"وول ستريت": المسؤولون الأمريكيون يتسابقون لفهم مدى خطورة الاختراق الصيني لشركات الاتصالات الأمريكية
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يتسابق المسؤولون الأمريكيون لفهم النطاق الكامل للاختراق المرتبط بالصين الذي استهدف مزودي الإنترنت الرئيسيين في الولايات المتحدة، حيث تتزايد المخاوف من قبل أعضاء الكونجرس من أن هذا الاختراق قد يمثل فشلًا كارثيًا في مواجهة التجسس المضاد.
وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية - في تقرير نشرته اليوم الجمعة - أن السلطات الفيدرالية والمحققين في مجال الأمن السيبراني يحققون في اختراقات لشبكات الجوال: فيرايزون وأيه تي أند تي ولومن تكنولوجيز.
ويُعتقد أن مجموعة هاكرز خفية تُعرف باسم "سولت تايفون" مرتبطة بالاستخبارات الصينية هي المسؤولة عن هذه الاختراقات. ومن المحتمل أن تكون هذه الاختراقات قد مكنت القراصنة من الوصول إلى المعلومات من الأنظمة التي تستخدمها الحكومة الفيدرالية لطلبات التنصت القانونية.
وتشمل المخاوف أن القراصنة تمكنوا فعليًا من التجسس على جهود الحكومة الأمريكية لمراقبة التهديدات الصينية، بما في ذلك تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي.
وأرسلت لجنة الاختيار الخاصة بالصين في مجلس النواب رسائل - أمس - تطلب من الشركات الثلاث توضيح متى أصبحوا على علم بالاختراقات وما التدابير التي يتخذونها لحماية أنظمة التنصت الخاصة بهم من الهجمات.
ورفض المتحدثون باسم الشركات، التعليق على الهجوم. ونفى متحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن مسؤولية بكين عن هذه الاختراقات المزعومة.
ونقلت "وول ستريت" فحوى الرسائل - التي أرسلها النائب الجمهوري جون مولنار ورجا كريشنا مورثي، الديمقراطي البارز في اللجنة - بأن أنباء هجوم "سولت تايفون"؛ توضح أن الولايات المتحدة تواجه خصمًا سيبرانيًا لم يسبق من قبل.. وعواقب أي اختراق من هذا النوع؛ ستكون صعبة".
وما زال القراصنة لديهم إمكانية الوصول إلى بعض أجزاء من الشبكات الأمريكية خلال الأسبوع الماضي، وتم إخطار المزيد من الشركات بأن شبكاتها قد تعرضت للاختراق، وفقًا لمصادر مطلعة على المسألة. ولا يزال المحققون غير متأكدين من ما كان يسعى القراصنة لتحقيقه بالضبط.
وفي رسائل منفصلة أُرسلت - أيضًا أمس - إلى الشركات، ضغطت كاثي مك مورس رودجرز، رئيسة لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب، وناشطون آخرون في الكونغرس؛ للحصول على إجابات وطلبوا إحاطات
بحلول نهاية الأسبوع المقبل.
وقال السيناتور رون وايدن، الديمقراطي في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ وصوت بارز في الكونغرس في قضايا الأمن السيبراني - في رسالته الخاصة اليوم /الجمعة/ إلى وزارة العدل ولجنة الاتصالات الفيدرالية - إن الشركات مسؤولة عن فشلها في الأمن السيبراني، لكن "الحكومة تتحمل الكثير من اللوم".
ولطالما تجاهلت الوكالات التحذيرات بشأن الثغرات في الأنظمة المطلوبة للامتثال لطلبات المراقبة القانونية، على حد قول وايدن.
ويتبع الهجوم المزعوم من القراصنة، سلسلة من الثغرات الأمنية في قطاع الاتصالات.. ففي يوليو، كشفت شركة أيه تي أند تي أن هاكرًا سرق بيانات المكالمات والرسائل النصية التي تغطي نشاط جميع عملاء الهاتف المحمول تقريبًا على مدار ستة أشهر عام 2022. وأكدت الشركة أن النظام المخترق لم يُستخدم لأي غرض إنفاذ قانوني.
وبعد ذلك الهجوم، طلب وايدن إحاطة من وزارة العدل بشأن الخطوات التي اتخذتها الوزارة لضمان حماية الشركة للخدمات الحساسة التي تقدمها للحكومة. لكن وزارة العدل تجاهلت طلب وايدن.
وتغيرت وجهة نظر واشنطن بشأن اختراق القراصنة "سولت تايفون" منذ الكشف عنه علنًا قبل أسبوعين، عندما لم يكن العديد من كبار المسؤولين في إدارة بايدن - والشركات نفسها في بعض الحالات - على دراية بالاختراقات.
وتركزت اختراقات أخرى حديثة مرتبطة بالصين على الحفاظ على وصول هادئ؛ لكنه مستمر إلى البنية التحتية الحيوية بدءًا من المطارات إلى مزودي الطاقة وأنظمة معالجة المياه.
وخلال السنوات الأخيرة، كثفت الحكومة الفيدرالية تنسيقها مع الشركاء في القطاع الخاص - مثل مايكروسوفت وآخرين - ما سهل الكشف عن عمليات الاختراق الأجنبية؛ وعزز إصلاحات الثغرات البرمجية.
لكن لم يكن هذا هو الحال هذه المرة؛ فلا يزال عدد الأشخاص الذين يتم إبلاغهم بالاختراقات صغيرًا في كل من الحكومة والشركات التي تستجيب لها بسبب المخاوف من التسريبات وطبيعة هذه الاختراقات الحساسة، وفقًا لمسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين.
ولا يزال غير واضح ما إذا كانت برامج المراقبة الأمريكية الأخرى قد استُهدفت من قبل القراصنة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: المسؤولون الأمريكيون اختراق الصين الإنترنت الولايات المتحدة
إقرأ أيضاً:
على من تُطلق الدولة الرصاص؟
"إذا كنت تريد السلام، فعليك أن تفهم الحرب".
في الظاهر، تبدو الحرب شأنا عسكريا صرفا يدور في فلك الجيوش والأسلحة والمناورات. لكن حين نُمعن النظر، نجد أن الحرب أعمق من أن تُختزل في مشهد اشتباك أو خريطة معركة. إنها لحظة فريدة من التاريخ البشري، تكشف التقاء الغريزة بالعقل، والسياسة بالقوة، والخوف بالأمل.
"دراسات الحرب" ليست احتفاءً بالحرب، بل مُساءلة لها، إذ هي محاولة لفهم المنطق الذي يقود الدول والجماعات إلى النزاع حين تضيق بهم سبل التفاهم. يتتبع هذا الحقلُ تطور أنماط القتال، وسلوك الجيوش، وسرديات المعارك، لكنه لا يتوقف هناك، بل يتعمق في تحليل الأسباب البنيوية والسياسية التي تجعل الحرب خيارا قابلا للتفكير، ومشروعا مفضلا في أعين صانعي القرار.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2طبول الحرب حول تايوان فهل تستعد الصين فعلا للمواجهة الأخطر؟list 2 of 2جيوتيان الصينية.. أول حاملة مسيّرات طائرة في التاريخend of listكما أن هذا الحقل لا يقف عند التكتيك والعمليات، بل يغوص في العلاقة بين الدفاع والسياسة، بين الإستراتيجية والمجتمع، بين العقيدة العسكرية وصياغة القرار.
لهذا، حين يصف باحث نفسه بأنه متخصص في "دراسات الحرب"، فهو لا يدّعي بطولة ميدانية، بل يعلن انشغاله بفهم أكثر الظواهر البشرية فتكا وتعقيدا. ذلك أن الحرب كما يقول الإغريق "هي أمُّ الأشياء"، وما دراستها إلا محاولة لفهم كيف يولد النظام من رحم الفوضى، وكيف تشتعل النيران حين تعجز الكلمات.
إعلانحين ننظر إلى الحرب من عدسة السياسة، لا تصبح مجرد اشتباك بين جيوش، بل نجدها ممارسة إستراتيجية معقدة تحكمها حسابات القوة والمصالح. وهنا تنشأ "دراسات الحرب" لتكون مجالا أكاديميا حديثا يحاول أن يفكك منطق القوة، ويكشف كيف تفكر الدول في استخدام العنف لتحقيق أهدافها، أو تجنبه إن استطاعت.
نستعرض الجذور التاريخية والنظرية لدراسات الحرب، ونحلل كيف تطورت لتصبح مجالًا متعدد التخصصات يربط بين التاريخ، والعلوم السياسية، والإستراتيجية العسكرية، وعلم الاجتماع، والجغرافيا السياسية، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والأنثروبولوجيا، وصولا إلى الفلسفة، في محاولة لفهم العنف المنظم وتوجيهه. كما سنناقش التحديات المفاهيمية والمؤسسية التي تواجهها دراسات الحرب، خاصة في ظل التغير السريع في طبيعة الصراع.
انبثقت دراسات الحرب من دراسات الدفاع التي نشأت بالمعنى المؤسسي في القرن العشرين، بالتزامن مع التحولات الكبرى التي عرفها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الأولى. وسعت في المقام الأول إلى فهم القوة العسكرية وطرق بنائها، ومدى ارتباط تغير سياسات الدفاع بعوامل محفزة مثل التغييرات في القوة والإستراتيجية والتكنولوجيا، وذلك لتجنب إهدار الأموال على مشاريع وقوات غير ذات صلة بالتحديات التي تجابهها البلاد.
يعود تأسيس أول مؤسسة مخصصة لحقل الدراسات الدفاعية إلى كلية الدفاع الإمبراطورية البريطانية، ففي عام 1848 تأسس قسم للعلوم العسكرية في الكلية الملكية "كينجز كوليدج" في لندن. لم يكن الهدف مجرد تعليم الضباط كيفية القتال، بل بغرض فهم أعمق لطبيعة الحرب ودورها في تشكيل الدولة.
إعلانومع تطور الفكر الإستراتيجي أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، برزت الحاجة إلى مقاربات أكاديمية شاملة تجمع بين التاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية. في هذا السياق، برز مصطلح "دراسات الحرب" ليشير إلى مجال فكري يهتم بتحليل الحرب بوصفها ظاهرة سياسية واجتماعية، لا حالة استثنائية. وتحول قسم الدراسات العسكرية إلى قسم دراسات الحرب في الكلية الملكية عام 1943 لكنه جُمِّد بعد خمس سنوات.
وقد مثَّل المؤرخ البريطاني مايكل هوارد (1922 – 2019) نقطة تحول حاسمة في هذا المجال، إذ عمل محاضرًا في الدراسات العسكرية، لكنه لم يقتصر على دراسة الحرب في التاريخ الوسيط والحديث، بل وسع اهتماماته لتشمل الردع النووي، وأسس المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS) عام 1958، الذي لا يزال يمثل جوهرة تاج مراكز الدراسات البريطانية حتى اليوم.
تمكن هوارد عام 1962، من إعادة تأسيس قسم دراسات الحرب، ووضع بذلك الأساس لدراسات أكاديمية حديثة تتعامل مع الحرب باعتبارها ظاهرة معقدة متعددة الأبعاد، تتجاوز الجوانب العملياتية والتكتيكية. وكان يرى أن فهم الحرب يتطلب دراسة سياقها السياسي والاجتماعي والثقافي، لا الاكتفاء بتحليل المعارك.
ومن أبرز إسهاماته النظرية الدفع بفكرة أن التاريخ العسكري لا ينبغي أن يكون حبيس الميدان، بل يجب أن يُربط بتفاعلاته مع البنية السياسية للدولة، والاقتصاد، وبنية السلطة، وحتى الديناميات الاجتماعية. بعبارة أخرى، جعل دراسة الحرب جزءًا من دراسة المجتمعات.
وقد كان هوارد من أوائل من دعوا إلى أن تكون دراسة الحرب جزءًا من التعليم المدني، لا العسكري فقط. فالمعرفة العسكرية، حسب رأيه، يجب ألا تُترك للجنرالات وحدهم. وعلى ضوء هذه الرؤية، طوّر منهجًا متعدد التخصصات يجمع بين العلوم السياسية والتاريخ والفكر الإستراتيجي.
إعلانكما أسهم هوارد في بلورة المفهوم العملي لـ"الإستراتيجية الكبرى"، أي العلاقة بين الوسائل العسكرية والغايات السياسية على المستوى الوطني الشامل. ودعا في هذا السياق إلى ضرورة أن تكون لدى الدول سياسة دفاعية شفافة وعلنية تخضع للنقاش البرلماني والرقابة الديمقراطية. وشارك هوارد في ترجمة وتحرير أعمال المنظّر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، خصوصًا كتابه الشهير "في الحرب" وهي إحدى أكثر الترجمات الإنجليزية تداولًا في الأوساط الأكاديمية والعسكرية، وهي ترجمة امتازت بالدقة والوضوح، وبتقديم شروحات سياقية تساعد القارئ المعاصر على فهم تعقيدات كلاوزفيتز.
وقد أضاف هوارد في مقدمته للترجمة تحليلًا نقديًّا لأفكار كلاوزفيتز، معتبرًا أن فكره لا يزال مرجعًا لا غنى عنه لفهم الحرب بوصفها ظاهرة سياسية. وأكد أن سوء فهم كلاوزفيتز لا يقل خطورة عن تجاهله، ولهذا سعى إلى أن تكون ترجمته جسرًا بين النظرية الكلاسيكية والتطبيقات المعاصرة.
تأثير مايكل هوارد امتد عالميًّا؛ إذ ألهمت رؤيته تأسيس أقسام مشابهة في جامعات كبرى مثل جامعتي كولومبيا وبوتسدام، وظهرت على إثرها موجة من الدراسات التي تناولت الحرب من منظور نقدي وإنساني، تسعى لفهم دوافعها ونتائجها، لا مجرد كيفية إدارتها.
إسهام هوارد كان إذًا ثورة مفاهيمية في حقل دراسات الحرب: من ساحة المعركة إلى فضاء الدولة والمجتمع، من التكتيك إلى الإستراتيجية، ومن الخبرة العسكرية إلى المعرفة العامة. ولعل في هذا التحول ما يبرر وصفه بأنه الأب المؤسس لدراسات الحرب الحديثة.
ثانيًا: الحرب كسياسة… والسياسة كحربالقول بأن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى وفق كلاوزفيتز لم يعد اليوم مجرد مقولة فلسفية، بل أصبح أرضية تحليلية تنطلق منها دراسات الحرب. فهو مجال لا يُعنى فقط بوسائل العنف، بل بدوافعه، وسياقاته، وآثاره.
تُعرّف السياسة الدفاعية في أدبيات دراسات الحرب بأنها الوثيقة التي تحدد أهداف الدولة العسكرية، وطبيعة التحديات الأمنية، والوسائل الممكنة للتعامل معها. أي أنها ليست مجرد خطة تسلح، بل إعلان نيات إستراتيجي.
إعلانالسياسات الدفاعية ليست تقنية، بل سياسية بامتياز؛ إذ تعكس تصورات النخب الحاكمة حول طبيعة التهديدات، والأولويات، وقدرة الدولة على الفعل. من هنا، فإن دراسة السياسة الدفاعية تُعد مدخلًا مركزيًّا لفهم علاقة الجيوش بالأنظمة السياسية، ومكانة القوات المسلحة في النظام العام.
وتكتسب هذه السياسة الدفاعية أهميتها من عدة وظائف تؤديها هي: توجيه المؤسسة العسكرية، وضبط العلاقة بين المدنيين والعسكريين، وإعلام الجمهور، وإرسال رسائل إلى الخارج. أي أنها ليست وثيقة داخلية فنية، بل أداة اتصال إستراتيجي، ورسالة سياسية موجهة إلى الداخل والخارج.
لكن الخطورة تكمن في غيابها أو ضعفها؛ إذ يؤدي ذلك إلى تشرذم الجهود العسكرية، وإهدار الموارد، وغياب الرؤية السياسية، وهو ما عرفته دول كثيرة عجزت عن مواءمة قدراتها مع مصالحها. وفي كثير من الحالات، تتحول السياسات الدفاعية إلى مجرد روتين بيروقراطي فارغ، لا يعكس الواقع الأمني ولا يوجهه.
فعلى سبيل المثال ظل الجيش الألماني يعاني لسنوات من نقص الجاهزية والتمويل رغم ارتفاع التهديدات شرق أوروبا، وبقيت عقيدته متمركزة حول مهام حفظ السلام الدولية بدل الاستجابة لتحديات الجوار المباشر. ولم تبدأ المراجعة إلا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. كذلك تعرضت فرنسا لانتقادات حادة بعد أن أثبتت عملياتها في منطقة الساحل محدودية الإستراتيجية المعلنة، التي لم تقترن بسياسة مدنية موازية، مما أدى إلى فشل وانسحاب غير منظم.
ثالثًا: تعدد التخصصات وجدلية المدني والعسكريالحرب ليست نشاطًا عسكريًّا فقط، بل ظاهرة اجتماعية كاملة، لذلك لا يمكن فهمها دون مقاربة متعددة التخصصات. فالحرب تتقاطع مع: الأنثروبولوجيا لفهم التصورات الثقافية للعنف، وعلم الاجتماع لتحليل العلاقة بين الجيوش والمجتمعات وتأثير قوة الجيش وتغوله في الحياة المدنية على طبيعة المجتمع، والاقتصاد لفهم حوافز التسلح وتأثير الحرب في التنمية، والقانون لتحليل الأطر التي تضبط استخدام القوة، والبيئة والتكنولوجيا لفهم كيف تتغير طبيعة القتال وتأثير ذلك على الطبيعة، والفلسفة والأخلاق لتقييم عدالة الحرب وحدودها.
وتسعى دراسات الحرب إلى كسر الجمود الأكاديمي بين التخصصات، لأن الحرب تعكس تداخل السياسة والثقافة والهوية، حيث إن دراسة العمليات العسكرية دون فهم البيئة الاجتماعية والسياسية التي تنطلق منها تعني إنتاج معرفة ناقصة، وربما مضللة. وتوفر هذه التعددية أيضًا أدوات لفهم ظواهر مثل الحروب الأهلية، والعنف الجماعي، أو تفكك الدول، وهي ظواهر لا تُفهم فقط من خلال توازنات القوة، بل من خلال تحولات الهوية، والهياكل الاقتصادية، وسرديات الكراهية.
إعلانمن القضايا المفصلية في دراسات الحرب العلاقة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية، إذ من المفترض أن تُوَجَّه الجيوش بقرارات جهات مدنية منتخبة، لكن التجربة أثبتت أن هذه العلاقة محفوفة بالتعقيد. ففي كثير من "الدول النامية"، تظل السياسات الدفاعية رهينة للمؤسسة العسكرية نفسها، أو تنبع من موازين قوى داخلية لا تعكس المصلحة العامة. كما أن ضعف الخبرة المدنية في مسائل الدفاع يؤدي غالبًا إلى غلبة الصوت العسكري على القرار السياسي.
وتكشف التجارب المقارنة أن وجود جهاز مدني قوي داخل وزارات الدفاع ليس ترفًا إداريًّا، بل ضرورة إستراتيجية. فمن دون كادر مدني محترف يمتلك أدوات الفهم والمساءلة، تتحول المؤسسة العسكرية إلى جهاز معزول بذاته، ينفق ويخطط دون رقابة أو مساءلة. وهذا ما قاد مصر على سبيل المثال إلى هزيمة مدوية في حرب عام 1967، عندما عملت المؤسسة العسكرية بشكل فوضوي دون رقابة، وارتكبت أخطاء فادحة دُونت فيها العديد من الكتب مثل مذكرات الفريق محمد فوزي وزير الحربية السابق، وكتاب "مذبحة الأبرياء في 5 يونيو" لوجيه أبوذكري.
رابعا: حين تتغير الحرب سريعارغم تطور السياسة الدفاعية، فإن الواقع الإستراتيجي غالبًا ما يتغير أسرع من قدرة الدولة على الاستجابة. فبينما تستغرق خطط التسلح وبناء القدرات عقودًا، قد تنقلب البيئة الأمنية في أشهر. وهو ما يجعل التخطيط الدفاعي عرضة للفجوة الزمنية بين الرؤية والتنفيذ.
مثال ذلك القرار البريطاني في عام 1998 ببناء حاملتي طائرات عقب مراجعة دفاعية أعادت توجيه القوات البريطانية بعيدًا عن التركيز على الدفاع عن أوروبا الغربية لتتجه نحو نشر القوة في أنحاء العالم الأوسع، ولكن تنفيذ القرار استغرق أكثر من 20 عامًا. وخلال هذه الفترة، تغيرت طبيعة التهديدات من جيوش نظامية إلى جماعات غير متماثلة، ومن صراع مادي إلى تهديدات سيبرانية وبيولوجية. في هذه الحالة، تحوّلت الوسائل التي تم الاستثمار فيها إلى عبء مالي وإستراتيجي بدلًا من أن تكون أداة فاعلة لمجابهة التحديات الجديدة.
إعلانالمعضلة تكمن في أن الإستراتيجيات الدفاعية توضع ضمن أطر بيروقراطية معقدة، تخضع لدوائر من المراجعة والمصالح المتداخلة. ومن ثَمّ، فإن الخروج من مأزق التباطؤ المؤسسي يتطلب بنية صنع قرار أكثر مرونة، وآليات مراجعة إستراتيجية دورية.
بعض الدول مثل فنلندا والسويد حاولت تقليص هذه الفجوة الزمنية من خلال إنشاء وحدات تفكير إستراتيجي سريعة، ترتبط مباشرة بصناع القرار السياسي، وتقوم بمحاكاة السيناريوهات الأمنية استباقيًّا. كما اعتمدت إسرائيل، منذ عقود، على ما يعرف بـ"مراكز التقييم المتعدد المصدر" لتحديث رؤيتها الدفاعية بشكل شبه فوري.
في المقابل، نجد دولًا ما زالت تعتمد على خطط دفاعية جامدة، مرتبطة بنماذج تهديدات عفا عليها الزمن، وتُهدر بذلك مليارات على تجهيزات لا تخدم سوى رمزية السلطة، دون مردود أمني واقعي. وتظهر هنا أهمية إدماج التكنولوجيا باعتبارها أداة رصد وتحديث مبكر في صناعة القرار الدفاعي، لا مجرد سلاح.
والأهم من كل ذلك أن الدول تحتاج إلى إدماج عناصر التفكير الاستشرافي في آلياتها الدفاعية، لا سيما في ظل عالم تزداد فيه هشاشة الحدود بين الأمن التقليدي والأمن المدني، وتكثر فيه التهديدات غير المتماثلة التي لا تستجيب للردع التقليدي. لذا تبرز أهمية ما يُعرف باليقظة الإستراتيجية، أي القدرة على التقاط التحولات قبل أن تتحول إلى أزمات.
خامسا: الأمن الشامل.. من حماية الحدود إلى تأمين المجتمعمن التحولات الكبرى في العقود الأخيرة أن مفهوم "الدفاع" لم يعد مقصورًا على حماية الأراضي من جيوش تقليدية، بل أصبح يشمل طيفًا واسعًا من القضايا المعقدة والمتداخلة التي قد تسفر عن أعداد ضخمة من الضحايا أكثر مما تسفر عنه الحروب، مثل: الأمن السيبراني، والتغير المناخي، والأوبئة، والهجرة غير النظامية، والتهديدات البيئية والبيولوجية.
هذه القضايا لا يمكن التعامل معها عبر أدوات عسكرية بحتة، بل تتطلب تعاونًا عابرًا للقطاعات والوزارات، وإشراك المجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، والقطاع الخاص. وهو ما أدى إلى تبني مفهوم "الأمن المتكامل"، الذي أصبح جوهر السياسات الدفاعية الحديثة في كثير من الدول الغربية.
إعلانبريطانيا على سبيل المثال، في مراجعتها الإستراتيجية المتكاملة لعام 2021، لم تكتفِ بتحديث قدراتها العسكرية، بل دمجت السياسة الدفاعية مع قضايا الأمن الرقمي والمناخ، وحددت أولويات أمنية جديدة مثل مواجهة التضليل المعلوماتي، والتدخلات الخارجية في الانتخابات، وتهديدات الذكاء الاصطناعي.
أما فرنسا، فوضعت في صلب رؤيتها الأمنية أهمية حماية المجتمع من التهديدات الداخلية الناجمة عن الهجمات السيبرانية، واستهداف البنى التحتية الحيوية، كما ركزت ألمانيا على إعادة تعريف دور الجيش في الداخل، ضمن إطار الدستور، لمواجهة الأزمات الصحية والبيئية.
وعلى الصعيد العملي، بدأت بعض الدول إنشاء وحدات مشتركة للأمن الوطني، تجمع بين العسكريين، وخبراء الصحة العامة، والتكنولوجيين، والمخططين المدنيين. إذ لم تعد الحرب مجرد مواجهة في ميدان قتال، بل معركة على البنية التحتية الرقمية، وسلسلة الإمداد الغذائي، واستقرار المجتمعات.
ومن أبرز النماذج المقارنة تجربة إستونيا، التي دمجت الأمن الرقمي في صميم سياستها الدفاعية بعد تعرضها لهجمات سيبرانية روسية عام 2007. كذلك نجحت اليابان في مواءمة سياساتها الدفاعية مع تحديات الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل، مما جعل من جيشها أداة فعالة في الإغاثة الوطنية.
في المقابل، لا تزال كثير من الدول العربية تنظر إلى الأمن من زاوية عسكرية ضيقة، مما يؤدي إلى فجوة بين التحديات الفعلية والاستجابات المؤسسية. وتكمن خطورة هذا الفصل في تحويل الجيوش إلى أدوات تقليدية في بيئة تهديدات غير تقليدية، في حين أن فشل الاستجابة قد يتحول إلى أزمات وجودية.
دراسات الحرب ليست ترفًا أكاديميًّا، بل محاولة لفهم أكثر الظواهر البشرية تدميرًا، وتوجيهها ضمن أطر سياسية مسؤولة. وهي تذكّرنا دائمًا بأن القوة العسكرية لا ينبغي أن تُترك للجنرالات وحدهم، بل يجب أن تخضع لحوار مجتمعي، وإستراتيجية سياسية، ورقابة مدنية.
إعلانوفي عالم يشهد تحولات جذرية في طبيعة الحرب، من الحرب النظامية إلى الهجينة، ومن الصراع العسكري إلى السيبراني، تزداد الحاجة إلى دراسات تفكر في الحرب لا باعتبارها أمرا حتميًّا، بل باعتبارها خيارًا سياسيًّا قد يمكن تجنبه أو إدارته.
ولعل جوهر دراسات الحرب في القرن الحادي والعشرين لا يكمن فقط في سؤال "كيف نربح الحرب؟"، بل في سؤال أكثر جوهرية: "لماذا نحارب أصلًا؟".
وعند هذه النقطة، يتقاطع الفكر الإستراتيجي مع الفلسفة الأخلاقية، مع مراعاة أن السلام بمعناه البنّاء، لا يتحقق بالتمني، بل يتطلب إعادة التفكير في ثقافة الأمن، ونمط إعداد الجيوش، وغايات الدولة. من هنا، تكتسب دراسات الحرب أهمية مزدوجة: فهي تمنح الدولة أدوات الفعل، وتمنحها أيضًا معايير التقييم والمساءلة.
إن إعادة التوازن بين منطق القوة ومنطق السياسة، وبين متطلبات الردع ومتطلبات الشرعية، هو التحدي الأخلاقي والمعرفي الذي تضعه دراسات الحرب أمام المجتمعات المعاصرة. فليست العبرة في امتلاك السلاح، بل في امتلاك الرؤية التي تحدد متى ولماذا نستخدمه.