لم أصدق أن بيروت التي كنت أتخيلها انتهتْ إلا ظُهر الأحد الماضي؛ حين قرأتُ نبأ رحيل إلياس خوري على فيسبوك. حينها أدركتُ فقط أن علاقتي الشخصية ببيروت التي لم أزرها يوما لم تكن أكثر من «نوستالجيا ثقافية». هكذا تندثر بيروت المتخيلة التي اكتشفتها لغة عبر الأدب؛ وهكذا تغيب معالمها بغياب أبرز معمارييها اللغويين في ذاكرتي.
غاب إلياس خوري في توقيت خطر وقاسٍ من عمر المدينة. فلم يكد مشهد رحيله يكتمل حتى دخل لبنان بعد يومين مرحلة جديدة من الحرب، إذ أعلن الإسرائيليون فعليا عن بداية حروب الخيال العلمي مع اللبنانيين، حين فجروا أجهزة البيجر واللاسلكي في أنحاء متفرقة من لبنان، ولم تتوقف تهديداتهم عن إعادة بلد الأرز إلى العصر الحجري.
بعد كارثة المرفأ المروعة في 4 أغسطس 2020، شعر إلياس خوري بموت مدينته كما لم يشعر من قبل طيلةَ حياته فيها. موتها البطيء والثقيل بدا له أشبه بموت اللغة؛ فموت المدينة يمحو حياة سكانها كما تمحو اللغة بموتها ذاكرة من يتحدث بها، كان عليَّ إذن أن أصدق حقيقة الانهيار قبل سنوات. كان عليَّ أن أصدق بأن «بيروت مدينة العالم» لم تعد موجودة بعد انفجار مرفئها الذي منحها الدور والوجاهة حين قرر إبراهيم باشا تطويره في القرن التاسع عشر، وربما كان علي أن أصدق انهيار بيروت المتخيلة قبل الكارثة بسنوات، حينما تصاعدتْ شكوى سكانها من رائحة النفايات، لكنني آثرتُ تأجيل الحقيقة لأن إلياس خوري ما زال يكتب مقاله بانتظام في «القدس العربي». استمراره بالكتابة، كتابة الحاضر كما يقول، كان كافيا بالنسبة لي حتى أشعر بأن بيروت زمنٌ مطلق يقاوم فناءه، مهما تخلَّف المكان عن مواكبة الأحلام ومهما انهارت بُنيته.
يمكننا أن نتخيل بيروت على أنها حوار فريد بين الأدب والهندسة، أو مدينة صغيرة تتنافس على ما تبقى من مساحاتها المفتوحة أحلام المثقفين وخيالات المهندسين وطموحات رجال الأعمال والسياسيين. هنا أتذكر مشهدا بعينه لعمر أميرلاي في فيلمه «الرجل ذو النعل الذهبي»: يسلط أميرلاي عدسته «الجارحة» على رفيق الحريري وهو يتملى البحرَ والجبالَ والبيوتَ من شرفته العالية المطلة على سطوح المدينة، فيوقظه من أحلام يقظته بسؤاله: «دولة الرئيس، بيروت رح تكفيك؟» فيرد الحريري ضاحكا: «هذا سؤال ملغوم»!
بعد سنوات قليلة من انطفاء الكاميرا عن ذلك المشهد سينفجر الحريري في سيارته ببيروت. يكفي أن يقف المرء على الحفرة الهائلة التي خلَّفها الانفجار في الأرض ليدرك قوة الجريمة وإصرارها على نسف الحريري. دخلت المدينة بذلك اليوم في صدمة نفسية لم تستفق منها إلا على وقع الاغتيال التالي الذي راح ضحيته الكاتب والصحفي اللبناني سمير قصير بعد أقل من أربعة أشهر، والذي كان -للمصادفة الساخرة وحدها ربما- أحد الثلاثة الذين استعان بهم أميرلاي في فيلمه هذا برفقة إلياس خوري وفواز طرابلسي، ممن كانوا معارضين لمشروع «سوليدير» الذي تبنته حكومة الحريري لإعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف.
كانت المشاريع الكبرى للمال السياسي في بيروت تكمل محو ما تركته الحرب من دليل وعبرة. وكانت مهمة الإسمنت هي محو بصمات الجريمة وتجاوزها دون التدقيق في الماضي ومحاسبة المذنبين. لذا فقد رأى إلياس خوري ورفاقه أن إعادة إعمار المدينة وفقا لمخطط سوليدير هو محو لذاكرتها وطمر للماضي المؤلم تحت الأسمنت دون معالجته: «كانت الفكرة ألّا نسمح للحرب وقَيم الرأسمال المتوحّش التي التصقت بها، عبر اتفاق الطائف وبَعده، أن تكون مهندس مدينتنا الوحيد. صحيح أنّ الحروب هي أكبر مهندس تنظيم مدني في التاريخ، لكنّ الصحيح أيضا هو أنّ البشر يعيدون هندسة ما صنعه توحّش الحروب بنكهة البُعد الإنساني الذي يدافع عن قيَم الحياة. غير أنّ محاولتنا الفاشلة كانت النذير الأوّل لمسار الخراب الروحي والمادي الذي سيجتاح وطننا الصغير».
لطالما جعلتني بيروت المتخيلة أتساءل: هل صيتُ أدبٍ ما ومكانته وشيوعه مرهون بصيت المدينة التي يُكتب فيها أو عنها؟ ألكلِ شاعر أو كاتبٍ مهم مدينة مهمة ينتمي نصه إليها؟ بتأمل عابر في تاريخ الأدب لا بد أن تستوقفنا حالات مدهشة وعظيمة لتقاطع سِير المدن بسِير أدبائها: نتذكر حلبَ أبي الطيب المتنبي وإسكندريةَ قسطنطين كفافيس وغرناطة لوركا وقاهرةَ نجيب محفوظ... أما بيروت فقد كانت الاستثناء في جغرافيا الأدب العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، عجز سياسي يقابله تحقق ثقافي وانفتاح لا نظير له في العالم العربي. كان صغار الأدباء غير المتحققين والهاربين من القمع السياسي في بلدانهم يأتون إلى بيروت بحثا عن هامش للكتابة في صحيفة من صحفها، حالمين بأن يصبحوا نجوما كبارا، فقط لأنهم يكتبون من بيروت، وكأن المدينة قد أصبحت خِتم اعتراف أو علامة تجارية في تاريخ الأدب العربي المعاصر.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلیاس خوری
إقرأ أيضاً:
محافظ أسيوط يقرر تخصيص طابق كامل بالوحدة المحلية بأولاد إلياس لإقامة قصر ثقافة بالقرية
قرر اللواء هشام أبو النصر، محافظ أسيوط تخصيص طابق كامل بمبنى الوحدة المحلية لقرية أولاد إلياس التابعة لمركز صدفا ليكون مقرًا دائمًا لقصر ثقافة يخدم أهالي القرية والمناطق المجاورة، في خطوة تهدف إلى تعزيز النشاط الثقافي والفني بالمناطق النائية
وجاء ذلك خلال مشاركة المحافظ في فعاليات الحفل الثقافي الذي نظمته جمعية عالخير نتعاون بالتعاون مع إقليم وسط الصعيد الثقافي ضمن أنشطة المسرح المتنقل والقافلة الثقافية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة والتي تجوب القرى المحرومة لتقديم عروض تثقيفية وفنية متنوعة.
وحضر الحفل الدكتور مينا عماد نائب المحافظ وعيون إبراهيم رئيس مركز ومدينة صدفا والدكتور جمال محمد عبدالناصر مدير عام إقليم وسط الصعيد الثقافي وعلي سيد وكيل وزارة العمل بأسيوط والشيماء عبدالمعطي وكيل مديرية التضامن الاجتماعي بأسيوط وخالد خليل المدير المالي والإداري لفرع ثقافة أسيوط، وعبير عبدالمطب رئيس مجلس إدارة جمعية عالخير نتعاون والصحفية بمؤسسة أخبار اليوم والنائب مصطفى محمد سالمان عضو مجلس الشيوخ والنائب الحسيني عيسى جلال عضو مجلس النواب والعديد من القيادات التنفيذية والشعبية وأهالي القرية
وبدأ الحفل بالسلام الجمهوري ثم كلمات الترحيب من عبير عبد المطلب رئيس مجلس إدارة الجمعية والدكتور جمال عبدالناصر مدير عام إقليم وسط الصعيد الثقافي وتضمن الحفل عددًا من الفقرات الفنية التي لاقت استحسان الحضور، من بينها فقرة للإنشاد الديني قدمتها فرقة قصر ثقافة صدفا، حيث أبدى المحافظ إعجابه بالأداء، ووجّه بضم الفرقة لتكون ضمن الأنشطة الرسمية لقصر ثقافة أولاد إلياس الجديد.
وكما شهد الحفل عرضًا مميزًا لفرقة أسيوط للفنون الشعبية بقيادة الفنان محمود سنة، والتي قدمت لوحات تراثية تعكس الفلكلور الشعبي لمحافظة أسيوط، وسط تفاعل كبير من أهالي القرية.
وخلال كلمته محافظ أسيوط نقل تحيات الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية لأهالي القرية مؤكدًا أهمية نشر الوعي الثقافي والفني في القرى والنجوع، موضحًا أن الدولة تولي اهتمامًا كبيرًا بتنمية الوعي وتنشيط الحراك الثقافي، خاصة في المناطق الريفية مشيدًا بدور المجتمع المدني والجهات الثقافية في تقديم الدعم والمشاركة في تلك المبادرات الهادفة.
وأشار اللواء هشام أبوالنصر إلى أن المحافظة لن تدخر جهدًا في توفير البنية التحتية والدعم اللازم لتمكين هذه الأنشطة من الاستمرار، بما يسهم في تنمية الإنسان وبناء وعيه الوطني والثقافي.