حرية التعبير والتضامن والنهضة الانتقائية في الدول العربية
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
في عالم اليوم المترابط، أصبحت الدعوة إلى الحرية والعدالة والتضامن مهمة أكثر من أي وقت مضى ومع ذلك، عندما ندرس المشهد السياسي للعديد من الدول العربية، يصبح من الواضح أن طريقها نحو التحول إلى مراكز اقتصادية عالمية وتحقيق التنمية بجميع أنواعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ هو طريق متسم بالتناقضات والانتقائية.
لطالما كان الوضع في غزة رمزا للنضال الفلسطيني الأوسع من أجل الاستقلال وتقرير المصير. ومع ذلك، استجابت غالبية الدول العربية لعملية الإبادة الأخيرة التي يتعرض لها أهل غزة بتقييد المظاهرات العامة والحد من حرية التعبير. إن هذه القيود تتناقض بشكل صارخ مع التصريحات الدبلوماسية للقادة السياسيين للدول العربية؛ التي تدعي دعم الحقوق الفلسطينية والجهود الرامية إلى إنهاء الحرب. ويثير هذا التناقض سؤالا أساسيا هو: هل يمكن لأمة أن تدعي دعم العدالة والحرية بينما تقمع الأصوات التي تدافع عن هذه القيم داخل حدودها؟
استجابت غالبية الدول العربية لعملية الإبادة الأخيرة التي يتعرض لها أهل غزة بتقييد المظاهرات العامة والحد من حرية التعبير. إن هذه القيود تتناقض بشكل صارخ مع التصريحات الدبلوماسية للقادة السياسيين للدول العربية؛ التي تدعي دعم الحقوق الفلسطينية والجهود الرامية إلى إنهاء الحرب
لقد أدت عملية التطبيع مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية إلى تعقيد هذا الوضع. فبالنسبة للقادة العرب فإنهم برروا التطبيع باعتباره خطوة براغماتية نحو الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي، ومع ذلك، ساهمت هذه المناورة السياسية أيضأ في قمع الحركات الاحتجاجية داخل هذه البلدان. تاريخيا، دعمت الشعوب العربية القضية الفلسطينية باستمرار، واعتبرتها رمزا للمقاومة ضد الاحتلال والظلم، ومع ذلك، في البلدان التي طبّعت العلاقات مع إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين، كانت هناك حملة قمع ملحوظة للمظاهرات والتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. هذا التحول ليس مجرد استراتيجية سياسية، بل هو تحد مباشر للسرد التاريخي للتضامن العربي مع فلسطين.
وتوفر الإمارات، على وجه الخصوص، مثالا صارخا لهذا التناقض، وفي حين كانت الدولة تضع نفسها كمركز للنمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والتسامح الثقافي، فقد كانت أيضا تعمل بنشاط على إسكات أصوات المعارضة. وبينما تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا للجندي الإسرائيلي إيال هكشار الذي كان يقاتل في غزة وهو يقضي إجازته في الإمارات، ظهرت تقارير عن اعتقال أفراد وتغريمهم وحتى ترحيلهم بسبب "تضامنهم الإلكتروني" مع القضية الفلسطينية. هذه الإجراءات ليست حوادث عابرة، بل هي جزء من استراتيجية أوسع للسيطرة على السرد وقمع أي شكل من أشكال الدعم للقضية الفلسطينية. خذ على سبيل المثال، في أيار/ مايو من هذا العام، تم ترحيل طالب فلسطيني في الإمارات بعد أن تجرأ على ارتداء الكوفية والهتاف "فلسطين الحرة" خلال حفل تخرجه. ويؤكد هذا الحادث على سياسة الإمارات الأوسع نطاقا في عدم التسامح تجاه المظاهر العامة لدعم القضية الفلسطينية.
وقد أثارت هذه الإجراءات غضبا بين المقيمين العرب في الإمارات، الذين تعرضوا للاعتقالات التعسفية والترحيل دون أي انتهاكات واضحة للقانون أو النظام العام. ويبدو أن المنطق الذي تتبناه الحكومة ينبع من الخوف من فقدان السيطرة على السرد الوطني، والرغبة في الحفاظ على صورة الاستقرار والانفتاح التي تجتذب المستثمرين والسياح الأجانب. ومع ذلك، يثير هذا النهج سؤالا بالغ الأهمية: هل تستحق التنمية الاقتصادية ثمن قمع الحريات والحقوق الأساسية؟
إن قمع التضامن الفلسطيني ليس مجرد مشكلة تقتصر على الاحتجاجات، بل إنه يمتد إلى النظام التعليمي، حيث يوضح محو الهوية الفلسطينية من المناهج المدرسية اتجاها مقلقا. فبدلا من إدانة أفعال مثل استخدام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لخرائط تحذف فلسطين بالكامل، اختارت بعض الدول العربية حذف الخريطة الفلسطينية من موادها التعليمية. وهذا المحو التعليمي ليس مجرد إغفال؛ بل هو خطوة محسوبة لإعادة تشكيل الإدراك العام والوعي، ومواءمته مع الاستراتيجيات السياسية التي تسعى إلى استرضاء الحلفاء الدوليين على حساب الحقيقة التاريخية والتضامن الإقليمي.
إن قمع المعارضة ومحو السرديات التاريخية لا يقتصر على القضية الفلسطينية وحدها، ففي الإمارات، تم اتخاذ إجراءات مماثلة ضد المواطنين البنغاليين الذين نظموا احتجاجات لدعم الطلاب في وطنهم، فضلا عن المواطنين الأفغان الذين احتجوا على حقوق العمل والمزايا المنخفضة. وفي كل هذه الحالات، استخدمت الحكومة استراتيجيات لإثارة المشاعر القومية بين الشباب الإماراتي، كما راقبت السلطات الإماراتية عن كثب قاعات الصلاة والمساجد في المناطق ذات الدخل المنخفض لمنع التجمعات والاضطرابات المحتملة بين العمال الأجانب. والخوف الأساسي ليس فقط بشأن الاحتجاجات، ولكن حول تأثير تموجي أوسع نطاقا يمكن أن يشوه صورة الإمارات ويهدد اقتصادها.
إذا كانت الدول العربية، جادة بشأن طموحاتها لتصبح مراكز اقتصادية عالمية، فيجب عليها تبني نهج أكثر شمولا وانفتاحا للحكم. وهذا ينطوي على السماح بحرية الرأي والتعبير، ودعم الاحتجاجات السلمية، واحترام حقوق جميع المقيمين، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم السياسية
يعكس هذا الخوف من انتشار المعارضة إلى قطاعات أخرى من المجتمع قلقا أوسع نطاقا بشأن استدامة نموذج الحكم الحالي. إن الإمارات، مثل العديد من الدول العربية الأخرى، تسير على حبل مشدود بين تعزيز النمو الاقتصادي والحفاظ على السيطرة السياسية. إن قمع الحركات الاحتجاجية وإسكات الأصوات المؤيدة لغزة وغيرها من القضايا قد يوفر الاستقرار في الأمد القريب، ولكن في الأمد البعيد، من المرجح أن تؤدي مثل هذه الإجراءات إلى تقويض الأساس ذاته للتنمية الوطنية، فلا يمكن للدول أن تزدهر بينما تخنق مبادئ العدالة والحرية والتعبير التي تدعم التقدم والابتكار الحقيقيين.
إذا كانت الدول العربية، جادة بشأن طموحاتها لتصبح مراكز اقتصادية عالمية، فيجب عليها تبني نهج أكثر شمولا وانفتاحا للحكم. وهذا ينطوي على السماح بحرية الرأي والتعبير، ودعم الاحتجاجات السلمية، واحترام حقوق جميع المقيمين، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم السياسية. قد يوفر القمع والرقابة سيطرة مؤقتة، لكنها لا تبني مجتمعات قوية ومرنة.
إن نهضة الأمم هي مسعى شامل، إنها لا تتطلب فقط سياسات اقتصادية تجتذب الاستثمار والتنمية، بل تتطلب أيضا الالتزام بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ومبادئ الحرية والمساواة. إن الدول العربية، من خلال اختيار جوانب التنمية التي تعطي الأولوية بشكل انتقائي، تخاطر بخلق بيئة بحيث يتم بناء الرخاء الاقتصادي على أساس هش من القمع والسيطرة. لقد أثبت التاريخ أن مثل هذه النماذج غير مستدامة، ولكي تتمكن هذه البلدان من قيادة العالم كمراكز اقتصادية وثقافية حقيقية، يتعين عليها أن تدرك أن الحرية والتضامن والعدالة ليست اختيارية؛ بل إنها ضرورية، ويتعين عليها أن تدرك أن النهضة الحقيقية لا تتعلق بالتقدم الانتقائي، بل بالنمو الشامل والجامع والمبدئي الذي يتردد صداه بين جميع شرائح المجتمع.
x.com/fatimaaljubour
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه قمع حرية التعبير غزة المظاهرات مظاهرات غزة قمع العالم العربي حرية التعبير مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة تفاعلي سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة الدول العربیة حریة التعبیر فی الإمارات ومع ذلک
إقرأ أيضاً:
الفيتو الأبدي للغرب على الطاقة النووية العربية والإسلامية
تستمر الحرب الإسرائيلية – الأمريكية ضد إيران، وتستمر الخلاصات والنتائج في التبلور بشكل جلي وواضح، لتؤكد أن العالم العربي – الإسلامي يقف يتيما في مواجهة القوى الكبرى وسط التطورات الجارية ويعيش حالة أشبه بالتي أدت الى استعماره في القرن التاسع عشر والعشرين.
وعلى الرغم من وجود الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تضطلع بمهمة مراقبة الأنشطة النووية، أقدمت إسرائيل على شنّ هجوم على إيران، ثم تبعتها الولايات المتحدة بهدف تدمير المشروع النووي الفارسي، في انتهاك صارخ للقانون الدولي وتجاوزٍ للمساعي الدبلوماسية.
يأتي هذا التصعيد ليكرّس واقعًا بات من المسلّمات: رفضُ الغرب القاطع لامتلاك أي دولة عربية أو إسلامية لمشروع نووي، حتى وإن كان مخصصًا للأغراض السلمية، مثل إنتاج الكهرباء لتعزيز الصناعة أو تحلية مياه البحر.
فلا يمكن لأي دولة عربية أو إسلامية أن تطمح بامتلاك الطاقة النووية إلا بإذن مسبق وتحت رقابة صارمة من الدول الغربية. ولن يسمح الغرب بتكرار تجربة باكستان، التي نجحت في امتلاك السلاح النووي في لحظة فراغ جيو – سياسي، أعقبت سقوط جدار برلين ودخول العالم مرحلة من التشتت الإيديولوجي والسياسي والعسكري، ربما من حظ باكستان أنها بعيدة جغرافيا ولا يمكن لطيرانها الحربي مهاجمة هذا البلد الآسيوي.
لقد أصبحت إسرائيل أكثر من أي وقت مضى أداة رئيسية في يد الغرب بشقيه، العسكري والسياسي، الذي لا يريد أن يكون الحزام الجنوبي للبحر المتوسط من المغرب حتى باكستان مزدهرا وقويا ويمتلك مستقبلا اقتصاديا وأمنيا.
وكذلك أصبحت أداة في يد الغرب الديني بشتى فرقه ومذاهبه بين الكنيسة، التي لا تريد تكتلا إسلاميا تستعيد معه حقبة القرون الوسطى، عندما كانت الحضارة الإسلامية منارة وأوروبا ظلاما، ثم الجماعة المسيحية التي تؤمن بعودة المسيح المخلص من خلال سيطرة اليهود على الشرق الأوسط، ولعبهم دور مفجر الحرب الدينية الكبرى. هذه الجماعة التي لها تأثير كبير على صنع القرار الأمريكي، وترى في كل دولة عربية وإسلامية، وإن كان حكامها ليبراليين أو ملحدين خطرا يجب، ليس فقط احتواؤها وإنما إذلالها.
في خلاصة أخرى، لم يعد النقاش الغربي حول إيران مقتصرًا على مشروعها النووي، بل انتقل، إلى ضرورة تقييد برنامجها الصاروخي. وهي رسالة واضحة مفادها السيطرة على القدرة الصناعية الحربية لدول الجنوب وخاصة الإسلامية منها، حيث لا يجب أن تمتلك أسلحة متطورة تهدد بها مصالح الغرب أو مجرد تحقيق نوع من الردع النسبي ضد الاعتداءات، حتى لا تساهم في صنع القرار العالمي.
المعادلة صريحة من خلال التطورات الجارية في العلاقة بين الشرق والغرب وهي أنه: لا يُسمح لأي دولة جنوبية خاصة مسلمة امتلاك أسلحة متطورة قد تهدد المصالح الغربية أو تفرض نفسها شريكًا في صناعة القرار العالمي.
وعلى ضوء هذا، يتحوّل الأمن القومي لهذه الدول إلى ورقة يتحكم فيها الغرب، يُلوّح بها في كل المفاوضات، كما يقايض بها السيادة مقابل «الحماية» والحصول على الامتيازات الاقتصادية.
الرسالة الأعمق من كل ذلك هي أن الغرب يريد من الدول الإسلامية وخاصة إيران وتركيا وباكستان ألا تتجاوز عتبة تقنية عسكرية محددة حتى لا تشكل خطرا.
وهكذا، النموذج الإيراني اليوم ليس سوى حلقة أخرى ضمن مسلسل طويل. الغرب يتحيّن الفرصة لممارسة الضغوط نفسها على تركيا، التي طورت صناعة طائرات مسيّرة مقلقة، وربما تشفع لها مؤقتا عضويتها في الحلف الأطلسي، وعلى إسلام آباد، التي ما زال امتلاكها للسلاح النووي يثير التوجّس في العواصم الغربية التي قد تنتهز أي فرصة لضربها بدعم من الهند.
دائما في إطار ما كشفته هذه الحرب هو استمرار الغرب ككتلة موحدة برفقة إسرائيل في شن الحروب الكبرى، وخاصة في الشرق الأوسط، وتواصل الغرب في ضمان أمن الكيان. وعليه، تأتي هذه الحرب الجديدة لتفرض سؤالا جوهريا كذلك وهو هل يمكن لإسرائيل خوض الحرب بمفردها في مواجهة حركة أو دولة في الشرق الأوسط؟ اعتادت أصوات تبجيل القوة الإسرائيلية، ولكنهم تناسوا أنه في مواجهة حزب الله وحركة حماس، احتاجت إسرائيل لدعم غربي لا مشروط من السلاح والدعم الاستخباراتي. وكما يحدث الآن في المواجهة مع إيران: هل كانت إسرائيل، رغم تفوقها الجوي، ستصمد في حرب طويلة بدون سند عسكري غربي؟ الجواب لا. اعتدنا الحديث عن حروب إسرائيل والقوى المجاورة، سواء دول أو حركات، والواقع يجب أن نتحدث عن مواجهة الغرب لهذه الدول والقوى عبر إسرائيل.
مقابل هذا، أبانت روسيا والصين عن موقف يمكن اعتباره محتشما ومحدود التأثير، وهما البلدان اللذان وقعا مع طهران اتفاقيات استراتيجية بما فيها التعاون العسكري.
تدرك بكين وموسكو استهداف الغرب لإيران، وتدركان عدم توفر إيران على أنظمة دفاع جوي متقدمة، ورغم هذا، لم يبادر البلدان لتزويد القوات الإيرانية بأنظمة مثل إس 400 في الحالة الروسية مثلا.
يطرح هذا الواقع تساؤلًا جوهريًا: إلى أي مدى يمكن التعويل على روسيا وبكين كحليفين في أوقات الأزمات؟ فالتجارب السابقة تُظهر أن الدول التي اعتمدت بشكل كبير على دعم البلدين، ولا سيما روسيا التي كانت تدور دول في فلكها، انتهى بها المطاف إما إلى الهزيمة أو إلى التفكك، ما يعزز الشكوك حول مدى جدّية التزام موسكو وبكين تجاه حلفائهما، خاصة عندما تشتدّ الضغوط وتتطلب المواقف تدخلًا حاسمًا.
ويزداد التساؤل بحكم أن روسيا تبنت ومنذ العقد الماضي الدفاع عن الدول الحليفة والصديقة في عقيدتها الحربية. هذا التخاذل هو الذي جعل قائد الثورة الإيرانية علي خامنئي يدعو الى مطالبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 23 الشهر الجاري لدعم أكبر.
في غضون ذلك، تأتي التطورات الإيرانية لتؤكد أن الموضوع النووي هو مظهر من مظاهر صراع الحضارات، لقد قرر الغرب أن يعرقل حصول أي دولة إسلامية على هذه الطاقة وإن تطلب الأمر الحرب، وهي الحرب التي تجري الآن.
القدس العربي