التوبة في القرآن الكريم.. فرصة للتغيير وتحقيق السمو الروحي
تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT
إنه من رحمة الله تعالى على عباده أن يسّر لهم أبواب التوبة وطلب المغفرة، حتى يعود العاصي إلى ربه ويتوب من ذنوبه مهما كانت عظيمة، فينبغي على الإنسان العاقل أن ينظر إلى ذنوبه وأخطائه التي حددتها الشريعة الإسلامية، وأن يحاسب نفسه دائماً على جميع أقواله وأفعاله وأحواله، وألّا يستهين بالمعاصي والذنوب التي تقع منه.
وقد ذكر الله تعالى التوبة وحضّ عليها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، فقال سبحانه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 54]، ووعدهم بقبولها منهم مهما عظُمت الذنوب: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]. وربط المواظبة على التوبة إلى الله بالفلاح في الدارين، فقال سبحانه: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
ولذلك جعل الله تعالى باب التوبة مفتوحاً للتوابين حتى قيام الساعة، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يَبسُط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويسبط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)). بل إن الله تعالى يقبل توبة العبد العبد مهما تكرر ذنبه ومهما عظم، وذلك بشرط إخلاصه في التوبة وصدقه في عدم الرجوع إلى المعصية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا – أو أذنب ذنبًا – فقال: رب أذنبت أو أصبت آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفرُ الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا وربما، قال: أصاب ذنبًا قال: رب أصبت، أو قال: أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: أعلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرتُ لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء).
وإن الله تعالى حرّم اليأس من رحمته ومغفرته، وبشّر عباده بقبوله للتوبة مهما عظمت الذنوب وحتى إن ارتكب عبده الكبائر، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده وهو التواب الرحيم، قال سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
وللتوبة فضل عظيم ومحاسن كثيرة، فهي فوق كونها مطهّرةً للذنوب والسيئات، فإنها تبدّل السيئات إلى حسنات وترفع درجة المؤمن عند ربه، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]، وهي الطريق لنيل مرضاة الله تعالى ومحبته، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
بل إن الله تعالى يفرح بتوبة عباده التائبين، وقد ورد ذلك في حديثٍ يروي الأفئدة ويزرع في قلوب المؤمنين التفاؤل والأمل الكبير برحمة الله، ويدفعهم للإسراع إلى التوبة وطلب المغفرة في كل حين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله معلّقاً على هذا الحديث في كتابه مدارج السالكين: (وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ .. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا؛ أَلْقَاهُ فِي ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، وَيَكْفِي بِهِ عِبَادَهُ شَرَّهُ، وَيُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الذَّنْبُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الدَّوَاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدَّاءَ الْعُضَالَ).
إن من يسمع هذه البشائر والفضائل التي تخصّ التوبة النصوح والخالصة لله تعالى حريٌّ به أن يسارع لطلبها، فيقلع عن ذنوبه ومعاصيه ويجاهد نفسه على الإقلاع عنها، كما ينبغي عليه الإكثار من الطاعات والعبادات بأداء الفروض ومختلف النوافل، لأن مجرد التوبة دون العمل المترتب عليها لا يكفي لتحقيق شروط التوبة المنشودة والتي تستجلب رضا الله تعالى ومغفرته. فقد اقترنت التوبة بأداء العمل الصالح في الكثير من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146]. وقوله سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]. فالحمدلله الذي شرفنا بالعبودية ومنَّ علينا بالهداية ونعمة الإسلام، وأكرمنا بأداء العبادات والطاعات، ورحمنا بأن فتح لنا باب التوبة لكي نتوب إليه سبحانه من ذنوبنا وسيئاتنا التي لا تحصى، إنه هو التواب الرحيم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: قال سبحانه الله تعالى إن الله
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف يطلق النسخة الـ32 من المسابقة العالمية للقرآن الكريم
يعقد الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، بعد غدٍ الاثنين، مؤتمرًا صحفيًا للإعلان عن إطلاق النسخة الثانية والثلاثين من المسابقة العالمية للقرآن الكريم، وذلك في مسجد مصر الكبير بالعاصمة الإدارية الجديدة، في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا.
ويتضمن المؤتمر كلمة لوزير الأوقاف، وتلاوة قرآنية يقدمها أحد متسابقي برنامج «دولة التلاوة»، إلى جانب الكشف عن تفاصيل الدورة الجديدة من المسابقة، بما يشمل فروعها، وجوائزها، وشعارها الجديد لهذا العام.
مشروع دولة التلاوة
أكد الدكتور أسامة رسلان، المتحدث الرسمي باسم وزارة الأوقاف، أن مشروع «دولة التلاوة» يمثل مبادرة استثنائية تعبر عن الهوية الثقافية المصرية، وتبرز أحد أهم عناصر قوتها الناعمة، موضحًا أن البرنامج احتاج إلى مجهود كبير ليخرج بصورة مصرية خالصة على مستوى الفكرة والتنفيذ والمحتوى.
وأشار رسلان إلى أن المشروع يعمل على إحياء جماليات الصوت الحسن في تلاوة القرآن، وتقديم نموذج فريد للعالم لم يشهد مثله من قبل، مؤكدًا المقولة الشهيرة: «القرآن نزل في الحجاز وقُرئ في مصر»، للدلالة على ريادة مصر في هذا الفن عبر العصور.
وأضاف أن ملف التلاوة حظي باهتمام كبير على مدار سنوات من العمل والتطوير، حتى اكتملت ملامح المشروع وترسخت قواعده، وأصبحت حلقاته الأربع الأولى تحصد نسب مشاهدة ضخمة وصلت إلى مئات الملايين.
انتشار واسع وتفاعل جماهيري كبير
بيّن المتحدث الرسمي أن برنامج «دولة التلاوة» انطلق منذ أربعة أشهر في جميع محافظات الجمهورية، موضحًا أنه سيتم الإعلان عن الفائزين وتكريم أوائل المشاركين في أولى ليالي شهر رمضان المبارك.
وأكد أن النسخة الحالية تمثل الموسم الأول للمسابقة، على أن تتبعها مواسم أخرى في الأعوام المقبلة، مع الالتزام بعدم ضم مشاركين جدد في الوقت الحالي لتحقيق العدالة بين المتسابقين الحاليين.
كما أوضح أن لجنة التحكيم تتكون من ثلاثة من كبار المتخصصين في فنون التلاوة والتجويد، ولهم صلاحيات كاملة في منح الدرجات، بينما يشارك ضيوف شرف من رموز بارزة داخل مصر وخارجها لإثراء التجربة وتأكيد قيمتها.
رفع الوعي بالمقامات وتقدير الفن المصري الأصيل
أشار رسلان إلى أن «دولة التلاوة» نجح في جمع أفراد الأسرة المصرية حول محتوى هادف، وفتح نقاشات واسعة حول المقامات الموسيقية ومعايير الذوق الفني في التلاوة، ما أسهم في رفع وعي الجمهور وقدرته على التمييز بين مستويات الأداء.
واعتبر أن هذا التفاعل الواسع دليل واضح على حيوية المجتمع المصري وقدرته على التواصل الإيجابي مع البرامج التي تقدم قيمة حقيقية.