الذكاء الاصطناعي (رؤية المستقبل)
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
منذ بداية الحياة على كوكب الأرض، عمل الإنسان على عمارتها وتعلم العلوم ونقل المعرفة ونشرها بين مختلف الأجناس والأعراق. وفي كل عصر تنبثق علوم جديدة تذلل صعوبات الحياة وتسهل عيش البشرية، فعلى سبيل المثال، كانت الزراعة والصيد وتربية المواشي في الماضي هي أساس الحياة. ومع مرور الوقت ونمو العلم والتطور الفكري، ظهرت الاختراعات التي تسهم بعد توفيق الله عز وجل في تحسين جودة الحياة.
مع تقدم الحياة، بدأت البشرية بالتطور والتحضر، وانتقلت إلى الحياة المدنية الحديثة، مما أدى إلى ازدهار العلوم والأبحاث والإبداع والابتكارات، ولا سيما في مجال العلوم التقنية والصناعية التي ساعدت البشر في بناء الحضارة.
في القرن الحادي والعشرين، برز التقدم التقني والاختراعات التي كان لها عظيم الأثر في تحسين جودة الحياة، وبدأ التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو فرع من فروع علوم الحاسوب يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري. يشمل ذلك القدرة على التعلم، التفكير، الفهم، التعامل مع اللغة، حل المشكلات، واتخاذ القرارات. ويمكن تقسيم الذكاء الاصطناعي إلى نوعين رئيسين:
1. الذكاء الاصطناعي المحدود: وهو نوع من الذكاء الاصطناعي مصمم لأداء مهام محددة، مثل التعرف على الصور أو معالجة اللغة الطبيعية.
2. الذكاء الاصطناعي العام: وهو نوع من الذكاء الاصطناعي الذي يمتلك القدرة على فهم وتعلم أي مهمة عقلية يقوم بها البشر، ولا يزال هذا النوع في طور البحث والتطوير.
تشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التعلم الآلي، معالجة اللغة الطبيعية، الرؤية الحاسوبية، وغيرها.
وعلى الرغم من الفوائد العديدة للذكاء الاصطناعي، إلا أنه يواجه أيضًا بعض التحديات مثل مشكلات الخصوصية والأخلاقيات، بالإضافة إلى مخاوف بشأن استبدال الوظائف، فمن المهم التوازن في النظر إلى هذه التقنية، حيث إنها تقدم فرصًا جديدة، تتطلب أيضاً تأمين إستراتيجيات للحد من المخاطر المحتملة.
ما زال الذكاء الاصطناعي في تقدم هائل؛ فمنذ بدايته قبل سنوات مضت، بدأ يكبر ويتطور في كل عام. وهو الآن في مرحلة النمو، لكن الخدمات التي يقدمها تدهش العقول. فقد فاق البشر في جمع المعلومات وصناعة المنتجات، وبدأ يحاكيهم ليصبح مستشارًا لهم. ورغم أنه لا يزال في مرحلة النمو، إلا أن تصور ما سيحدث عندما يصل إلى مرحلة النضج يثير الدهشة.
في تجربتي مع أحد برامج الذكاء الاصطناعي، ما زلت مدهوشاً من النتائج التي حققتها. عندما استخدمته لتصفح العديد من القضايا المهمة وطرح الاستفسارات، شعرت كما لو أنني أتشاور مع مستشاري الشخصي. وكانت إجاباته غالبًا لا تتعدى 15 ثانية، حيث يقدم لي مستخلصًا من المعرفة والتوجيه. على سبيل المثال، استشرته في تحاليل طبية، وقدّم لي الاستشارة، كما استفسرت عن بعض النتائج فقدم لي الإرشادات اللازمة، وكذلك استفسرت عن صور الأشعة السينية، وحصلت على إرشادات في هذا الأمر. وبصراحة شديدة، وقفت حائرًا أمام ذلك “المستشار” الذي يعرف كل شيء ويوفر لي ما توصل إليه البشر من معارف. سبحان الله الذي وسع علمه كل شيء وسخر لنا هذه الأداة.
في السنوات العشر القادمة، سوف تتغير الحياة إذا استمر التقدم في الذكاء الاصطناعي، حيث إنه سيدخل في جميع العلوم وسيُسهّل على البشرية الكثير من الأمور. وسوف يُختصر الوقت في الأبحاث، والمساعدة في اكتشاف العلوم، وسيدخل الجامعات ليذلل الصعوبات.
يواجه الذكاء الاصطناعي تحديات مع الجيل القديم المتعلم الذي يعده عائقًا للعلم والتعلم، لكنه يجد قبولًا وترحيبًا من الجيل الجديد الذي يراهن على نجاحه ويخلق فرصًا جديدة. سيكون هذا الصراع بمثابة نهاية كما انتهت تحديات أخرى في أزمنة مضت، وسيخرج لنا جيل جديد يتعامل مع الذكاء الاصطناعي باحترافية؛ فهذا استشراف للمستقبل.
سيأتي وقت تُجرى فيه عمليات طبية كاملة عبر الذكاء الاصطناعي، بل وقد تُجرى عمليات طبية من استشاريين متخصصين وهم في بلدانهم، بينما تُجرى العملية في بلد آخر عبر الذكاء الاصطناعي، فلا حاجة إلى السفر. وكل ذلك بإذن الله وتوفيقه، الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
وفي الختام، أدعو كل فرد في وطننا الغالي، المملكة العربية السعودية، إلى الدخول في هذا العلم واستخدامه الاستخدام الأمثل. فبرامج الذكاء الاصطناعي كثيرة، ومستخدموها سيُخلق لهم فرص وظيفية جديدة، وستزداد لديهم المعرفة ويتسع فكرهم وتنمو مهاراتهم، فنصيحتي للقادة أصحاب الهمم والطموح: تعلموا برامج الذكاء الاصطناعي ودربوا مديري مكاتبكم على ذلك، سوف تختصرون الكثير وتكونون سابقين لغيركم وتحمدون العاقبة.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي.. وصياغة التاريخ الموازي
منذُ أن بَزغَ فجرُ الخوارزميّات الذكيّة القادرة على إنتاج اللغة والصورة والمرئيات بقدراتٍ تُحاكي مخيّلة الدماغ البشريّ، انفتحتْ لنا نافذةٌ غير مسبوقة على ما يمكن أن نسمّيه «مجرَّة الاحتمالات التاريخيّة» الذي نقصد به الفضاء اللامتناهي من السيناريوهات التي لم تقع، ولكنها -لو وقعَتْ- لكان بوسعها أن تُبدِّل من مسار الحضارات الإنسانية وصورتها، ولعلّ ما نطلق عليه بـ«التاريخ الموازي» أو بـ«التاريخ المضاد» (Counterfactual History) يثير شغفنا باعتباره حقلًا نظريًّا ينشطُ حِينًا ويخبو أحايينَ؛ فيستهوي بعضَ المؤرِّخين والفلاسفة عبر طرح أسئلة تخالف أبجديات التاريخ وقواعده الثابتة، مثل: ماذا لو لم يُقتل يوليوس قيصر؟ ماذا لو انتصر العربُ في بلاط الشهداء؟ ماذا لو أُجهِضت الثورةُ الصناعيّة في مهدها؟ ماذا لو انتصر العربُ في حرب 1967 أو قبلها في حرب 1948؟ بيدَ أنّ هذه التساؤلات ـ قبل ظهور الذكاء الاصطناعي ـ كانت تنتمي إلى ضربٍ من العبث العقلي أو التأمّل الفلسفي غير الخاضع للقياسات المنطقية؛ إذ يفتقر الباحثُ إلى أدواتٍ تجريبية تمنحه القدرة على إخضاع مثل تلك الفروض لاختبارٍ شبه علمي.
لكننا اليوم، ومع تطوّر نماذج المحاكاة القائمة على خوارزميات التعلّم العميق والشبكات العصبيّة، أضحى بإمكاننا أن نزوّد هذه الخوارزميات الذكيّة بمكتباتٍ ضخمة من الوقائع، والمعطيات الاقتصاديّة، والديموغرافيّة، ونُطلقها لتُنجِزَ ملايينَ المحاكاة التي تتعقّبُ التغيّر البنيويّ لحدثٍ واحدٍ إذا انحرفَ عن مساره قيدَ أنملة؛ ليغدو الذكاءُ الاصطناعي أداةَ «إحياء» لا للتاريخ كما كان، ولكن للتواريخ الممكنة التي لم تكن؛ فيمدّنا بسرديّاتٍ بديلة تُظهِر مآلاتٍ تقترن بزمنٍ متخيَّل، ولكنها مُرتكَزةٌ علميًّا على نماذج سببيّة واحتمالات دقيقة. من المعلوم أن المؤرِّخَ التقليديّ يعتمد على الوثائق والشهادات والآثار المادّيّة، وبمعنى عام، يكون اعتماده على ما تبقّى من الأثر في الزمن، ولكنّ الخوارزميّات تُضيفُ إلى هذا الثالوث بُعدًا رابعًا، سنطلق عليه «الاحتمال المُحاكَى»؛ لتُرَكِّب بُنيانًا من البيّنات وتنسج خريطة علاقات سببيّة، ثمّ تُعطى حرّيّة تعديل عقدةٍ واحدة من عقد هذه الشبكة لترى كيف سيُعاد ترتيب الأنماط؛ فإذا أبدلنا نتيجةَ معركةٍ حاسمة أو قُيِّض لقائدٍ ما أن ينجو من الاغتيال؛ تدحرجت التأثيراتُ كسلسلة «دومينو» في نموذج رياضيّ يمكن تتبّعه عدديًّا وصُوَريًّا.
لا أستبعد أن يقول قائلٌ: أليست هذه مُغالاة في الثقة بقدرة الآلة -الذكاء الاصطناعي- في إعادتها لصياغة الأحداث ومساراتها المستقبلية؟ بلى، ويبقى الحذرُ واجبًا؛ فلا يملك الذكاء الاصطناعي معرفةً واعيةً بالماضي، وإنما يتوقّع تركيب الأنماط ويعيد تصميمها وفقًا لما لُقِّنَ من بيانات. غير أنّ قيمته الحقيقية لا تكمن في المطابقة القطعيّة ولا في النبوءة الغيبيّة، ولكن في أنّه يوفّر لنا «مِرآةً مُفترَضة» نعكس عليها تصوّراتنا؛ فنقارن بينها وبين الوقائع الحقيقيّة؛ لنفهمَ بشكل أعمق قانونَ الصدفة والضرورة في التاريخ.
تفترض التصوراتُ العقلية أنه حين تُمنح المجتمعاتُ الإنسانية فرصةَ الاطّلاعِ على سرديّات بديلة وفق المحاكاة العلمية؛ فإن بنيةَ الوعي تتغيّر وفقَ عدة سُبل، وأول هذه السبل أن ينكسر وَهْمُ الحتميّة التاريخيّة؛ إذ يدرك الفرد الإنساني أنّ المسارات الكبرى ليست قدَرًا محتومًا، وإنما حصيلةُ قراراتٍ بشريّة قابلةٍ لأن تُسلكَ أو تُستبدَل وتتفاعل مع قانون السببية والاحتمالات الكونية المتعددة، ويُحرّر مثل هذا الإدراك طاقاتٍ سياسيّة جديدة، لأنّ الفرد يرى في الحاضر مفصلًا مفتوحًا، لا ذيْلًا مقطوعًا من ماضٍ مكتوبٍ على حجر. ثاني هذا السبل أن تُسهم هذه «الواقعات المضادّة» في توسيع مخيّلة «المظلوميّات التاريخيّة»؛ فيمكن للشعوب التي تعرّضت للاستعمار أو الإبادة أن تجد ـ عبر المحاكاة ـ صورًا من التاريخ النزيه الذي حرمها إيّاه المنتصرون «المعتدون»، ولا يعني ذلك استبدال الماضي بحلم منزوع الواقعية، وإنما يكون عن طريق توزيع حسّ العدالة الرمزيّة؛ ليُعطي الضحيّةَ أفقًا روحيًّا للتعافي الجمعيّ. ثالث هذه السبل، نراه فيما يخص حقل علوم السلوك السياسيّ؛ حيثُ توفّر هذه النماذج مختبرًا افتراضيًّا لاختبار السياسات قبل تطبيقها؛ فيمكن لمحاكاةٍ مستندةٍ إلى تاريخٍٍ بديلٍ أن تكشفَ مخاطرَ أو فرصًا ما كانت لتظهر بالتنبّؤ الاستنباطيّ وحده.
يُعيدنا هذا كلّه إلى سؤالٍ جوهري: ما مفهومنا للتاريخ؟ هل هو تسلسلُ ضروراتٍ تحدّدها بنيةُ الأنظمة الاقتصاديّة والطبيعيّة؟ أم أنّه رقصة الاحتمالات حول محورٍ من القرارات الإنسانيّة الحرّة؟ لا أملك إجابات حتمية لهذه الأسئلة، ولكن جلَّ ما أدركُه أنّ الذكاءَ الاصطناعي ذو قدرةٍ على تمثيل آلاف الشُعَب الزمنيّة؛ ليوغل بنا في رؤيةٍ «كوسمولوجيّة»، حيثُ يتجاور الماضي الواقعيّ مع أطيافٍ لا تُعدّ من الأزمنة المحتملة، وتصبح سلسلة الوقائع أشبهَ بمتعدِّدٍ «طوبولوجيّ»، لا خطًّا مستقيمًا. هنا يلتقي العلمُ بالرياضيات الإحصائيّة مع الفلسفة القاريّة في نقدها لفكرة «التقدّم الخطيّ»، ويلتقي أيضًا مع قواعد الفيزياء الكوانتمية التي ترى الواقعَ «دالة موجيّة» تتقلّص إلى حدثٍ واحدٍ يعكس الوجود اللحظي الذي نعيش فيه؛ فالاحتمالات وفقَ النظام الكوانتمي متعددة ولها عوالمها الموازية التي تشمل ما نسميّه بالتاريخ الموازي.
في حالة مغايرة تستدعي يقظة وعينا، نجد أنّ فتح بوّابة «التواريخ البديلة» ليس فعلًا عادلا محضا؛ فيمكن لبعض الأنظمة السياسيّة أو الاقتصاديّة أن توظّفها لصنع سرديّات ترويجيّة تتلّبس بلباس العلم؛ فتختار المعطيات وتُعيد وزنها لتصيغ مستقبلًا مرغوبًا؛ فتدّعي أنّه المسار «الأكثر ترجيحًا»؛ فتتقاطع -حينها- المحاكاة مع تصورات الرأي العام، وتصبح الخطورةُ كامنةً في قدرة الخوارزميّة على إنتاج قصصٍ «مقنِعةٍ» بصريًّا ولسانيًّا تؤثّر في اللاوعي الجمعيّ أكثرَ من الخُطب والشعارات، وحينها يتطلب الأمر صياغة مواثيق أخلاقيّة تُنظّم استعمال هذه التقنيات؛ لتوثّقَ مصادرَ البيانات، وتُعلن افتراضات النموذج، وتمنح الباحثين تدقيق التصوّر الخوارزمي للمسار التاريخي ونموذجه المستوحى والمُحاكَى؛ لنتجنب عدم تحوّل المحاكاة من مختبرٍ معرفيّ إلى «مصنع أوهام» تخدم مصالح مجتمعات على حساب مجتمعات أخرى.
لابد أن نقرَّ أن الإنسان -بإرادته وتفوّقه العلمي- منح الذكاءَ الاصطناعي قدرةً غير مسبوقة على تفكيك الزمن وإعادة ترتيبه وفقَ رغبات الإنسان نفسه، لا لنهرب من الماضي، ولكن لنعيد تأويله ونكشف هشاشته، ولهذا من العدالة أن نتصور أنّ إحياء الواقعات المضادة ليس تمرينًا سرديًّا فحسب؛ ولكنّه مشروعٌ معرفيٌّ يعيد الإنسانَ إلى مركز الفعل التاريخيّ بعد أن ظنّ أنّه أسيرُ قَدَرٍ اقتصادي أو سياسي أو جينيّ، وإذا كانت الفلسفة ـ كما يقول الفيلسوف الألماني هوسرل ـ «علم البدايات المطلقة»؛ فإنّ هذه التقنية يمكن أن تمنحنا بدايةً جديدةً للتفكير في التاريخ: لا باعتبارها تراكم ما حدث، ولكن باعتبارها فضاء لما كان يمكن أن يحدث، ولا يزال بعضُه ممكنًا في مستقبلٍ لم يحن موعده بعد. هكذا، حين نجعل من الخيال المُحاكَى مختبرًا للعقل؛ فإننا نستعيد القدرةَ على السؤال، ونوسّع مساحةَ الحريّةِ العقلية ومخيّلته، ونمنح الأجيالَ القادمة وعيًا أكثر مرونةً واستعدادًا لكتابة فصولٍ أقلّ بؤسًا؛ فالذكاء الاصطناعيُّ، إن حَسُن استعماله؛ فإنه يُعيدنا إلى تلك اللحظة «البروميثيوسيّة» الأولى حين سرق الإنسانُ الأول النارَ من الآلهة -وفقَ خيالات الأدب الأسطوري القديم-؛ ولكنّ نارَ الاحتمالات -كما في معرض مقالنا وفرضياته المذكورة- لا تحرق، وإنما تُضيء ممرات التاريخ المظلمة؛ فترشدنا إلى دروبٍ ما كانت لتُعرفَ لولا رياضيات الخيال الخوارزميّ وملاحمه التاريخية القابلة لإعادة أحداثها ومساراتها.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني