خمسة عوامل تؤثر في مستقبل مجتمعاتنا
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
عصب المجتمعات هو تحقيق النمو المتوازن، وهي الحالة التي تستطيع من خلالها السياسات الاجتماعية تحقيق أربعة معطيات أساسية: الأول تحقيق التوزيع العادل للموارد والثروة، والثاني: تحسين وتمكين الوصول العادل للخدمات الأساسية بكفاءة، والثالث: تحقيق الإدماج الاجتماعي الكامل والفعال، والرابع: جعل المجتمع مشاركًا فـي التنمية ومستفـيدًا منها على حد سواء.
اليوم تواجه السياسات الاجتماعية فـي العالم مآزق شتى، وهذه المآزق ناتجة عن حركة الدول والمجتمعات عمومًا، ومن تلك المآزق صراعها مع السياسة الاقتصادية، ومأزق التوزيع غير العادل للثروات، ومأزق تأثير الاتجاهات الثقافـية والإعلامية الناشئة على توجيه مقاصد السياسة الاجتماعية، كما تعيش مأزقًا نوعيًا منشأه تآكل دور المؤسسات الاجتماعية الفعال فـي تحقيق مقاصد السياسة الاجتماعية، وتعيش صراعًا حول دور المكونات الرئيسية للسياسة الاجتماعية وأثره فـي تمكينها وأهم تلك المكونات عنصر التعليم والتعلم والاكتساب، ومن المآزق التي تعيشها السياسات الاجتماعية اليوم هو عدم قدرتها على السيطرة على حاجيات الفئات الأكثر احتياجًا نتيجة توسع تلك الفئات بسبب عدم كفاءة السياسات الاقتصادية، ومن المآزق كذلك تحول السياسة الاجتماعية لمجرد (كارت) سياسي فـي أوقات الانتخابات والمناسبات السياسية دون وجود أجندة حقيقة تضطلع بتحقيق مقاصد تلك السياسة أو أجندتها.
على مستوى مجتمعاتنا يرتهن مستقبل السياسة الاجتماعية بكفاءة خمسة عوامل أساسية: التعليم ودوره فـي السياسة الاجتماعية، وكفاءة نظم الحماية والأمان الاجتماعية، وكفاءة النظم الثقافـية ودور المؤسسات الثقافـية، وتمكين وإدماج الشباب، ودور الاقتصاد فـي تحقيق مقاصد السياسة الاجتماعية. فإذا ما تناولنا التعليم اليوم كأحد هذه العوامل فإن الأدوار التي يلعبها التعليم فـي قلب السياسة الاجتماعية تتعدى كونه صانعًا للكفاءات المهنية وناقلًا للمعارف، فالتعليم أداة فاعلة لتقليل فجوات الدخل بين الأفراد والأسر، وهو ناقل للتركيبة الثقافـية للمجتمع بقيمها وعاداتها ومبادئها، وهو مساهم فـي تحسين قدرة الأفراد فـي الوصول لأدوات التنمية المختلفة، وعنصر رئيس فـي تحقيق الحد الأدنى من المستوى المعيشي اللائق للأفراد المتعلمين وأسرهم، و«تشير منظمة اليونسكو إلى أن كل سنة إضافـية فـي التعليم الثانوي يمكن» أن تزيد دخل الفرد بنسبة تتراوح بين 10% إلى 20% فـي بعض الدول النامية.
أما العامل الثاني وهو عامل كفاءة نظم الحماية والأمان الاجتماعية، فوجود منظومات كفؤة وعادلة للحماية الاجتماعية، وقادرة على استهداف دورة الحياة للفئات الأكثر احتياجًا، وموجهة بشكل واضح ومباشر للاستثمار المبكر فـي جودة الحياة والتقليل من مخاطر دورة الحياة يضمن أن يكون للمجتمع قاعدة مناسبة للحد من المخاطر الاجتماعية المحتملة، أو تأثير تلك المخاطر على السياسات العامة الأخرى، كما أن ما يصنعه المجتمع فـي حركته وتفاعل أفراده من نظم للأمان الاجتماعي والتكافل غير الرسمي يسند تلك القاعدة من ناحية، ويقوي البعد الرمزي فـي العلاقات والتفاعل الاجتماعي من ناحية أخرى. أما العامل الثالث والمرتبط بالنظم الثقافـية فـيؤثر بشكل كبير فـي ثلاث جوانب أساسية: كفاءة نقل القيم بوصفها ضابطًا لحركة المجتمع، والحد من تأثير الاتجاهات الثقافـية الناشئة على استقرار وحيوية المجتمع، وفتح مساحة للحوار الجاد والفاعل حول قضايا المجتمع. إن وجود نظم ومؤسسات ثقافـية فاعلة من شأنه الحفاظ على بعض مكونات النسيج الثقافـي للمجتمع، فـي وقت يتصاعد فـيه دور الفاعلين الثقافـيين غير الرسميين عبر الحدود، عبر نشر قيم واتجاهات جديدة وغمر المجتمعات بها دون مساءلة، وفقًا للدراسات والتحليلات التي تقدمها Gallup حول حالة القيم العالمية فإنها «تشير إلى أن المجتمعات التي تعاني من تغييرات سريعة فـي القيم والثقافات تكون أكثر عرضة للنزاعات الاجتماعية والسياسية».
أما تمكين وإدماج الشباب فـيعني صنع سياسات اجتماعية تتوافق مع اتجاهاتهم وتلبي تفضيلاتهم وتوقعاتهم وتتسق مع نموهم فـي قلب الهرم السكاني كوحدة ديموغرافـية وتنموية لها استحقاقاتها ومتطلباتها، فكلما كانت المجتمعات أكثر استيعابًا لفعل شبابها، وكلما كانت السياسات أكثر إدماجًا لمنظوراتهم ساهم ذلك فـي خلق نوع من الانسجام والتوازن الاجتماعي لكافة مكونات المجتمع. ويبقى العامل الأخير المتصل بدور الاقتصاد فـي تحقيق العدالة الاجتماعية، فاليوم لا يمكن بحال فصل السياسات الاقتصادية عن السياسات الاجتماعية، فكلما كانت السياسات الاقتصادية والتنموية موجهة لتعزيز الخدمات العامة، وتحقيق الاستثمار الأمثل فـي العنصر البشري، وإيصال التنمية مكانيًا وقطاعيًا بشكل عادل، وتحسين جودة الحياة ورفاه المجتمع كلما كان المجتمعات أكثر اتزانًا وكلما تقلصت الفوارق الاجتماعية التي يمكن أن تكون مصدرًا لعدم التوازن الاجتماعي. إن النظر إلى تلك العوامل يقتضي اليوم دراسات تقييمية وتفصيلية لقناعتنا بأن مستقبل مجتمعاتنا إنما مرهون بفعل تلك العوامل، وكلما كانت تلك العوامل تتحرك فـي إطار تكاملي كلما كان ذلك ضامنًا لنمو اجتماعي متوازن، ولمجتمعات مستقرة وعادلة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیاسات الاجتماعیة السیاسة الاجتماعیة فـی تحقیق
إقرأ أيضاً:
تأملات في الصمت العربي والهتاف الغربي لغزة
هل تُفسَّر مظاهر الاحتجاج فـي المجتمعات الأوروبية بوصفها نتيجة حتمية لسياق ثقافـي مدني راسخ؟
يُطرح هذا السؤال فـي ظل المشهد المأساوي الذي انزلقت إليه غزة تحت حرب إبادة لا ترحم، ولا تلوح لها نهاية فـي الأفق. ومنذ السابع من أكتوبر، لم تكتف المجتمعات الأوروبية بالمراقبة أو الصمت، بل بادرت إلى فعل احتجاجي تفاوت فـي شدّته لكنه يعكس فـي جوهره مفارقة إنسانية: الغريب يحتج، فـيما القريب يكتفـي بالشجب أو يلوذ بالصمت.
هذه المفارقة لا يمكن قراءتها فقط من زاوية السياسة أو الإعلام، بل تستدعي تفكيكا أعمق فـي البنى السوسيوثقافـية التي تشكّل علاقة الأفراد بالعدالة، وبالحرية، وبالمسؤولية الأخلاقية فـي الفضاء العام. فهل كان المثقف العربي عاجزا؟ أم مأخوذا بحدود الممكن فـي مجتمعات لم تتعود بعد على ثقافة الفعل الاحتجاجي كحق وكواجب؟
فـي مشهدٍ مقلق من المفارقة الإنسانية، تنبثق فـي عواصم أوروبا احتجاجات سلمية حاشدة دفاعا عن الحق الفلسطيني، بينما تتخذ معظم المجتمعات العربية والإسلامية موقف المتفرج الصامت أو العاجز. هذه الاحتجاجات لا تقتصر على النخب السياسية أو الدوائر اليسارية، بل تشمل طلابا ومواطنين عاديين يرون فـي دعمهم لفلسطين التزاما أخلاقيا وحقوقيا، يتجاوز حدود الجغرافـيا والدين. فـي المقابل، يندر أن نشهد هذا الشكل من الفعل الجماعي فـي المدن العربية، حيث الغضب متراكم، لكن سُبُل التعبير عنه مشلولة أو مؤجلة. هذا التفاوت فـي الاستجابة يدفع إلى تساؤل جوهري: هل المشكلة فـي الإرادة؟ أم فـي البنية العميقة للثقافة الاجتماعية والسياسية فـي العالم العربي؟ هنا يأتي دور التحليل السوسيوثقافـي لتفكيك هذه المفارقة.
بين الحضور والغياب
ترتكز المجتمعات الأوروبية على إرث طويل من الاحتجاج المدني والمشاركة السياسية. التظاهر، بالنسبة للمواطن الأوروبي، ليس عملا مُعيبا أو مخاطرة، بل هو ممارسة ديمقراطية مشروعة، بل واجبة فـي بعض الأحيان. الطالب الجامعي الذي يرفع لافتة «الحرية لفلسطين» فـي باريس، أو العامل الذي يشارك فـي مسيرة تضامن فـي برلين، يفعل ذلك فـي إطار ثقافة عامة تعزز الحرية السياسية والتضامن الكوني. فـي المقابل، نشأت المجتمعات العربية فـي ظل أنظمة شمولية أو أبوية تُضيق على الحريات العامة، وتربط بين الاحتجاج والفتنة أو التمرد. وهكذا ترسخت فـي اللاوعي الجمعي نظرة سلبية إلى الفعل الاحتجاجي، مقرونة بالخوف من العقاب أو الاتهام. كما أسهم غياب التربية المدنية وغياب النقابات الفاعلة فـي ضعف الحس بالمواطنة النشطة.
إشكالية الانتماء
تتشكل الهُوية فـي المجتمعات العربية غالبا من خلال انتماءات فوق وطنية أو تحت وطنية، مثل الطائفة، العشيرة، أو الجماعة الدينية. وهذا يجعل من التضامن فعلا انتقائيا، محكوما بمنطق القرب أو التشابه. أما فـي المجتمعات الغربية، فالفردانية الأخلاقية تتيح للناس الانخراط فـي قضايا لا تمسهم مباشرة، انطلاقا من وعي كوني بالعدالة. لذلك لا يُستغرب أن يتصدر نشطاء غير مسلمين ولا عرب مشهد التنديد بالإبادة فـي غزة. أما المواطن العربي، فغالبا ما يُحاصر بسؤال: هل يحق لي الاحتجاج؟ هل سيُوَظَّف موقفـي لصالح جهة معينة؟ هذه الأسئلة تعكس أزمة ثقة عميقة فـي المجال العام، وغياب مفهوم المواطنة المسؤولة التي تتجاوز الانتماءات الضيقة.
ثقافة العجز
يمكن الحديث هنا عما يُعرف فـي علم النفس الجمعي بـالعجز المكتسب، أي الحالة التي يفقد فـيها الأفراد الشعور بقدرتهم على التغيير؛ بسبب تكرار الفشل أو القمع. وقد أسهمت العقود الطويلة من الاستبداد، والحروب، والخذلان السياسي فـي تكريس مشاعر الإحباط لدى المواطن العربي، بحيث أصبحت الاستجابة العاطفـية للقضايا الكبرى تقتصر على الدعاء أو الغضب الصامت. لا يعني ذلك أن الشعوب غير مبالية، بل أن قدرتها على الفعل قد قُيِّدَت داخليا وخارجيا. وفـي الوقت الذي تتحول فـيه الجامعات الأوروبية إلى بؤر للمقاومة الرمزية، نجد الجامعات العربية منكفئة على الذات، تخشى أي حراك يتجاوز أسوار السلطة أو المعايير الرسمية.
من الاحتجاج إلى المقاومة
ثمة مفارقة محزنة فـي أن يصبح الغريب أكثر قدرة على تمثيل صوت الضحية من القريب. ففـي الوقت الذي يهتف فـيه الأوروبيون فـي ميادينهم دعما لغزة، يخيّم الصمت على معظم العواصم العربية، باستثناء بعض المبادرات الفردية أو الخجولة. تُفسَّر هذه المفارقة أحيانا على أنها دليل على موت الضمير العربي، لكن القراءة السوسيوثقافـية تكشف أن السبب أعمق: يتعلق بغياب البنية التحتية للفعل المدني، والخوف من تسييس القضايا الحقوقية، وارتباط التضامن بالولاءات السياسية. لقد أصبحت المسافة بين المواطن العربي وقضايا أمته تزداد، ليس لانعدام الحسّ، بل لانعدام الوسائل المشروعة للتعبير عنه. ولذلك نرى صمتا معلّقا، ممتلئا بالخذلان، يعكس أزمة تمثيل أكثر من كونه دليلا على البرود.
نحو ثقافة تعبير
ما تحتاجه المجتمعات العربية ليس فقط فضاء مفتوحا، بل بناء ثقافـي طويل الأمد يعيد للمواطن شعوره بالمسؤولية الجماعية، والقدرة على الفعل. إن التضامن مع غزة ليس فعلا سياسيا فقط، بل اختبار أخلاقي لمدى جاهزية المجتمع للدفاع عن المبادئ الكونية للعدالة وحقوق الإنسان. الاحتجاجات الغربية، رغم بعدها الجغرافـي، تفضح صمتا عربيا مدويا، وتكشف هشاشة المنظومة السوسيوثقافـية التي فشلت فـي إنتاج مواطن فاعل. ولذلك، فإن الخروج من هذا الصمت لا يتم بمجرد كسر الخوف، بل ببناء منظومة جديدة تعيد للمواطن العربي ثقته بصوته، وفـي جدوى أن يهتف، لا كفعل رمزي فقط، بل كحق تأسيسي فـي أن يكون جزءا من الضمير الإنساني العالمي.
الهتاف المشروط
لكن لا بد من الاعتراف أيضا بأن الاحتجاج فـي المجتمعات الغربية ليس خاليا من التناقضات. فرغم ما تتشدق به بعض الحكومات والمؤسسات الأوروبية من قيم الديمقراطية وحرية التعبير، فإن حالات طرد أساتذة ومفكرين علمانيين ناصروا غزة أمثال: (كاثرين فرانكي- جامعة كولومبيا- التي أعلنت مؤخرا أنها «أُجبرت فعليا على التقاعد»، وأندرو روس وسونيا بوسمنتير- جامعة نيويورك؛ هما أستاذان دائمان مُنعا من دخول بعض مباني الجامعة بعد مشاركتهما فـي اعتصام داخل مكتبة الجامعة، مطالبين بالكشف عن استثمارات الجامعة فـي شركات مرتبطة بإسرائيل وإغلاق فرع الجامعة فـي تل أبيب، وبونوا هوو- جامعة تولوز أستاذ الرياضيات الذي أُوقِف عن العمل بعد أن عبّر فـي محاضرة عن رفضه للمجازر فـي غزة، واصفا ما يحدث بأنه إبادة جماعية، وانتقد صمت الغرب. سُجلت تصريحاته من قبل أحد الطلاب، مما أدى إلى اتخاذ إجراء تأديبي ضده، ونانسي فريزر- جامعة كولونيا الفـيلسوفة الأمريكية التي أُلْغِيَت دعوتها إلى تولي كرسي ألبيرتو ماغنوس فـي الجامعة، بعد توقيعها على بيان (الفلسفة من أجل فلسطين) الذي وصف إسرائيل بأنها دولة تفوّق عرقي. الجامعة بررت القرار بتعارض مواقفها مع شراكاتها مع مؤسسات إسرائيلية) هذه الحالات تكشف أن هذه الحريات مشروطة بما لا يُحرج المنظومة السياسية، أو يمسّ الثوابت الإستراتيجية للغرب! وما قرار ترامب الأخير بخصوص جامعة هارفارد سوى مثال صارخ على قابلية المؤسسات الليبرالية ذاتها لاستخدام أدوات الدولة لقمع المختلف، حين يتعلق الأمر بفلسطين. وبذلك، فإن المفارقة تتعقد؛ فحتى الغريب الذي يهتف، قد يُسكت إذا تجاوز الخط الأحمر غير المُعلن.