنا كتيبة البراء بن مالك خرجت من رحم الدفاع الشعبي الذي خرج من رحم القوات المسلحة وهذه الكتائب قوات نظامية لها الفضل في تحريركم من الجنجويد وحماية الأرض والعرض؟
وبما ان المعركة كما هي على الأرض الان مستعصية والى حين اشعار اخر على الحسم العسكري لصالح الكيزان، ربما يلجؤون لاستقدام مجاهدين من خارج الحدود فهل سنصف هؤلاء بانهم غزاة اجانب والواجب الوطني تحرير البلاد منهم؟
الأمور اكثر تعقيدا!
هذه الأسئلة ليست للإجابة، بل هي لشرح تعقيدات المشهد السوداني وعدم صلاحية الثنائيات المعيارية البسيطة لتشكيل موقف سياسي موضوعي وناضج، الجيش السوداني بعد الثلاثين عاما العجاف من حكم الاسلامويين ليس هو الجيش بعد عهد عبود او عهد نميري، فتلك كانت أنظمة دكتاتورية” بنت ناس” ، لم يكن ضمن اهدافها تدمير مؤسسات الدولة الحديثة انطلاقا من انها اصنام علمانية تتناقض بنيويا مع الإسلام و يجب تكسيرها لاقامة بدائلها الاسلامية! وكان الجيش اكبر هذه الاصنام من وجهة نظر الكيزان فدمروه عبر العبث بنظمه واعرافه وتقاليده الراسخة ،وعبر احتلاله بالكامل على مستوى الدماغ والمفاصل والعمود الفقري، ثم حاصروه بالمليشيات الموازية من كتائب ظل وقوات مقاتلة تتبع لجهاز الامن والمخابرات ممثلة في هيئة العمليات وهذه بدعة كيزانية غير مسبوقة في السودان، وبعد ذلك الجنجويد ثم حرس الحدود ثم الدعم سريع، وبعد كل ذلك وبمنتهى الاستهبال والاستحمار للشعب السوداني يرفع الكيزان في الحرب التافهة الدائرة الان رايات الوطنية التي من شروطها الوقوف مع الجيش الوطني فيما يسمونه معركة الكرامة ضد الدعم السريع! في حين ان المعركة هي صراع سلطة بين مشروعين :احدهما عودة الاستبداد الكيزاني للحكم بالقوة، والآخر تدشين استبداد مليشياوي اذا انتصر الدعم السريع، هذا هو منطق الحرب الدائرة حاليا ، المنتصر فيها سيدشن استبدادا مستعصيا على الإصلاح وفاتورة مقاومته باهظة جدا، نظرا لذلك كل حادب على إنقاذ الوطن من براثن الاستبداد سيجد نفسه في منصة مستقلة تماما عن طرفي هذه الحرب، واهم وحالم من يظن ان مواجهة استبداد الكيزان ستكون سهلة لو عادوا الى السلطة محمولين على ظهر الجيش، فلو نظرنا الى الوراء وتأملنا في جرائمهم ضد الشعب السوداني بعد انقلابهم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ الذي تسللوا فيه الى السلطة ليلا والناس نيام بدون اي بطولات ، نستطيع ان نتخيل ما يمكن أن يفعلوه اذا صعدوا للسلطة هذه المرة عبر انتصار عسكري في حرب من العيار الثقيل كالحرب الدائرة حاليا، فإذا كان عهد التسلل الانقلابي ليلا في ٣٠ يونيو ابتدأ بدق مسمار في رأس طبيب وانتهى بدق خازوق في جسد معلم فكيف يا ترى سيبدأ عهد الاستبداد الجديد الذي سيصعد إلى السلطة على موجة نصر عسكري كاسح؟
ولو نظرنا الى الوراء وتحديدا بدايات حرب دارفور وجرائم الابادة والتهجير والاغتصاب التي حدثت فيها ثم نظرنا الى ما حدث أثناء هذه الحرب في الجنينة وما يحدث في الخرطوم من انتهاك اعراض ونهب ممتلكات وطرد مواطنين من منازلهم واذا نظرنا الى طبيعة مصالح مليشيا الدعم السريع وارتباطاتها الاقليمية نستطيع أن نتخيل شكل الدولة التي سيتحكمون فيها!
وحدة قوى التحول الديمقراطي
في مثل هذا المأزق التاريخي نحتاج إلى التفكير خارج الصندوق، ومن يمثلون ضمير أمتهم حتما سيصطفون ضد الحرب من حيث هي، ويعكفون على بناء جبهة السلام والتحول الديمقراطي والتنمية ويجعلون إيقاف هذه الحرب اللعينة غاية همهم في هذه اللحظات العصيبة، من يمثلون ضمير الشعب السوداني عليهم ان يحاصروا نيران هذه الحرب في محيطها الحقيقي( صراع سلطة بين الكيزان والدعم السريع) وتبعا لذلك يحاربون خطاب الكراهية والمفاصلات الجهوية والقبلية والعرقية حتى لا تتحول إلى حرب أهلية شاملة تقسم الوطن ، باختصار يجب نزع اي مشروعية سياسية او اخلاقية وحجب الأكسجين الاجتماعي عن هذه الحرب لتختنق وتموت سريعا، او تستمر محاصرة في مكانها الطبيعي (صراع سلطة عريان بين مشروعين للاستبداد الارعن).
لو تماسكت القوى الحية في المجتمع حول هذا الموقف الأخلاقي ضد الحرب فإنه سوف يقود الى هزيمة طرفيها سياسيا ، وبروز الطريق الثالث بوضوح.
أما مآلات المعارك العسكرية على الأرض والى اي مدى ستؤثر على تشكيل المستقبل السياسي، وهل سندخل مجددا في متاهة تقاسم النفوذ بين قوتين عسكريتين متوازيتين كل منهما متربصة بالاخرى وهل الاقل ضررا انتصار الكيزان ام انتصار الدعم السريع ، ومن منهما أقرب للانتصار، فكل هذه الأسئلة رهينة لمنطق الحرب وداينامياتها الخارجة عن سيطرتنا تماما كقوى مدنية ديمقراطية، وبالتالي علينا أن نعمل بجد لإنجاز ما هو تحت سيطرتنا اي بناء جبهة مدنية ديمقراطية قوية ومنظمة وقادرة على أن تشكل ” قوة ردع سياسي واخلاقي” للمشاريع الاستبدادية مهما كان سندها العسكري، وقادرة على انتزاع مساحة معتبرة للقوى المدنية تجعلها عنصرا مستقلا في معادلة توازن القوى ورقما عصيا على التجاوز في حسابات المستقبل السياسي.
يجب أن لا يكون الموقف من هذه الحرب عامل انقسام جديد
وسط قوى التحول الديمقراطي، لأن الأمور معقدة ، وزوايا النظر متعددة وتبعا لذلك تختلف المواقف بين من يرى ان الوقوف خلف الجيش رغم سيطرة الكيزان عليه افضل لان استبداد الجيش مقدورا عليه ، ومن يرى ان مساندة الدعم السريع افضل لان استبداد الدعم السريع أسهل في المواجهة من استبداد الكيزان، ومن يرى ان هذه الحرب يجب أن تتوقف بالتفاوض رفقا بالمواطنين لان النصر الحاسم فيها مستحيل وان تحقق سيكون نصرا بطعم الهزيمة وبالتالي يجب ختام هذه المهزلة عبر تسوية سياسية.
النقطة الجوهرية هنا ان قوى التحول الديمقراطي على اختلاف مواقفها التكتيكية من طرفي هذه الحرب متفقة حول الخطورة التي يشكلها كل من الكيزان والجيش والدعم السريع على التحول الديمقراطي، وهذا يجعل موقف لا للحرب هو الاقرب للمنطق المتماسك إذ كيف يمكن تعبئة المواطنين للمشاركة في حرب او الصبر على عذاباتها وخسائرها التي تفوق احتمالهم وهي حرب لن تأتي بشيء سوى الاستبداد والقهر؟ كيف ينخرط المواطن الحر بنفسه او بماله او بمساندته السياسية في حرب عارية من الأهداف الوطنية او الاخلاقية ؟ هي ليست حرب ضد غزاة اجانب لتحرير الوطن كما يدعي الكيزان الذين بالأمس القريب كانوا يتغزلون في هذه القوات ويصفونها بحامية حمى الوطن! وليست حرب من أجل الديمقراطية والدولة المدنية كما تدعي قوات الدعم السريع!
هذه الحرب لم تندلع من أجل أهداف خيرة للوطن والمواطن ، و رغم ذلك المواطن السوداني هو من يكتوي بنيرانها ويدفع بسببها ثمنا باهظا من حاضره ومستقبله، وأن شاءت الاقدار ان تترتب على هذه الحرب بعض النتائج الخيرة والمفيدة للشعب السوداني حاليا او على المدى البعيد فسوف تكون هذه النتائج من تداعياتها لا من مقاصدها( المنن في طي المحن والمزايا في طي البلايا)، واي نتيجة خيرة ستتحقق غصبا عن طرفيها ( كيزان ودعم سريع) وفي الاتجاه المعاكس لارادتهما( يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) ، وحصد هذه النتيجة رهين لحسن تعلمنا من هذه التجربة القاسية واستخلاص الدروس الصحيحة منها وبذل مجهودات جبارة في الاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب.
الوطنية المفترى عليها!
ان وطن الكيزان هو مشروع هيمنتهم على السلطة ، والابتزاز بالوطنية الذي يضللون به الشعب هدفه حشد الابرياء للقتال معهم في سبيل ذلك المشروع الاستبدادي الارعن! والمسخرة انهم لا يطالبون الشعب السوداني بذلك من موقع مراجعة واعتذار عن ماضيهم في تدمير الجيش واضعافه والرغبة في التكفير عن هذه الخطيئة عبر إصلاح أمني وعسكري حقيقي يحرر الجيش من سيطرتهم ويعيد بناءه على اسس احترافية ووطنية جديدة في سياق مشروع سياسي يمتلكه كل السودانيين، بل بالعكس فإنهم قبل الحرب كانوا يجرمون مجرد الحديث عن الإصلاح الأمني والعسكري ويجعلون هذا المصطلح مرادفا لمفردة ” تفكيك الجيش” لانهم ببساطة يريدون استدامة احتلالهم للجيش لانهم ما زالوا يراهنون على القوة العسكرية كوسيلة صعود للسلطة ومن ثم حراسة المصالح التي تراكمت عبر الفساد، ولهذا السبب تختفي تماما نبرات الاعتذار ونوايا الإصلاح من خطابهم للشعب السوداني ، فيخاطبونه كعادتهم دائما وابدا من منصة المكابرة والغرور الايدولوجي والاستعلاء وقلة الحياء السياسي الذي وصل لدرجة ممارسة الاستاذية على الآخرين في الوطنية وتوزيع صكوك الغفران الوطني وادانات التخوين ببجاحة مقززة تسبب الغثيان حرفيا !! وما زالت كتائب ظلهم الاعلامية تكذب كما تتنفس، تستمع إلى أحدهم موجها خطابه للسودانيين بصيغة الأمر يجب أن تدعموا جيشكم وما المشكلة ان كان به اختراق إسلامي، فالجيش اصلا تعرض لاختراق شيوعي واختراق بعثي واختراق من حزب الأمة وهنا يتهرب الكوز عبر اللف والدوران من دفع اي استحقاقات لفتح صفحة جديدة مع الشعب السوداني! إذ لا يخفى على احد الفرق الشاسع والنوعي بين اختراقات الشيوعيين والبعثيين للجيش والاحتلال الكيزاني للجيش على مدى ثلاثين عاما! فلا الشيوعيين ولا البعثيين انفردوا بحكم السودان ثلاثين عاما! ولا حزب الأمة بحاجة لاختراق الجيش كي يحكم لانه حزب اكثرية لا يحتاج للتسلق إلى السلطة عبر الجيش ، اما مقارنة تسليم حزب الأمة السلطة لعبود عام ١٩٥٨ بانقلاب الانقاذ ١٩٨٩ فهذا قياس فاسد تماما، رغم ان ما فعله حزب الأمة في ذلك الحين خطأ تاريخي كبير وسوء تصرف في التفويض الانتخابي الذي ناله، يجب أن يعترف به الحزب ويعتذر عنه دون لجلجة ومنهج تبريري، ولكن في انقلاب عبود حزب الأمة سلم السلطة التي كانت في يده وصعد إليها بالانتخابات للقائد العام للجيش، أما الكيزان فسرقوا بالانقلاب العسكري سلطة لم تكن في ايديهم وفرضوا برنامجهم بالقوة!
هذا نموذج للمغالطات التي تدل على موت الضمير وتمسك الكيزان بمنصة المكابرة وانكار الأخطاء وتمييع جرائم الانقاذ الكبرى عبر الادعاء بأن الاجرام هو حالة طبيعية يتساوى فيها الجميع!!
ومن هذه المنصة المعطوبة يستنفرون الشعب لخوض معركتهم مع الدعم السريع وامعانا في البجاحة يخونون كل من قال لا للحرب بلغة متعصبة ومتشنجة!! والمطلوب منا ان نصدق ان سبب هستيريا الكيزان وتشنجاتهم الخطابية هو الغيرة الوطنية على تراب السودان !! في حين ان من بداهات الوطنية الحرص على وحدة التراب الوطني فاين الكيزان من الوطنية وقد تميز نظامهم السياسي عن كل أنظمة الدنيا سواء دكتاتورية او ديمقراطية بميزة لافتة ومحيرة وهي ان خطابات تقسيم الوطن أرضا وشعبا كانت وما زالت تخرج من داخل الاجهزة الأمنية والاستخباراتية للنظام وتتولى تلك الأجهزة خدمتها سياسيا واعلاميا وماليا وتحمي دعاة تمزيق الوطن وتصعدهم اجتماعيا وتحولهم إلى رموز ابتداء من منبر السلام العادل وصولا إلى ” دولة البحر والنهر” التي يروجون لها الان كخطة باء لو فشلوا في هزيمة الدعم السريع، يفصلون دارفور لينفرد حميدتي بحكمها ويترك لهم الشمال والوسط والشرق .
عادة الانظمة الدكتاتورية الوطنية تلاحق اصحاب الدعوات الانفصالية وتسخر اجهزتها الأمنية والاستخباراتية لمحاصرتهم! أما دكتاتورية الكيزان فتفعل العكس! انهم احط انواع الدكتاتوريات!
إذ ان وطن الكوز هو المكان الذي يحتكر فيه السلطة ويفرض فيه ايدولوجيته، وهو مستعد لتمزيق الوطن اربا اربا لو استعصى الوطن على سلطته! فهل من عدو للوطنية السودانية أخطر من الكيزان؟
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعب السودانی الدعم السریع هذه الحرب حزب الأمة یجب أن فی هذه
إقرأ أيضاً:
هل استخدم جيش السودان الأسلحة الكيميائية ضد الدعم السريع؟
أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار.
سلق الاتهامات وتسويقها
الجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها.
أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع.
وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟
إعلان
فلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة.
والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني!
موت منبر جدة
بهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون واشنطن قد تخلّت عن حياديتها المفترضة كوسيط، حين لوّحت بسيف العقوبات، ووضعت نفسها عمليًا في موضع الخصم. وقد كشف هذا الانحياز الواضح للمليشيا عن فقدانها للمصداقية، وجعلها طرفًا غير مؤهّل لدعم أي مسار تفاوضي، وغير جدير بالثقة من جانب الأطراف السودانية.
فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة.
وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: “نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ”.
إعلان
وهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض.
خيبة أمل هائلة
بالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة.
فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم “القاعدة” على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا.
وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم.
الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف “لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها”، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية.
من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟
القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا “رايثيون” و”لوكهيد مارتن” الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة.
فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟
على شاكلة تغطية فضيحة كلينتون
سيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية.
لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس.
لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر.
وهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة “إكس” عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: “إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق”.
وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.
عزمي عبد الرازق
كاتب وصحفي سوداني
الجزيرة.
إنضم لقناة النيلين على واتساب